الخطة الاستعمارية لتجزئة العالم الإسلامي عبر التيارات التفكيرية

الخطة الاستعمارية لتجزئة العالم الإسلامي عبر التيارات التفكيرية

 

الخطة الاستعمارية لتجزئة العالم الإسلامي عبر التيارات التفكيرية

 

أحمد صبري السيد علي
المنصورة - مصر

 

   مقدمة :

   ثمة علاقة طردية بين بروز التيارات الدينية المتشددة وسيطرتها على الواقع اليومي للشعوب وبين حالة التراجع الحضاري والتفكك التي قد يعاني منها أي مجتمع .

   وبالرغم من أن التيارات المتشددة كان لها تواجدها في العالم الإسلامي منذ البداية ، واتخذت في حركتها مسميات وأفكار مختلفة ، وإن ظلت سلوكيات أتباعها موحدة من ناحية الموقف من الآخر وأسلوب التعامل مع النصوص الدينية ، وقابليتها الدائمة للتشظي بناء على خلافات في قضايا قليلة الأهمية مما يعكس الطبيعة الضحلة لوعي أتباعها ..

   إلا أن هذه التيارات لم تكن ، في أفضل أحوالها وفي أكثر أحوال العالم الإسلامي تراجعاً ، سوى أدوات وظيفية في يد الخلفاء العباسيين أو السلاطين ، ضمن مساعيهم لمحاولة السيطرة على وعي الجماهير واستخدام الدين وفتاوى رجال هذه التيارات كوسيلة لتغييبه .

   على أن سقوط غالبية دول العالم الإسلامي في العصر الحديث تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي ، ثم الهيمنة الأمريكية بدءاً من الخمسينات ، ترافق بدوره مع صعود وبروز هذه التيارات منذ أواخر القرن الثامن عشر ، بحيث تمكنت من تشكيل أسر حاكمة والسيطرة على وحدات سياسية ، كما تمكنت منذ بداية السبعينات إحكام السيطرة على دول إسلامية أخرى أكثر عراقة منها من الناحية الحضارية .

   ومن المؤكد أن هذه النجاحات لتلك التيارات التكفيرية بالترافق مع الجموح الاستعماري الغربي ، لم يكن مجرد مصادفة ، خاصة أن هذه التيارات لم يكن لها دور على الإطلاق في جهود المقاومة والتحرر الوطني من الاستعمار لدى أي شعب إسلامي ، ومن المؤكد أن هناك أكثر من علامة استفهام يمكن أن تثار للإجابة على التساؤلات الخاصة بعلاقة التيارات التكفيرية بالاستعمار الغربي ، الانجليزي والأمريكي منه على وجه الخصوص ، وأسباب تلاقي المصالح الواضح بين الطرفين ، وحقيقة الدور الذي تلعبه هذه المجموعات في العالم الإسلامي ، وهو ما تسعى إليه هذه الدراسة المصغرة .

 

   الوهابيون :

   تنسب الحركة الوهابية إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي الذي ولد سنة 1111 هـ[1] لعائلة علمية تدين بالمذهب الحنبلي في بلدة العيينة بنجد ، وتشير المؤلفات التاريخية إلى أن والده وشقيقه سليمان بن عبد الوهاب كانا من علماء الدين ذوي السمعة الحسنة في الوسط العلمي حيث تقلد الشيخ عبد الوهاب منصب القضاء في إمارة عبد الله بن محمد بن حمد[2] ، وقد تلقى علومه الدينية الأولى حسب المذهب الحنبلي في العيينة على يد والده ، وتتفق المصادر التاريخية على أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد بدأ صدامه مع التقاليد الدينية في مجتمعه النجدي أثناء دراسته في العيينة وعقب انتقال والده إلى بلدة الحريملة التي أقام بها حتى وفاته سنة 1143 هـ[3] .

