الحمّاني العلوي شاعر من سلالة الهاشميين

الحمّاني العلوي شاعر من سلالة الهاشميين

 

 

الحمّاني العلوي شاعر من سلالة الهاشميين

 

حيدر محلاّتي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ساهمت الكلمة الشعرية وعبر تاريخها المديد مساهمة فعّالة في بناء الحضارة الانسانية وخاصّةً في توطيد دعائم الثقافة ونشر العلوم والمعارف.

 

وقد تبلورت هذه المشاركة بأوضح أشكالها عندما سلكت الكلمة الشاعرة مسلكاً هادفاً جسّدت فيه معناة مقصودة ـ فردية كانت أم اجتماعية ـ صادرة عن مفهوم عقائدي قويم.

 

حينئذٍ وجدت الكلمة محلّها من الحياة وهي تخرج من سذاجتها الفطرية ومن اطارها العاطفي الضيّق والمشحون بالمشاعر الغريزية إلى عالم يصبو إلى توظيف النتاج الفكري والابداع الفني لصالح المبادىء الانسانية والقيم البشرية الرفيعة.

 

ويبقى الشاعر وبكونه المبدع والمنتج للكلمة الشاعرة عنصراً فاعلاً في الكيان الثقافي للمجتمع وأداة حيّة تسعى جاهدة إلى تحقيق الأهداف الانسانية السامية من خلال العمل الأدبي المتّسم بالتزامات عقائدية واجتماعية على حد سواء.

 

ومن الطبيعي أن يتجسّد الالتزام العقائدي ـ بكل مفاهيمه ومصاديقه ـ في الشعر الديني وخاصّةً الشعر الولائي الّذي اتخذ من مبادىء الرسالة المحمّدية والقيم السامية لتعاليم أهل البيت(عليهم السلام) مادة غنيّة يستمد منها مفاهيم انسانية رفيعة ومعان شعرية خالدة تبقى على مرّ العصور والأيّام.

 

ولتميّز الشعر بالتأثير المباشر في نفس السامع والمتلقي، وقابليته الفنية في اختصار المعنى وايصال المطلوب باسلوب آسر وأخّاذ، أصبح ـ وفي العصور المتقدّمة خاصّةـ الوسيلة الإعلامية المثلى التي من خلالها يستطيع الشاعر أن يعبّر عن معاناته وهمومه وعن قضاياه الّتي لم تسمح السياسة بحلّها عن طريق العمل السياسي والتحرّك الإصلاحي البنّاء.

 

ومن اولئك الشعراء الّذين حملوا راية الإعلام الرسالي عالية خفّاقة بكل ما تنطوي عليها من مخاطر ومحن ومخاوف وتضحيات، الشاعر الحمّاني([1])، علي ابن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

 

قال عنه المسعودي المؤرخ وهو يتحدّث عن الهاشميين في الكوفة: «كان علي بن محمد الحمّاني نقيبهم بالكوفة وشاعرهم ومدرّسهم ولسانهم ، ولم يكن أحد بالكوفة من آل علي بن أبي طالب(عليه السلام)يتقدّمه في ذلك الوقت»([2]).

 

نشأ الشاعر في بيت قديم العهد بالشعر والأدب. فقد كان يقول: «أنا شاعر وأبي شاعر وجدّي شاعر إلى أبي طالب([3]).

 

ولم يكن الحمّانى بقوله هذا مبالغاً ومحض مدّع، ففصاحة اللسان وبلاغة البيان عريقة الاصول عميقة الجذور في بني هاشم. وها هو أمير البيان علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: «وانّا لأمراء الكلام، وفينا تنشّبت عروقه، وعلينا تهدّلت غصونه»([4]).

 

امّا عن مسقط رأس الشاعر وتاريخ ولادته ووفاته فقد أغفل المؤرخون ذلك إلّا أنّ القرآئن والشواهد ترجّح بأن يكون الشاعر ولد في الكوفة ما بين العقدين الثاني والثالث من المئة الثالثة للهجرة، وتوفي فيها سنة 301 هـ([5]).

 

وبالنسبة إلى شعره الّذي وصل الينا فقد تنوعت أغراضه وتعددت مواضيعه إلّا أنّ أهمها ينحصر في الشكوى والفخر والغزل والسياسة والعقيدة([6]).

 

ويغلب استعمال الغرضين الأخيرين على سائر أغراض شعره.

 

ويتضح من خلال مطالعة شعره المجموع اهتمام الشاعر بأنواع البديع واكثاره من استعمال التضمين لأبيات مشهورة والاقتباس من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.

 

وما يهمّنا في هذا المقال هو اكتشاف منهجية الشاعر في نظمه للشعر العقائدي وخاصّة شعره في أهل البيت(عليهم السلام) حيث يشغل مساحة واسعة من ديوانه.

 

مرّ آنفاً أنّ الشاعر كان نقيب الهاشميين في الكوفة وبحكم هذا الموقع كان محتماً على الشاعر أن يبيّن أحقية أهل البيت(عليهم السلام)في قيادة الامة بعد الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)ومواصلة طريق الحق الّذي نهجه(صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل توعية الامة

وهدايتها إلى الكمال المنشود، إلى جانب الإشادة بتعاليمهم(عليهم السلام)وفضائلهم و مناقبهم والابانة عن مواقفهم الخالدة بغية الاعتبار والتطبيق العملي لها في شؤون الحياة كافة.