   تشير المصادر المعارضة والمؤيدة للوهابية أن محمد بن عبد الوهاب اضطر للرحيل إلى الحجاز لمواصلة دراساته الدينية هناك بعد أن أدرك أن أحداً لن يتمكن من مساندته في دعوته[4] ، ومن غير المستبعد أن يكون محمد بن عبد الوهاب قد فكر في أن الدراسة بالحجاز تعد فرصة لتحقيق شهرة علمية إذا ما تمكن من الحصول على إجازات من أحد علمائها الكبار مما قد يسهم في منحه نفوذاً علمياً يمكنه من نشر رؤيته العقائدية ، وتتفق المصادر المؤيدة والمعارضة للدعوة الوهابية على فشل محمد بن عبد الوهاب في تحقيق أي من أهدافه من الدراسة في المدينة المنورة إلى درجة اضطراره للرحيل مرة أخرى والعودة إلى نجد نتيجة لآرائه المعلنة حول استغاثة المسلمين بالنبي (ص) عند قبره[5] ، وقد شكك شقيقه سليمان بن عبد الوهاب في الإجازات التي ادعى الوهابيون حصوله عليها من علماء في المدينة المنورة[6] .

   كانت البصرة هي المحطة الثالثة لتجولات محمد بن عبد الوهاب ، ويشير حسين بن غنام إلى أن هدفه النهائي من الرحلة هو الشام وأن وجوده بالبصرة كان مؤقتاً[7] ، ولم يشر إلى هدفه من الذهاب إلى البصرة ثم إلى الشام خاصة أن من غير المتوقع استجابة أهالي هذه البلاد لدعوته الدينية نظراً لرسوخ وضع المذاهب السنية الأخرى بالإضافة للطرق الصوفية والتشيع ، وربما تشير هذه التجوالات المختلفة إلى محاولة محمد بن عبد الوهاب البحث عن وسيلة تأييد ودعم لدعوته .

   إن الصدام بين معتقدات الشيخ والأفكار السائدة في الأوساط الإسلامية كان أكثر قوة وعنفاً في البصرة التي تتميز بمجتمعها التجاري وتنوعها المذهبي بالإضافة إلى كثافة الجاليات والشركات الأجنبية بها[8] ، وهو ما قد يمثل استفزازاً أكبر بالنسبة لمحمد بن عبد الوهاب بسبب الرفض المتوقع من سكان البصرة لأسلوبه المتشدد في تفسير النصوص الدينية التي لا تتأقلم على الإطلاق مع مجتمع تجاري منفتح ، وكما كان متوقعاً فقد تعرض لاعتداء من الأهالي في البصرة نتيجة لآرائه الشاذة من وجهة نظرهم وقاموا بطرده من مدينتهم[9] .

   لقد كانت عودة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى العيينة للمرة الثانية بداية لظهور نفوذه الديني ، ومن الغريب أنه تمكن هذه المرة من إقناع حاكم العيينة عثمان بن معمر بعقيدته الدينية المرفوضة جماهيرياً مستخدماً التعبير التالي : " إني أرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله وتملك نجداً وأعرابها "[10] ، وبناء على هذا الوعد السياسي في جوهره تم عقد تحالف بينهما وصل لحد المصاهرة عبر زواج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أخت الحاكم[11] ؛ إن المقابل الذي قدمه الشيخ إلى عثمان بن معمر في حال مناصرته يبدو مثيراً للتساؤل ، فلم يكن الشيخ ابن عبد الوهاب يملك الوسائل التي يدعم بها حاكم العيينة لتحقيق هذا الوعد السياسي بالسيطرة على نجد وبالتالي فمن المريب أن يقتنع حاكم العيينة بمثل هذه المقولة ويتبنى منهجاً دينياً مخالفاً لما هو سائد بين العلماء التقليديين رغم أن كلا الطرفين يتحدث باسم الإمام أحمد بن حنبل ، وربما كان الإغراء بالدعم الأجنبي عبر وكلاء شركة الهند الشرقية البريطانية في البصرة يمثل الدافع الخفي لهذه الصفقة غير المنطقية من الناحية السياسية .

   استفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب لفترة من هذا التحالف حيث تمكن من تحطيم بعض القباب المقدسة لدى الجماهير النجدية كقبة قبر الصحابي زيد بن الخطاب الأمر الذي أثار قلق حاكم الإحساء والقطيف سليمان بن محمد بن عزيز الحميدي نتيجة لرسائل الاحتجاج التي أرسلت إليه من قبل علماء نجد[12] ، ثم كانت قضية المرأة التي رجمت بأمر الشيخ والتي تذكر المصادر الوهابية أنها اعترفت أمامه بالزنا[13] والتي كان لها صدى واسع بين علماء الدين في نجد الذين استنكروا هذا التصرف من الشيخ حيث يشير المؤرخ الوهابي حسين بن غنام إلى أنها من الأسباب المباشرة لانتهاء التحالف بين الشيخ وحاكم العيينة إثر تدخل حاكم الإحساء لتحجيم النفوذ الديني للشيخ وتحريضه لعثمان بن معمر على طرده من العيينة[14] ، ومن المستبعد أن تكون المروية الوهابية عن هذه الحادثة واقعية بالفعل فمن غير الممكن أن يقوم المنافسون الحنبليون لمحمد بن عبد الوهاب باستغلال قضية شرعية تصرف فيها الشيخ بما متبع لدى فقهاء المذهب الحنبلي .