 

والمطالع لديوان الحمّاني يقف عند بدائع وروائع من الشعر الولائي الّذي كرّسه الشاعر لذلك الغرض المقدس حيث يعد وبحق التزاماً دينياً وعقائدياً لم يحد عنه الشاعر طوال مسيرته الفكرية والاجتماعية بالرغم من تحديات العصر وضغوط الاجهزة الظالمة.

 

وتستوقفنا محاور رئيسية لدى استعراضنا قصائد الحمّاني الولائية نستطيع أن نعدّها أُسُساً عامّة لمنهجية الشاعر في نظمه لهذا اللون من الشعر. ولابد من الاشارة إلى أنّ هذه المحاور استخلصناها من مجموع شعره المتوفّر لدينا حالياً وهو بطبيعة الحال ليس جميع شعره. أمّا السمات البارزة في شعر الحمّاني الولائي فهي كالآتي:

 

1 ـ الاستدلال بالآيات القرآنية الكريمة لتبيين أفضلية أهل البيت(عليهم السلام) وبيان حقهم المشروع في الخلافة وولاية الأمر بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

 

يعدّ موضوع قيادة الامّة الاسلامية بعد الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) من المواضيع المهمّة الّتي كثر النقاش حولها واحتدم الخلاف فيها منذ وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى يومنا هذا. ولا شك أنّ هذا الموضوع كان على بساط البحث في عصر الشاعر الحمّاني وخاصة وأنّ الشاعر كان على رأس نقابة الهاشميين في الكوفة. فكان طبيعياً أن يحظى هذا الموضوع بأهمية خاصة من قبل الشاعر وينعكس بشكل واسع وكبير على شعره([7]).

 

وقد تعرّض الشاعر إلى هذا الموضوع في مواضع مختلفة من شعره مستدلاً بالآيات القرآنية الكريمة على أحقية أهل البيت (عليهم السلام) في خلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، منها قوله:

 

وانّ بكم يا آل أحمد أشرقت وجوه قريش لا بوجه من الفخر *** وإنّ بكم يا آل أحمد آمنت قريش بأيام المواقف والحشر

 

بأمركم يا آل أحمد أصبحت قريش ولاة الامر دون ذوي الذكر *** إذا ما أناخت في ظلال بيوتها أنختم ببيت الطهر في محكم الذّكر

 

وفي البيت الأخير اشارة واضحة إلى قوله تعالى:(إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)([8]).

وقد وردت أحاديث متواترة من مصادر الفريقين تدل على أنّ هذه الآية نزلت في الخمسة من أصحاب الكساء وهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) وقد صرّح بذلك عدد كبير من المفسرين في تفسيرهم لهذه الآية الشريفة.

 

أذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر ما أورده أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي في تفسيره من طرق الفريقين حيث قال: وقد اتفقت الامة بأجمعها على أنّ المراد بأهل البيت في الآية أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)... ذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدثني شهر بن حوشب، عن ام سلمة قالت: جاءت فاطمة(عليها السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمل حريرة لها، فقال:ادعي زوجك وابنيك. فجاءت بهم، فطعموا، ثم القى عليهم كساءً له خيبرياً فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيراً» فقلت: يا رسول الله! وأنا معهم؟ قال: أنت إلى خير.

 

وروى الثعلبي في تفسيره أيضاً بالإسناد عن ام سلمة أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في بيتها، فأتته فاطمة(عليها السلام)ببرمة فيها حريرة، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك. فذكرت الحديث نحو ذلك. ثم قالت: فأنزل الله تعالى (انما يريد الله) الآية. قالت: فأخذ فضل الكساء، فغشّاهم به، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، وحامتي، فاذهب عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيراً» فأدخلت رأسي البيت، وقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير، إنّك إلى خير([9]).

 

ومن جملة الآيات القرآنية الاخرى الّتي استدل بها الشاعر الحمّاني في شعره آية الخمس من قوله تعالى: (واعلموا انّما غنمتم من شيء فانّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كلّ شيء قدير) ([10]).

 

وقد أشار الشاعر إلى هذه الآية في قوله:

 

اناس هم عدل القرآن ومألف الـ بيان وأصحاب الحكومة في بدر

 

ومازهم الجبار منهم بخلّة يراها ذوو الأقدار ناهية الفخر

 

فأعطاهم الخمس الّذي فضّلوا به بآية ذي القربى على العسر واليسر

 

والمراد بذي القربى كما ورد في الأحاديث الشريفة وكذلك في تفسير آية([11]).

 

الخمس وتفسير آية المودة من قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودة في القربى) ([12])، هم علي وفاطمة، والحسن والحسين(عليهم السلام). وقد نوّه الحمّاني إلى آية المودة بقوله:

 

يا آل احمد الذين بحبّهم حكم الكتاب منزّلاً تنزيلا ([13]).

 

وقد وردت أحاديث كثيرة في بيان مصاديق القربى وذويه نشير إلى بعض ما ورد في كتب أهل السنة، لأنّ المصادر الشيعية تعج بالأحاديث المتواترة والصحيحة في هذا الشأن.

 

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال لما نزلت: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودة في القربى)، قالوا: يا رسول الله ومن قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودتهم. قال: علي وفاطمة وابناهما([14]).

 

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنّه سئل عن قوله (إلّا المودة في القربى)فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ([15]).