   ثمة تباين واضح بين المؤلفات المؤيدة للوهابيين في روايتها لكيفية اللقاء الشهير بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود ؛ فالمؤرخ الوهابي حسين بن غنام لا يذكر سبب اهتمام حاكم الدرعية محمد بن سعود بالتعرف على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رغم أنه أشار إلى أن أخوي حاكم الدرعية ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود كانا من تلامذة الشيخ أثناء إقامته بالعيينة وشاركا معه في قطع إحدى الشجرات التي كان يتبرك بها أهالي المدينة[15] ، ولعل هذه الصلة تشير إلى وجود علاقة مسبقة بين حاكم الدرعية والشيخ هي ما دفعته لاختيار الدرعية على وجه الخصوص كمكان لإقامته بعد طرده من العيينة .

   أما مروية الآلوسي فتبدو مختلفة تماماً ، فالعلاقة بين الشيخ والأمير تبدأ بتوجس الشيخ أن يقوم الأمير محمد بن سعود بإلقاء القبض عليه ، وبالتالي يسعى للتقرب منه عبر التعرف على أخويه مشاري وثنيان ابني سعود وزوجته موضى بنت أبي وحطان آل كثير دون توضيح للسبب في اختيار هذين الأخوين تحديداً ، وقد تمكن الأخوين من إقناع زوجة الأمير بمساندتهما في تزكية الشيخ لديه ، وكعادة المرويات الدعائية يذكر الآلوسي أن الله قذف محبة الشيخ في قلب الزوجة فأخبرت زوجها محمد بن سعود بأمره مطالبة إياه باغتنام نصرته وبدوره ألقى الله محبة الشيخ في قلب الأمير الذي التقى بالشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيت الشيخ عبد الله بن سويلم قال له : " أبشر بالخير والعز والمنعة ، فقال له الشيخ : وأنا أبشرك بالعز والتمكين والغلبة على جميع بلاد نجد "[16] .

   الواقع أن كلا المرويتين لا تنقلان إلا التفاصيل النهائية من تطور العلاقة بين الشيخ والأمير إلى درجة التحالف السياسي والديني دون الإشارة إلى عناصر القوة التي دعمت هذا التحالف ، فمن الغريب أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب فشل في تحقيق هذا الإنجاز أثناء حياة والده وتوليه منصب القضاء في العيينة ، في حين تمكن من تحقيق هذا التحالف لمرتين متتاليتين بعد وفاته رغم عدم امتلاكه لقوة واقعية تتيح له الدخول في تحالف متكافئ مع حاكم الدرعية بحسب الصيغ التي تنقلها المرويات المؤيدة للحركة الوهابية على تناقضها ، فحتى هذه اللحظة لم تكن دعوته قد حققت أي قدر يعتد به من الشعبية بما يكفل له أن يعد الأمير بحكم نجد ، وعلى الرغم أن قصة تأييد سلطة سياسية ما لدعوة دينية تبدو متكررة من الناحية التاريخية فإن التحالف المتكافئ في تقسيمه للسلطة هي ما يميز العلاقة بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود بحيث تصور المرويات الوهابية هجرة الشيخ من العيينة إلى الدرعية بصورة تشبه هجرة النبي (ص) من مكة إلى المدينة وتماثلها في بعض العبارات التي استخدمها ابن سعود : " اشترط عليك شرطين : الأول إذا نحن قمنا بنصرتك ، والجهاد في سبيل الله تعالى وفتح الله لنا البلاد ؛ فلا ترحل عنا ولا تستبدل بنا غيرنا . والثاني إن لي على أهل الدرعية خراجاً آخذه منهم وقت الثمار ، فلا تمنعني من أخذه منهم "[17] ، وقد رد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – حسب المؤلفات الوهابية – باستعارة عبارات النبي (ص) : " أما الأولى فامدد يدك . فمدها وقبضها وقال له : الدم بالدم والهدم بالهدم "[18] ؛ إن الاتفاق بين الطرفين بهذه الصيغة بغض النظر عن ما يشوبه من لمحات دعائية يشير إلى ما حمله الشيخ محمد بن عبد الوهاب من دعم يمثل طرف ثالث من المؤكد أنه يمثل شركة الهند الشرقية البريطانية والتي كانت مؤرقة في هذه الفترة بتأمين طرق مواصلاتها للهند عبر إيجاد إمارات موالية لها على الخليج العربي ، أو عبر خروج الخليج العربي عن نطاق السيطرة العثمانية .