 

ولابد من الاشارة هنا إلى أنّنا لا نريد في هذا المقال ألاطالة من ذكر مصادر عدة للحديث الواحد، بل نكتفي بالاشارة إلى مصدر أو مصدرين للتوثيق فقط. وكما مرّ قبل قليل أنّ أغلب الأحاديث المنقولة في هذا المقال مرجعها كتب أهل السنة لكونها حجة لهم وأنّها من الأحاديث الصحيحة والمشهورة عند الفريقين حيث اعتمدها الشاعر في قصائده الولائية دون أن يقتصر على الأحاديث الواردة في كتب الشيعة فقط. وهذه الطريقة هي الطريقة المثلى التي تبناها الشاعر في استدلاله النقلي حيث الحياد والموضوعية من أهم سماتها البارزة.

 

ونعود إلى موضوع استدلال الشاعر بالآيات الشريفة ذات الصلة بأهل البيت(عليهم السلام)حيث تطرق إلى آية الانذار من قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) ([16]).

 

وفيها قال الشاعر:

 

وقال: وأنذر أقربيك فخلّصت بنو هاشم قرباه دون بني فهر

وفي خصوص آية الانذار ورد في الأخبار أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بني عبد المطلب في دار أبي طالب فأطعمهم وسقاهم ومن ثمّ خطب فيهم قائلاً: (يا بني عبد المطّلب، انّ الله بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني اليكم خاصّة، فقال عز وجلّ: (وأنذر عشيرتك الأقربين). وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الاُمم، وتدخلون بهما الجنّة، وتنجون بهما من النار، شهادة أن لا اله إلّا الله وأنّي رسول الله، فمن يُجبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي» فلم يجب أحد منهم ([17]).

 

وثمة آية اخرى تناولها الحمّاني في شعره وهي قوله تعالى:(انّما المؤمنون اخوة) ([18]). وقد روي حديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في خصوص هذه الآية المباركة عرف بحديث المؤاخاة، حيث ذكره الشاعر في قوله مخاطباً القرشيين:

 

إذا قلتم: منّا الرسول، فقولهم أبونا رسول الله فخر على فخر *** وآخاهم مثلاً لمثل فأصبحت اخوّته كالشمس ضمّت إلى البدر

 

فآخى علياً دونكم، وأصارهُ لكم علماً بين الهداية والكفر

 

وروايات حديث المؤاخاة كثيرة مروية عن طرق الفريقين ولا مجال لذكرها هنا جميعاً، ولكن بحكم المثل القائل: ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، نذكر هنا للاستشهاد فقط ما ورد عن أهل السنة في هذا الخصوص([19]).

 

جاء في حديث عن عمر بن عبد الله عن أبيه عن جدّه أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) آخى هذا الأمر([20]).

فقال: اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانية فأصمتوا وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى، فقال: اجلس، ثم أعاد على القوم مقالته ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقلت: أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر، فقال: اجلس، فأنت أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي»([21]).

 

فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب، ليهنك اليوم ان دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميراً عليك)([22]).

 

بين الناس وترك عليّاً حتى بقي آخرهم لا يرى له أخاً، فقال يا رسول الله آخيت بين الناس وتركتني. قال: ولم تراني تركتك، انّما تركتك لنفسي أنت أخي وأنا اخوك. فان ذاكرك أحد فقل أنا عبد الله وأخو رسوله ولا يدّعيها بعدي إلّا كذّاب([23]).

 

هذه جملة من الآيات المباركات الّتي أكّد عليها الشاعر في قصائده الولائية لصلتها الوثيقة بأهل بيت النبوة عليهم أفضل الصلاة والسلام، ومكانتهم السامية بين شرائح الأمّة الاسلامية، ولما لهم من فضل عظيم و دور مؤثر في مجال الهداية والإرشاد والتوعية والتثقيف([24]).

2 ـ الاستدلال بالأحاديث النبوية الشريفة

الاستشهاد بالسنّة النبوية الشريفة اسلوب استدلالي آخر استخدمه الشاعر لإثبات شرعية الأئمّة من آل البيت(عليهم السلام) في ولاية الأمر وقيادة الامّة بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد وظّف الشاعر اسلوبه هذا في معظم شعره العقائدي، حيث يندر العثور على قصيدة ولائية من شعر الحمّاني تخلو من هذا الاسلوب الاستدلالي المقنع.

 

ومن الأحاديث النبويّة الشريفة الّتي ركّز عليها الشاعر في شعره العقائدي هو حديث الثقلين الّذي أشار اليه في عدّة مواضع، منها قوله:

 

هم الثقلان الداعيان إلى الهدى مقام وصيٍّ أو بيان مصاحف وقوله في موضع آخر ([25]):

 

قوم إذا اعتدلوا الحمائل أصبحوامتقسّمين خليفة ورسولا *** نشأوا بآيات الكتاب فما انثنوا حتى صدرن كهولة وكهولا

 

ثقلان لن يتفرّقا أو يطفئا بالحوض من ظمأ الصدور غليلا *** وخليفتان على الآنام بقوله الحق أصدق من تكلّم قيلا

 

فأتوا أكفّ الآيسين، فأصبحوا ما يعدلون سوى الكتاب عديلا

 

وحديث الثقلين هو قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «انّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» ([26]).

 

وقد بلغ رواة هذا الحديث عن طرق الفريقين من الكثرة مما لا يسع المجال هنا إلى تسمية المصادر وذكرها فقط حيث يشكل بحد ذاته بحثاً مستقلاً قائماً بذاته.