   لقد حقق هذا التحالف قدراً كبيراً من النجاح في فترة زمنية قصيرة حيث تمكن في البداية من فرض سيطرته على إقليم نجد كما شمل نفوذه مناطق أخرى مجاورة كالإحساء والقطيف وامتد نفوذه إلى الحجاز وعسير وجنوب العراق حيث هاجم العتبات المقدسة في كربلاء وإن لم يتمكن من السيطرة عليها[19] ، وقد سعى هذا التحالف لفرض المعتقد الوهابي على المناطق التي نجح في السيطرة عليها ، وفي سبيل تحقيق السيطرة والسيادة على الجزيرة العربية لم يتورع الوهابيين من استخدام العنف المفرط ضد المخالفين لهم حتى في مواجهة المدنيين والحجاج[20] ، مما يعد مثيراً للاستغراب خاصة أن الوهابيين لم يكونوا قادرين بالفعل على احتلال هذه المساحات الشاسعة من الأرض دون تعاون ما من الخارج يمكنه مدهم بالسلاح اللازم لتنفيذ هذه المهمة التي حيدت الدور العثماني في الخليج العربي[21] .

   إن المؤلفات المعادية للوهابيين تشير إلى وجود تعاون بين بعض الأثرياء اليهود في العراق وبين الوهابيين حيث تذكر اسم تاجر يهودي يدعى إلياهو كوهين ساسون كان يقوم بتمويل تحركات الوهابيين ، كما تشير إلى اجتماع تم بين محمد بن عبد الوهاب وعبد العزيز بن محمد بن سعود مع الانجليز في الإحساء عقب الاستيلاء عليها من قبل الوهابيين بهدف تمويل البريطانيين للحملات الوهابية والتي تمكنت على أثر هذا الاتفاق من مهاجمة كربلاء واحتلال أجزاء من جنوب العراق وضم الحجاز[22] ، وربما تجيب هذه المعلومات عن علامات الاستفهام الخاصة بقدرات آل سعود على تحقيق هذه المنجزات خاصة أن الشرط الثاني لمحمد بن سعود في تحالفه مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب : " إن لي على أهل الدرعية خراجاً آخذه منهم وقت الثمار ، فلا تمنعني من أخذه منهم " وشهادة المؤرخ ابن بشر النجدي يشير إلى أن الوضع الاقتصادي للدرعية لم يكن مؤهلاً لهذه الغزوات[23] ، كما تحمل إجابة على محاولتهم الهجوم على العراق وما أحدثوه من دمار في العتبات المقدسة خاصة أنهم كانوا في غناً عن استفزاز الدولة العثمانية بهذا الشكل الفج مع فشلهم في فرض السيطرة على كامل شبه الجزيرة العربية .

   لقد وجهت بعض المؤلفات المعادية للوهابيين في الهند اتهاماً مباشراً لهذا التحالف بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود بالتعامل وتلقي الدعم من الإنجليز ، وذكر الخليفة الأحمدي (القادياني) ميرزا طاهر أحمد نقلاً عن مصادر بريطانية أن الاتفاق بين الأطراف الثلاثة نص على مراعاة محمد بن سعود المصالح البريطانية في سياسته الخارجية ، كما قيدوا سياسته الداخلية لحد ما ، وقد قدموا في المقابل للدويلة الجهادية الجديدة دعماً مالياً بلغ خمسة آلاف جنيه استرليني سنوياً بالإضافة إلى الخبرات العسكرية والسياسية[24] .