 

واضافة إلى حديث الثقلين فقد استشهد الشاعر بحديث آخر هو حديث المنزلة من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب(عليه السلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي»([27])، وقد اورد الشاعد مضمون هذا الحديث في سياق بيان أفضلية الامام(عليه السلام) إزاء وجهاء قريش:

 

وأنزله منه على رغمة العدى كهارون من موسى على قدم الدّهر

 

فمن كان في أصحاب موسى وقومه كهارون([28])؟ لازلتم على زلل الكفر

 

وأنزله منه النبي كنفسه رواية أبرار تأدّت إلى البرّ

 

فمن نفسه منكم كنفس محمد ألا بأبي نفس المطهر والطّهر

 

وحديث المنزلة غني عن التعريف وايراد الأسانيد لشهرته وتواتره([29]).

 

فقد نقله الفريقان نقلاً معلناً وجلياً بلغ محلاًّ من اليقين والإعتبار لا يرقى إليه أدنى شك([30]).

 

مع علي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة»([31])، والمقطوعة الشعرية هي:

 

أنتما سيّدا شباب جِنان الـ خُلدِ يومَ الفوزين والرَّوعتينِ *** يا عديلَ القرآنِ من بين ذي الخَـ لقِ ويا واحداً من الثقلينِ

 

أنتما والقُرآن في الأرضِ مُذ أنـ زل مثلُ السماء والفرقدينِ *** قمتما من خلافةِ اللهِ في الأر ض بحقٍّ مقامَ مُستخلَفَينِ

 

قالَهُ الصادقُ الحديثَ، ولن يفـ ترقا دونَ حوضهِ واردينِ

 

ويتضح من الأبيات هذه أنّ الشاعر قد استرسل في ذكر خصائص ومميزات أهل البيت(عليهم السلام) وخاصّة فيما يتعلق بالامام علي وولديه(عليهما السلام) ليستدل في النهاية بقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المؤكِّد على مواكبة أهل بيت النبوة لطريق الحق السوية([32]).

 

وقبل أن نختم هذا الفصل يبدو مناسباً الاشارة إلى أبيات ثلاثة ضمّنها الشاعر أحاديث صحيحة ومشهورة في فضل الامام علي بن أبي طالب(عليه السلام)وكرامته وأحقيته في ولاية الأمر وخلافة الأمة الاسلامية. يقول فيها الشاعر:

 

ابنُ الذي ردّت عليـ ـه الشمس في يوم الحجاب

 

وابن القسيم النار في يوم المواقف والحساب

 

مولاهم يوم الغديـ ـر برغم مرتاب وآبي

 

وكما هو واضح فانّ البيت الأول يشير إلى معجزة طلوع الشمس بعد غروبها عصراً اكراماً لأمير المؤمنين(عليه السلام). فقد جاء في الحديث عن أسماء بنت عميس: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يوحى اليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم انّ عليّاً كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس. قالت أسماء فرأيتها غربت ورأيتها طلعت بعد ما غربت([33]).

 

امّا البيتان الآخران فقد نقل فيهما الشاعر حديثان شريفان من أحاديث النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، الأوّل قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «علي قسيم النار»([34]).

 

والثاني حديث الغدير المتواتر من قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»([35]).

كانت هذه طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة الّتي تناولها الشاعر وتطرق اليها في شعره الولائي وهي أحاديث متواترة ومشهورة معتمدة من قبل الفريقين وموثوق بها عند الجميع. وقد اتضح من خلال هذه النخبة الحديثية المنتقاة حرص الشاعر على ركيزة الاقناع والتفهيم السليم في استدلالاته ومناظراته العقائدية.

3 ـ السرد الاستدلالي للوقائع التاريخية

لا شك أنّ الدور الّذي اضطلع به أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في المواظبة على الدين الاسلامي المبين ونقله إلى الأجيال مصاناً سليماً من كل سوء يعد دوراً مهماً وأساسياً. والمطالع للتاريخ الاسلامي يلحظ بوضوح تلك الجهود الّتي بذلها أئمة الهدى(عليهم السلام)في نصرة الرسالة المحمدية وبث الوعي الديني السليم بين شرائح المجتمع كافة.

 

وتستوقفنا ونحن نقرأ شعر الحمّاني جملة من الوقائع التاريخية المهمة الّتي توثقت بها عرى الإسلام الحنيف وارتكزت عليها شرائع الدين المبين وهي حوادث عظيمة وحاسمة في مناهضة المشركين ومقارعة ائمة الكفر والضلال من رموز الجاهلية ورؤوس قريش([36]).

 

وقد أومأ الشاعر إلى طائفة من الوقائع التاريخية التي شكّلت منعطفاً تاريخياً خطيراً في حياة الامّة الاسلامية وهي في طبيعة الحال أحداث تاريخية أبلى بها الهاشميون وفي طليعتهم الامام علي(عليه السلام) بلاءً حسناً. يقول الشاعر مفتخراً([37]):

 

سائلاً عنّا قريشاً وليالينا الأول *** نحن أصحاب حنين والمنايا تنتضل

وببدر حين وَلّوا قللاً بعد قلل *** ولنا يومٌ بصفّيـ ـن ويومٌ بجملْ

 

وفي هذه الأبيات اشارات واضحة إلى وقائع تاريخية خالدة كان لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(عليه السلام)جولات فيها وصولات. منها وقعة بدر في السنة الثانية للهجرة وقوله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة)([38])، ومنها غزوة حنين في السنة الثامنة للهجرة الّتي لم يثبت مع النبي من المسلمين غير تسعة من بني هاشم، وفيهم يقول مالك بن عبادة الغافقي:

 

لم يُواسِ النبي غيرُ بَني ها شِم عند السيوف يومَ حُنَين *** هربَ الناسُ غير تسعةِ رهط فهمُ يهتفون بالناس أين

 

ثمّ قاموا مع النبي على المَوْ ت فآبوا زَيْناً لنا غيرَ شَين

 

ومن جملة الحروب الّتي وقعت في عهد الإمام علي(عليه السلام) حربي الجمل وصفّين اللتين وقعتا في سنة واحدة هي السادسة والثلاثين للهجرة. وتعتبر هاتان الحربان جزءاً من مسلسل الفتن الّتي اثيرت في عصر أمير المؤمنين(عليه السلام) لتقويض حكومة العدل الإلهية الّتي شيّدها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ([39]).

 

ولدى استعراضنا شعر الحمّاني في خصوص الوقائع التاريخية الّتي شهدها العصر الإسلامي تستوقفنا وقعة تاريخية خطيرة يمكث عندها الشاعر بشيء من التريث والتأمل هي وقعة أحد. يقول الشاعر:

 

وأوقع يوم أحد بهم جلاداً يزايل بين أعضاد الشؤون *** فلم يترك لعبد الدار قرماً يقيم لواء طاغية لعين

 

فَأَفضوا باللّواءِ إلى «صؤاب» فعانَقَه معانقة الوضينِ *** فخذّمه أبو حسن فأهوى صريعاً لليدين وللجبين

 

ونودوا لا فتى إلّا عليٌ وليس كذي الفقار حمى جفون ويتضح من هذه الأبيات ان الشاعر قد ركّز على احدى الخصال البارزة في شخصية امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهي شجاعته واقدامه المنقطع النظير في الحروب. والواقع انّ الحديث عن بطولات أمير المؤمنين (عليه السلام) وتضحياته وجهاده يتطلّب بحوثاً ودراسات مستقلّة لا يسعها هذا المجال ولا يفي بحقها هذا المقال. فالغاية هنا تبيين منهجية الشاعر في تعامله مع النصوص التاريخية وروايات الأحداث لدى نظمه الشعر الولائي ([40]).

 

4 ـ الإشادة بمناقب آل البيت (عليهم السلام)

 

يشكّل التعريف بمناقب أهل البيت (عليهم السلام) وفضلهم وسجاياهم الكريمة محوراً هاماً في شعر الحمّاني الولائي. ولعلّ الاهتمام بهذا الجانب يكون مردّه إلى عمق تمسّك الشاعر بتعاليم أهل البيت وتفانيه في محبّتهم(عليهم السلام) باعتبار ذلك معلماً من معالم التقرب إلى الله تعالى، ومنجاة في يوم الحشر العظيم.

 

ونستكشف من خلال مطالعتنا لقريض الشاعر الملتزم بخطى أئمة الهدى(عليهم السلام) أنّه عاش الإسلام بجميع جوارحه فتجسّدت له عظمة أهل البيت من خلال الإسلام الّذي تشبّعت به روحه وقرارة نفسه، ورأى أنّ تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) هي الامتداد الحقيقي لغنى الفكر الإسلامي والنظم المثلى في بلورة المشروع الحضاري الإسلامي الّذي يضمن سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

 

وتركيز الشاعر على هذا المنحى من النظم يتأتى من خلال ايمانه بأنَّ التمسك بأفكار وأعمال أهل البيت (عليهم السلام) هو الملاذ الوحيد والمنجى الحقيقي من الانحراف عن النهج الإسلامي الحق. فهم (عليهم السلام) عدّته في الدنيا وملاذه في يوم القيامة:

 

سادتي عُدّتي عمادي مَلاذي خمسةٌ عندَهم تُحطّ الرّحالُ *** سادتي سادةٌ بهم ينزلُ الغيثُ علينا، وتُقَبلُ الأعمالُ

 

سادتي حُبّهم يَحُطّ الخطايا ولدَيهم تُصدّق الآمالُ *** سادةٌ قادةٌ اليهم إذا ما ذُكِرَ الفضلُ تُضرَب الأمثالُ

 

وبهم تُدفَعُ المكارهُ والخيـ فةُ عنا وتكشَفُ الأهوالُ*** وبهم طابت المواليدُ وامتا ز لنا الحقُّ والهدى والضلالُ

 

وبهم حُرّمَ الحرامُ وزال الشكُّ في دينِنا وحلَّ الحلالُ

 

ويلاحظ من خلال إلقاء النظر على هذا اللون من شعر الحمّاني حرص الشاعر على تعميق فكرة الامتداد الرسالي المتمثلة بأهل البيت (عليهم السلام) والذين يعدون امتداداً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسباً ونسباً وعلماً ومعرفة.