   والواقع أن الفترة التي شهدت سيطرة الدولة الوهابية على مساحات شاسعة من الجزيرة العربية (1743 م - 1818 م) ترافقت مع تصاعد النفوذ البريطاني لدرجة كبيرة ، ففي خلال تلك الفترة استطاعت بريطانيا فرض عديد من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية على الأمراء الخليجيين لعل أهمها المعاهدتين اللتين وقعتهما مع سلطان عمان في 1798 و 1800 م ونصتا على إنشاء وكالة تجارية في بندر عباس (كانت تابعة لحاكم مسقط) وتخلي حاكم مسقط عن أي اتصال مع الفرنسيين ؛ كما تمكنت بريطانيا من إجبار أسرة القواسم في رأس الخيمة من توقيع معاهدة مجحفة في سنة 1806 والتي تضمنت عدم مهاجمتهم للسفن الإنجليزية في الخليج ؛ أما الكويت فقد كانت على علاقة قوية ببريطانيا منذ عام 1775 مما دفع بريطانيا لنقل مقر وكالة شركة الهند الشرقية من البصرة إلى الكويت ، وأبدى أمير الكويت حماسة أكبر في تفعيل هذا التحالف بشكل عملي عبر عرضه مساعدة بريطانيا في حملتها ضد الأمراء القواسم سنة 1806 م ، وكانت أكثر النجاحات البريطانية دوياً هو تمكنها من احتلال ميناء عدن الاستراتيجي سنة 1839 م[25] .

   إن تبني الدعوات الدينية المتهرطقة في الشرق ودعمها سياسياً وعسكرياً مثل نهجاً سياسياً استراتيجياً اعتمدته الدول الغربية وخاصة روسيا ، بريطانيا ، وفرنسا وفي الوقت الذي دعمت فيه السفارة الروسية موقف مؤسس الديانة البهائية بإيران ميرزا حسين نوري مازنداراني (بهاء الله) في مواجهة السخط الديني والحكومي تجاه حركته[26] ، فقد تولت الحكومة البريطانية مهمة تدعيم الحركة الوهابية سواء في الجزيرة العربية أو في الهند بالإضافة لمشاركتها في تدعيم الحركتين البهائية والأحمدية القاديانية[27] ؛ إلا أن تأييد البريطانيين للحركة الوهابية سواء في الجزيرة العربية أو الهند اعتمد على وعيهم بنقطة الضعف الأساسية لدى الوهابيين والتي أشار إليها مستر ستيفن لونجريك : " كان انفعالهم من تعاليم الدين المحرفة يزيد كثيراً على ما يضمرونه من حنق على اليهود أو النصارى . وكانوا يضمرون للخليفة وكل شيء تركي استهانة لا تحتمل "[28] ، وبالتالي فلم يكن العدو الرئيسي والمباشر بالنسبة للوهابيين هم الإنجليز بقدر ما هم المسلمين المخالفين لهم ، وبقدر ما كان الوهابيين غير قادرين على التعامل بمرونة أو تسامح مع المسلمين المخالفين ، فقد كانوا قادرين على التسامح مع القوى الخارجية والتعاون معها أحياناً ، كما كان عدائهم للخلافة العثمانية والتي تبنت التصوف السني والمعتقد الأشعري المخالف يمثل مكسباً بالنسبة للسياسة البريطانية في الشرق[29] .

 

   الدور الحالي للحركات التكفيرية :

   في كتابهما " فخ العولمة " يقول هانس – بيتر مارتن وهارالد شومان عن هذه الرأسمالية التي كانت صاعدة بقوة إندفاع الطائرات النفاثة : " هي في طريقها لهدم الأساس الذي يضمن وجودها : أعني الدولة المتماسكة والاستقرار الديموقراطي . فالتغيير وإعادة توزيع السلطة والثروة يقضيان على الفئات الاجتماعية القديمة بسرعة لا تعطي الجديد فرصة لأن يتطور على نحو متزامن معها . وهكذا أخذت البلدان التي تعتبر حتى الآن بلدان الرفاهية تستهلك رأسمالها الاجتماعي ، الذي يضمن لها حتى الآن الوحدة والتماسك ، بخطى سريعة جداً تفوق حتى الخطى التي تدمر بها البيئة "[30] .

   إن " العولمة " إذن في مرحلة صعودها تفترض تآكل قدرات الدولة وتقييد فاعليتها ، وتحويل السياسيين لرجال مسلوبي الإرادة ، كما يقول المؤلفان[31].

   ويؤكد دكتور سمير أمين في محاضرته بندوة العرب والنظام العالمي الجديد سنة 1998 ، على أن أحد أهداف العولمة هو ضرب النظم الحكومية وتفتيت المجتمعات  : " هذا النوع من العولمة لا يمكن أن ينتج أي نوع من السلام أو القبول الاجتماعي . فهو نظام قائم على الانفجار المستمر، على انفجارات وانتفاضات مستمرة . فسياسة إدارة الأزمات [تتم] إما من خلال التدخل العسكري المباشر، كما حدث في حرب الخليج الثانية، أو من خلال تحريك القوة التي تؤدي إلى التخلص من نظم الدولة باسم الإثنية والدين واللامركزية، لدرجة أن الهدف هو (إدارة الأزمة) من خلال ضرب النظم الحكومية، نظم الدولة وكسرها نهائياً، وتفتيت المجتمعات إلى مجتمعات لا نهاية لها على أسس إثنية ودينية وغيرها. وسياسة إدارة الأزمة لها جانبان : جانب اقتصادي يتمثل في أسعار الفائدة والديون الخارجية، وجانب سياسي يتمثل في الاستغلال الواعي للقوى التي تؤدي إلى تفتيت النظم، نظم الدولة "[32] .

   وقد استخدمت الرأسمالية المركزية (بحسب تعريف الدكتور سمير أمين) المجموعات التكفيرية كأحد وسائلها لتحقيق حالة المحاجزة بين المجتمعات الإسلامية وإثارة النعرات الطائفية والدينية داخلها بهدف تحقيق أغراض العولمة الأساسية وهي أولاً : إضعاف الدولة المركزية ، ثانياً : تفتيت هذه المجتمعات حتى القدر الأقصى .

   أن تقسيم دول العالمين العربي والإسلامي إلى دويلات ذات محاجزات قومية أو دينية وطائفية يتطابق مع المشروع الذي خطط له المستشرق الأمريكي (بريطاني الأصل) الصهيوني برنارد لويس ، والمختص بتاريخ العالم الإسلامي ، ومع معرفته التامة بتزايد حجم التناقض في المصالح بين هذه تنوعات العالم الإسلامي المختلفة فقد أكد على أن بقاء الكيان الصهيوني وبالتالي بقاء المصالح الغربية (والأمريكية بشكل خاص) في المنطقة لن يستمر دون تفتيت وحداتها السياسية الكبرى بناء على الانتماءات القومية والطائفية ، وهو ما سيعمق الاختلافات بين هذه الوحدات القزمية المفتتة ، كما سيمنح الكيان الصهيوني الشرعية المفتقدة للبقاء ككيان معبر عن اليهود .

   لقد وضع برنارد لويس هذا المشروع في ستينات القرن الماضي ، إلا أن البداية كانت في عام 1968 عندما قرر الرئيس الأمريكي نيكسون اللجوء إلى الجدل الديني في محاولة لمخاطبة الأغلبية البروتستانتية البيضاء لضمان أصواتها ، وتحويل الكادحين الأمريكيين من التصويت على أساس المكاسب الاقتصادية والاجتماعية إلى التصويت على الأسس العرقية والدينية ، وهو ما مثل مقدمة الانقلاب على الحقوق الممنوحة للعمال لاحقاً في عهد رونالد ريجان .

   إن تفتيت المجتمعات على أسس من الاختلافات الثقافية (قومية أو دينية) يهدف إلى إسقاط الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للكادحين بها ، ومحاولة توجيه الصراع إلى الناحية القومية أو الدينية . وليس من قبيل الصدفة أن تبدأ هذه الدعوات التفتيتية في أعقاب هزيمة 1967 والتي كانت مؤشراً إلى تراجع المشروع التقدمي في العالم وتغول الرأسمالية كقوة منفردة .

   لقد ساهمت النخب السياسية العربية العلمانية في هذا المشروع ، وكانت البداية في مصر ، عندما سعى نظام السادات في السبعينات لتبني شعارات دينية ودعم تيارات التكفيرية التي تروج لرؤية متطرفة ورجعية للدين وتسعى للخلط بين المنظومة الثقافية للأغلبية وبين الحقيقية الدينية والانتماء الوطني بحيث يتهم كل المختلفين معها بالخروج عن الدين والوطنية معاً[33] ، وذلك بهدف مواجهة التيارات الوطنية كاليسار والقوميين ، وتبرير الانقلاب على السياسات الاشتراكية التي تبناها الزعيم جمال عبدالناصر تمهيداً لفتح المجال أمام الرأسمالية الطفيلية للسيطرة على الأوضاع في مصر . وهي ذات السياسات التي واصل مبارك تنفيذها ، بل وكان نظامه حريصاً في سبيل مواجهته للجماعات الإرهابية على أن يبدو متحدثاً شرعياً عن الإسلام ، وبالتالي فقد تورط في بعض الممارسات القمعية الفكرية تحت ضغط محاولته الظهور بمظهر المدافع عن الإسلام ، كاضطهاد المفكرين[34] والقضايا الملفقة لبعض المجموعات الدينية مثل الشيعة ، البهائيين ، الأحمدية والقرآنيين ، بالاضافة للتعامل الدوني مع المسيحيين كمواطنين أقل درجة .