 

وقد أكّد الشاعر في مواضع عديدة ومواقف كثيرة على الصلة الوثيقة والمميزة الّتي تربط الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

 

نجد ذلك متجلّياً في معظم شعره الولائي كقصيدته الدالية المعروفة الّتي يبدأها بذكر قرابة أبي الأئمّة أمير المؤمنين (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)([41]):

 

بين الوصيِّ وبين المصطفى نسبٌ تختالُ فيه المعالي والمحاميدُ*** كانا كشمس نهار في البروج كما أدارَها ثم إحكامٌ وتجويدُ

 

كسيرِها انتقلا من طاهر عَلم إلى مطهَّرة آباؤها صيدُ *** تَفرّقا عندَ عبد اللهِ واقترنا بعدَ النبوةِ توفيقٌ وتسديدُ

 

وذَرَّ ذو العرشِ ذراً طابَ بينهما فانبثَّ نورٌ له في الأرض تخليدُ *** نورٌ تفرَّقَ عند البعث وانشعبت منه شعوبٌ لها في الدّين تمهيد

 

ويتابع الشاعر بعد عرضه للنسب الهاشمي الشريف ذكر الخصال الحميدة الّتي تحلّى بها الهاشميون من شجاعة واقدام وجود وإنعام ومناقب كريمة يتصف بها الأشراف الأفذاذ:

 

هم فتيةٌ كسيوف الهند طال بهم على المطاولِ آباءٌ مناجيدُ *** قومٌ لماء المعالي في وجوهِهِمُ عندّ التكرُّم تصويبٌ وتصعيدُ

 

يدعُونَ أحمدَ ان عُدَّ الفخارُ أباً والعودُ ينبتُ في أفنانِه العُودُ *** المُنعِمونَ اذا ما لم تكن نِعمٌ والذائدونَ اذا قلَّ المذاويدُ

 

ويستمر الحمّاني بعد ذلك في عدّ مناقبهم(عليهم السلام) ومالهم من مواقف مشرّفة ومآثر خالدة لينتهي آخر المطاف إلى الغاية والمقصد الحقيقي من النظم وهو بيان مظلومية أهل البيت(عليهم السلام) في ضياع حقّهم المشروع من الخلافة وقيادة الأمة الإسلامية([42]):

 

في كلِّ يوم لهم بأسٌ يعاشُ به وللمكارم من أفعالِهم عيدُ *** مُحسَّدونَ ومن يَعقِد بحُبِّهُم حبلَ المودّةِ يُضحِ وهو محسودُ

 

لا يُنكرُ الدهرُ ان ألوى بحقّهم فالدهرُ مُذ كان مذمومٌ ومحمود

 

والتأكيد على أحقية أهل البيت(عليهم السلام) في ولاية الأمر وهداية الاُمّة بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هي السمة البارزة الّتي يختم بها الشاعر قصائده الولائية أو بالاحرى الشأن الأسمى الذي يدأب الشاعر في ابرازه بشكل معلن وجلي ليجعل شعره ذاقيمة دينية وتاريخية يصلح أن يكون مادة غنية يستمد منها الحقائق والصحيح من الوقائع([43]):

 

يا آلَ أحمد أنتم خيرُ مشتمل بالمكرمات وأنتم خير معتَرفِ *** خلافةُ اللهِ فيكم غيرُ خافية يُفضي بها سلفٌ منكم إلى خَلَفِ

 

طِبتُم فطابَ مواليكم لطيبتكم وباءَ أعداؤكم بالخُبثِ في النُّطَفِ رأيتُ نفعي وضري عندكم فاذا ما كان ذاك فعنكم أين منصرفي ونخلص من هذا القول إلى أنّ الشاعر لم يذكر مناقب أهل البيت(عليهم السلام) في شعره لمجرد الذكر والسرد بل عمد إلى تأصيل وتعميق الرؤى الدينية والمفاهيم الإسلامية المنبعثة من سيرتهم(عليهم السلام) بغية الأخذ بها وترجمتها عملياً على أرض الواقع وفي مجالات الحياة كافة.

 

ولم يكن الشاعر ـ كما لاحظنا ـ مغالياً ومسرفاً في بيانه بل شاهدنا الإعتدال قائماً في معظم أشعاره العقائدية وخاصة فيما يتعلّق بشعره الولائي لأهل البيت (عليهم السلام). وكما مرّ سابقاً فانّ الشاعر يهدف بأسلوبه هذا وأدائه البياني المميز إلى تعميق الحقائق الإسلامية وتأصيلها في المجتمع لتصبح في النهاية منهل ارتواء ومورد استلهام من قبل المسلمين.

 

5 ـ فخر الشاعر بانتسابه للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)

 

يُعدّ الفخر وهو اشادة الشاعر بخصال نفسه والتحدّث بمآثر قومه ومكارمهم وطيب عنصرهم ورفعة حسبهم وشهرة شجاعتهم وغير ذلك من الصفات الحميدة الّتي تتسم بها القبيلة، من أبرز أغراض الشعر العربي وفنونه. وهذا اللون من الأدب كان شائعاً منذ أقدم عصور الشعر وحتى يومنا هذا مع تغييرات وتحويرات طرأت عليه بمرور الزمان واختلاف الظروف.

 

ونلحظ من خلال مطالعتنا لشعر الحمّاني عنياته بأدب الفخر كثيراً. ولكن الفخر الّذي نتوقف عنده في أشعاره الولائية يختلف تماماً عن الفخر الشائع بين الشعراء والّذي سبق تعريفه آنفاً. فالفخر عند الحمّاني ليس عنصرياً أو قبلياً ضيق الحدود، بل لا يمت أساساً إلى النزعة الذاتية المحدودة النطاق والمشحونة بالمفاخرات الفردية والطائفية.

 

انّ الفخر عند الحمّاني مستقل قائم بذاته يمتاز بقيمة معنوية ودلالة عبادية وهي الفخر بالانتساب للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام)([44]).

 

ولا شك انّ هذه الميزة تمنح شعر الحمّاني الولائي بعداً قيمياً آخر فضلاً عن أبعاده الدينية والتاريخية المتعددة الّتي مرّ ذكرها([45]).

 

فالشاعر يفتخر بكونه من سلالة النبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب الرسالة الخالدة، وانّ آباءه هم الهاشميون من ذوي الحسب والنسب الرفيع الّذين شهدت لهم ميادين الوغى مواقف لن تنسى في نصرة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والذود عن الدين الإسلامي المبين واعلاء كلمة الله في الأرضين:

 

لقد فاخرَتنا من قريش عِصابةٌ بمطِّ خدود وامتدادِ أصابعِ *** فلمّا تنازعنا الفخارَ قضى لنا عليهم بما نَهوى نداءُ الصوامِعِ

 

ترانا سكوتاً، والشهيد بفضلِنا عليهم جهيرُ الصوتِ في كلِّ جامعِ *** بأنّ رسولَ الله لا شكَّ جدُّنا ونحنُ بنوهُ كالنجومِ الطوالعِ

 

 وفي خصوص هذه الأبيات ورد في مصادر مختلفة أنّ المتوكل العباسي سأل الإمام علي بن محمد الهادي(عليه السلام)عن أشعر الناس. فقال الامام: الحمّاني، وأشار إلى الأبيات المذكورة. فقال المتوكل: وما نداءُ الصوامع يا أبا الحسن؟ قال: أشهد أن لا اله إلّا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله، جدّي أم جدّك؟ فقال المتوكل: هو جدّك لا ندفعك عنه([46]).

 

ويتضح من هذه الرواية أنّ تقديم الامام(عليه السلام) للحمّاني باعتباره أشعر الناس وأفضلهم يعود إلى القيمة المعنوية الّتي حملتها هذه الأبيات ونظائرها والى التزام الشاعر بتوظيف شعره وخاصة اللون الفخري منه لصالح المفاهيم الإسلامية والتعاليم الدينية القيمة([47]).

 

وهذه ظاهرة فريدة في حدّ ذاتها. فقلما نجد شاعراً يتجنب الذاتية والفردية في الفخر ليتخذ من الموضوعية والمثالية عنصراً باعثاً ومحرّكاً في منظوماته الفخرية.

 

وفضلاً عن اشارة الشاعر في شعره الولائي إلى نسبه الشريف للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) فقد ذكر مراراً وفي جوانب مختلفة من قصائد فخره، بطولات الهاشميين ومآثرهم الخالدة في الدفاع عن الاسلام منذ ظهوره وحتى عصر الشاعر:

 

إذا ما علا الأعواد منا ابنُ حرّة فأسفَر عن بدر ولا حظَ عن صقرِ *** رأيتَ عدوّ الدين أخنعَ كاسفاً وذا الدينِ والاسلامِ مُنبلجَ الصّدرِ

 

لنا سيّدا هذا الأنامِ أبوّةً وسيّدتاهم في المواقف والحشر *** وما عالَنت كفٌّ بإنكارِ فضلِنا من الناس إلّا وهي مُذعِنةُ السرّ

 

وإنّا أُناسٌ ما تَزالُ نفوسُنا مَحَبَّسةً بين المكارم والفخرِ

والحق انّ مفاخرة الشاعر بهذه الخصال يعدّ لوناً من ألوان الفخر الرفيع أو ما يمكن أن نطلق عليه الفخر الإيجابي لما يحمل في ثناياه قيما أخلاقية سامية ومُثُلاً معنوية رفيعة. ولا شك أنّ لمثل هذا الفخر الملتزم مردوداً ايجابياً على صعيد التوعية والتثقيف. فالشاعر صادق في فخره وصادق في قوله وهو قول حق أراد الشاعر انشاده على مسامع الناس بعد أن أثقلتها أبواق التهم الملفّقة وطبول الدعاية المزيّفة.

 

انّ الشاعر يفتخر بحسبه ونسبه لانّه من سلالة بلغت العز والمجد بأفعالها وأعمالها المشرّفة. ويكفيه فخراً أن يكون من ذرية يتربع على عرش مجدها ومفاخرها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيّه وخليفته من بعده الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):

 

بلغنا السمآءَ بأحسابنا ولولا السماءُ لَجُزنا السماءا*** فحسبُكَ من سؤدَد أنّنا بحُسنِ البلاءِ كشَفنا البَلاءا

 

يطيبُ الثناءُ لآبائنا وذكُر عَليٍّ يَزينُ الثناءا *** إذا ذُكِرَ الناسُ كنا ملوكاً وكانوا عبيداً، وكانوا إماءا

 

وثمرة القول ان الشاعر قد وفق في تعاطيه هذا اللون من الفخر أعني الفخر الإيجابي الملتزم وذلك بسوق هذا النمط من الشعر نحو الحقائق الدينية والمثل الإسلامية القيمة([48])، وابعاده عن زخرف القول وباطل الكلام.

 

وهي خصوصية امتاز بها الشاعر عن سائر أقرانه ولداته من شعراء عصره على الرغم من الأجواء السياسية القاتمة والأوضاع الإجتماعية المتردية الّتي عاشها الشاعر وخيّمت على نشاطه السياسي والفكري، إلّا إنّها لم تفلّ من عزمه ولم تبعده عن الطريق الّذي شقّه لنفسه وهو لا شكّ طريق شائك وصعب، زاخر بالمخاوف والمخاطر، حافل بكل مكروه، لا يجتازه إلّا من منّ الله عليه برسوخ الإيمان وثبات القدم.