   يؤكد سكوت هيبارد في كتابه " السياسات الدينية والدول العلمانية " أن نظام مبارك ربح المواجهة الأمنية مع الجماعات الإرهابية ، لكنه في الوقت نفسه أكد على شرعية المنظومة الدينية لها بعد أن تبنى ذات الخطاب وسمح لها بالتغلغل في مرافق الدولة لتصبح هي المنظومة السائدة للإسلام ، وهو ما دعم هذا التيار في فترة ما بعد ثورة يناير 1911 .

   لقد كان الدور الذي أوكله الغرب لهذه المجموعات التكفيرية ودعمه اللانهائي لهم واضحاً للغاية في الأزمات التي شهدها العالم العربي والإسلامي مؤخراً سواء في أفغانستان ، أو في سوريا ، العراق واليمن أخيراً ، وكانت النتائج الواضحة في كل هذه الدول هي إنهيار الدولة المركزية واقتراب هذه الأوطان من التشظي وضياعها كوحدة سياسية .

   لكن في المقابل من الضروري التأكيد أن نجاح تنظيمات تكفيرية رجعية في تحقيق تواجد فاعل بمجتمعات حضارية ضخمة كمصر وسوريا والعراق واليمن لولا أزمة الوعي الديني والإنساني التي تعاني منها هذه المجتمعات .

   نتائج :

1-  إن استعراض تاريخ نشأة التيارات التكفيرية في العصر الحديث ، يشير بوضوح لوجود علاقات بين مؤسسها محمد بن عبدالوهاب وبين الاستعمار البريطاني لمنطقة الخليج والذي استخدمها كأداة لإضعاف الدولة العثمانية المسيطرة على الضفة العربية من الخليج ، كما واصل استخدامها كأحد الآليات في مستعمراته بالهند ، مما يؤكد أنها مجموعات وظيفية للغرب[35] .

2-  إن هذه التيارات التكفيرية واصلت التعاون مع الأمريكيين في محاولة تحطيم المجتمعات العربية مع بداية حكم الرئيس المصري أنور السادات الذي استعان بجهودها للقضاء على التيارات الوطنية ، وكانت من بين القوى المستخدمة من قبل الغرب لفرض سياسات العولمة على المجتمعات العربية والإسلامية .

3-  كان لهذه التيارات التكفيرية دور كبير في محاولة تفتيت العراق وسوريا عقب ثورات الربيع العربي ، كما أن لها دور حالي في اليمن .

4-  أن حالة التراجع الحضاري والثقافي للمجتمعات العربية والإسلامية هي التي مكنت من تحقيق القوى التكفيرية للعديد من النجاحات مؤخراً ، بالرغم من تخلف ورجعية أطروحتها الدينية ، مقابل كون هذه المجتمعات ذات حضارات قديمة وراسخة في وعي أبنائها .

 

 

أحمد صبري السيد علي
المنصورة - مصر



[1] - حسين بن غنام – روضة الأفكار والأفهام المعروف ب " تاريخ نجد " - تحقيق / ناصر الدين الأسد – تعليق / عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ – طبعة دار الشروق – القاهرة 1994 - ص 81 ، السيد جعفر السبحاني – الملل والنحل - م . س – ج 4 ص 334 ، محمود شكري الالوسي – تاريخ نجد – تحقيق وتعليق / محمد بهجة الأثري – (بدون ذكر دار النشر) – الطبعة الثالثة 1415 - ص 111 .

[2] - أحمد زيني دحلان – فتنة الوهابية – موقع السنة www.sunna.info ، محمود شكري الالوسي – م . س - ص 111.

[3] - م . س – ج 4 ص 336 .

[4] - م . س – ص 112 ، حسين بن غنام - م . س – ص 82 .

[5] - حسين غنام - م . س – ص 82 ، محمود شكري الآلوسي - م . س – ص 112 .

[6] - سليمان بن عبد الوهاب – الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية – موقع عقائد www.aqaed.com بتاريخ (2007-11-14) – ص 4 .

[7] - حسين بن غنام - م . س – ص 82 ، محمود شكري الآلوسي - م . س – ص 112 ، محمد جواد مغنية – هذه هي الوهابية - موقع عقائد www.aqaed.com بتاريخ (2007-11-14) – ص 123 .

[8] - م . س – ص 192 ، 228 .

[9] - حسين بن غنام – م . س – ص 83 ، الآلوسي – م . س – ص 112 .

[10] - الآلوسي – م . س – ص 114 .

[11] - محمد جواد مغنية – م . س – ص 124 .

[12] - حسين بن غنام – م . س – ص 85 ، م . س – ص 114 .

[13] - حسين بن غنام – م . س – ص 85 – 86 .

[14] - م . س – ص 86 ، الآلوسي – م . س – ص 114 .

[15] - حسين بن غنام – م . س – ص 84 .

[16] - الآلوسي – م . س – ص 115 .

[17] - م . س – ص 116 .

[18] - م . س – ص 116 ، حسين بن غنام – م . س – ص 87 .

[19] - ستفين لونجريك – م . س – ص 255 - 261 .

[20] - م . س – ص 255 .

[21] - ناصر سعيد – م . س – ص 29 – 30 .

[22] - م . س – ص 31 .

[23] - الآلوسي – م . س – ص 117 – 118 .

[24] - ميرزا طاهر أحمد – هل الأحمدية غراس الإنجليز ؟ .. حقائق تاريخية – ترجمة / عبد المؤمن طاهر ، مراجعة / محمد حلمي الشافعي – (بدون ذكر مكان الطباعة) 2001 – ص 16.

[25] - د . رأفت الشيخ وآخرون - تاريخ آسيا الحديث والمعاصر – القاهرة 2004 – ص 315 – 318 .

[26] - بهاء الله - ألواح حضرة بهاء الله إلى الملوك والرؤساء - البرازيل 1983 - ص 53 ، شوقي أفندي رباني – القرن البديع – ترجمة / السيد محمد العزاوي - منشورات دار النشر البهائية – البرازيل 2002 - ص 132 – 133 .

[27] - م . س – ص 8 ، ميرزا طاهر أحمد – موقف الأحمدية من الجهاد – لندن 2001 – ص 9 ، شوقي أفندي رباني – النظام البديع – الإسكندرية 1934 – ص 10 ، صالح عبد الله – أضواء على البهائية – القاهرة 1986 – ج 6 ص 14 .

[28] - ستيفن لونجريك – م . س – ص 255 .

[29] - ميرزا طاهر أحمد – هل الأحمدية غراس الإنجليز - م . س – ص 16 ، أحمد زيني دحلان – الدرر السنية في الرد على الوهابية – استانبول 1993 – ص 40 .

[30] هانس – بيتر مارتن ، هارالد شومان . فخ العولمة . ترجمة / عدنان عباس علي . مراجعة / د. رمزي زكي . دورية عالم المعرفة . الكويت 2003 . ص 47 .

[31] م . س . ص 48 .

[32] يوسف سلامة . الثقافة والسلطة في ظل العولمة . مقال بموقع معابر http://www.maaber.org . بتاريخ (8 سبتمبر 2016) .

[33] دائماً ما توجه التيارات الرجعية تهمة الخيانة والعمالة للخارج للمسيحيين والتيارات العلمانية وحتى للمجموعات الدينية الإسلامية المختلفة معها فكرياً .

[34] تعرض عدد من المفكرين العلمانيين مثل نصر حامد أبو زيد ، محمد سعيد العشماوي للقمع الفكري في عهد مبارك بسبب آرائهم الدينية التي لم تتفق مع الرؤية الرجعية الوهابية .

[35] الجماعات الوظيفية : مصطلح صاغه الدكتور عبدالوهاب المسيري ويعبر عن مجموعات بشرية تستجلبها المجتمعات الإنسانية من خارجها ، في معظم الأحيان ، أو يتم تجنيدها من بين أعضاء المجتمع نفسه ، ويوكل لها زائف شتى لا يمكن لغالبية المجتمع القيام بها ، وقد استخدمت المصطلح بقدر من التصرف لوصف توظيف الغرب لهذه الجماعات .