 

وبعد هذه الجولة من البحث حول منهجية الشاعر في قصائده الدينية وخاصة الولائية منها يمكن أن نستنتج أنّ الشاعر كان قد وظّف نفسه لتبيين الحقائق الدينية المتعلّقة بأحقيّة أهل البيت (عليهم السلام) بولاية الأمر وهداية الأمّة الإسلامية بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).

 

وقد حاول الشاعر وبموضوعية ملحوظة أن يثبت هذا الحق المشروع باستناده إلى الآيات القرآنية المجيدة الواردة بحق أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة المختصّة بأئمة الهدى (عليهم السلام)، إلى جانب الاشادة بمواقفهم المشرّفة ومآثرهم الخالدة في صيانة الدين الإسلامي من كلّ آفة ومكروه.

 

لقد استطاع الشاعر وبحكم منصبه كنقيب للعلويين في الكوفة وما أوتي من قدرة بيانية ومقدرة جدلية وكلامية أن يدحض تقولات المنكرين وادعاءات الجاحدين لفضل أهل البيت (عليهم السلام) من خلال اسلوب بياني مؤثر ولغة شعرية رقيقة تترك في القلب شعوراً طيباً واحساساً لطيفاً وعميقاً.

 

فرحم الله الحمّاني وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير جزاء المحسنين.

 

الهوامش:

([1]). نسبة إلى بني حمّان الّذين كانوا يسكنون الكوفة.

([2]). مروج الذهب، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دارالمعرفة، بيروت، ج 4، ص 151.

([3]). الصنعاني: نسمة السحر بذكر من تشيّع وشعر، تحقيق كامل سلمان الجبوري، دار المؤرخ العربي، بيروت، 1999 م، ج 2، ص 429.

([4]). نهج البلاغة، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، دار الهجرة، قم، 1412 هـ ، ص 254.

([5]). الشيخ الأميني: الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت، 1983، ج 3، ص 68. وقد ورد في مروج الذهب (ج 4، ص 153) ان الشاعر توفي سنة 260 هـ .

([6]). جمع شعره الدكتور محمد حسين الأعرجي ونشره في مجلة المورد البغدادية (مج 3 / ع 2 / ص 199 ـ 220). كما جمعه أيضاً مزهر السوداني ونشره في مجلة كلية الآداب ـ جامعة البصرة (مج 7 / ع 9 / ص 291 ـ 343).

([7]). ديوان الحمّاني، تحقيق الدكتور محمد حسين الأعرجي، دار صادر، بيروت، 1998، ص 72.

([8]). الأحزاب: 33.

([9]). مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1995 م، ج 8، ص 156، 157.

([10]). الأنفال: 41.

([11]). ديوان الحمّاني، ص 72، 73.

([12]). الشورى: 23.

([13]). ديوان الحمّاني، ص 100.

([14]). الطبراني: المعجم الكبير، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، 1983 م، ج 3، ص 47.

([15]). صحيح البخاري، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، بيروت، 1987 م، ج 4، ص 1819.

([16]). الشعراء: 214.

([17]). ديوان الحمّاني، ص 73.

([18]). رجل أحمش الساقين: دقيقهما.

([19]). الرمص: وسخ يجتمع في مجرى الدمع.

([20]). الشيخ المفيد: الإرشاد، تحقيق مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لاحياء التراث، قم 1413، ج 1، ص 49، 50.

([21]). الحجرات: 10.

([22]). ديوان الحمّاني، ص 73.

([23]). أحمد بن حنبل: فضائل الصحابة، تحقيق الدكتور وصي الله محمد عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1983 م، ج 2، ص 617.

([24]). ديوان الحمّاني، ص 89.

([25]). المصدر السابق، ص 100.

([26]). المعجم الكبير، ج 5، ص 169.

([27]). صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: دار احياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ، ج 4، ص 187.

([28]). ديوان الحمّاني، ص 73.

([29]). الطبراني: المعجم الأوسط، تحقيق طاهر بن عوض الله بن محمد وعبد المحسن بن ابراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415، ج 4، ص 325.

([30]). الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ، ج 14، ص 320.

([31]). ديوان الحمّاني، ص 120.

([32]). المصدر السابق، ص 35.

([33]). المعجم الكبير، ج 24، ص 150.

([34]). أبو شجاع الديلمي: الفردوس بمأثور الخطاب، تحقيق السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986، ج 3، ص 64.

([35]). أحمد بن حنبل: مسند أحمد، مؤسسة قرطبة، مصر، بدون تاريخ، ج 1، ص 118.

([36]). ديوان الحمّاني، 97.

([37]). آل عمران: 123.

([38]). الإرشاد، ج 1، ص 141.

([39]). ديوان الحمّاني: ص 121.

([40]). المصدر السابق، ص 96.

([41]). المصدر السابق، ص 57، 58.

([42]). المصدر السابق، ص 58.

([43]). المصدر السابق، ص 92.

([44]). محمود البستاني: تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الاسلامي، مجمع البحوث الاسلامية، مشهد، 1413، ص 580.

([45]). ديوان الحمّاني، ص 81.

([46]). ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، دار الأضواء، بيروت، 1985، ج 4، ص 406.

([47]). ديوان الحمّاني، ص 71.

([48]). المصدر السابق، ص 33، 34.