السُنّة من وجهة نظر المذاهب الإسلاميّة

السُنّة من وجهة نظر المذاهب الإسلاميّة

 

 

السُنّة من وجهة نظر المذاهب الإسلاميّة

 

عبد الكريم آل نجف

 

أهمية الدراسات الأصولية المقارنة:

يُعنى الفكر الأصولي باستنطاق روح التشريع الإسلامي وتفعيل القواعد التي تجعله تشريعاً قادراً على الامتداد في المكان والزمان المطلوبين، وهو الفكر المسؤول إلى حد بعيد عن إشباع متطلبات الزمان والمكان واستيعابهما مهما امتدا، وهذا يعني أنه فكر أحوج ما يكون إلى النمو، ومتى ما توقفت حركته نحو النمو والتجديد أصبح عاجزاً عن أداء وظيفته التي وجد من أجلها.

ولكي يحقق النمو المتواصل أهدافه المطلوبة لابد للفكر الأصولي الإسلامي من التواصل مع الاختصاصات الفكرية المشابهة لـه والمناظرة لوظيفته أو ذات العلاقة به من قريب أو بعيد، سواء أكانت هذه الاختصاصات دينية أم وضعية، أكاديمية أم غير أكاديمية؛ كالعلوم والنظريات اللغوية والقانونية والأكاديمية الحديثة.

ولعل الحاجة الأُولى والأهم والأقرب إلى المستطاع تتمثل بضرورة التواصل الفكري في الميدان الأصولي بين المدرستين السنية والإمامية، فإنهما مدرستان غنيتان

ـ(218)ـ

لكنّ كلا منهما منفصلة عن الأخرى في الخط والمنهج والمعطيات، ولو إنهما تعاونتا وتعاضدتا لعمهما رخاء فكري كبير وازدهار علمي ليس بعده ازدهار، فكما أثريت المدرسة الإماميّة من خلال حلبة البحث الفكري المطّرد والمتوثب طيلة القرنين الماضيين، فإن الفكر الأصولي الإسلامي العام يمكنه أن يزدهر أكثر إذا ما تلاقحت أفكار المدرستين مع بعضهما، فاستعانت المدرسة السنية بما تختزنه المدرسة الإماميّة من معطيات ومناهج ونظريات، وسلكت المدرسة الإماميّة الاتجاه نفسه وتلاقحت خزائن القرون المتطاولة لكلتا المدرستين مع بعضها.

وكمثال على ذلك نجد أن المدرستين تناولتا موضوع السنّة الشريفة بالدراسة والتحليل العلمي بدرجات وإشكال ومناهج مختلفة، وكانت النتائج متفاوتة أيضاً، ولو انا توفرنا على دراسة هذا الموضوع الحيوي والمهم من التشريع الإسلامي بشكل مقارن لخرجنا بنتائج تغني المدرستين معاً، وتسهم في ترشيد الحركة الأصولية الإسلاميّة بصورة عامة وبالشكل الذي يؤدي إلى تحقيق الغرض المطلوب من علم الأُصول.

 

مكانة السنّة لدى المسلمين:

تحتل السنّة مكانة خاصة لدى المسلمين، وهي تأتي بالمرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، وقد أجمع المسلمون على هذا إلاّ من شذ وندر من الخوارج وأيدهم في ذلك الزنادقة (1).

والأهمية التشريعية للسنّة تتمثل في كونها المصدر الثاني في التشريع الإسلامي، ولولاها لأصبح هذا التشريع مجملاً لا يشتمل إلاّ على الروح والأصول التشريعية العامة مع عددٍ غير كافٍ من الأحكام التفريعية.

________________________________

1ـ أُصول الفقه الإسلامي 1: 450، د. وهبة الزحيلي.

ـ(219)ـ

والسنة لغة تعني الطريقة المسلوكة بنحو الدوام والاستمرار، وفي الاصطلاح الفقهي يراد بها معنىً مرادفاً للاستحباب تارة ومعنى مقابلاً للبدعة تارة أخرى، وقد يُستعمل المعنى الثاني في الإصلاح الكلامي أيضاً، أما في الاصطلاح الأصولي فالقدر المتفق عليه بين المذاهب الإسلاميّة هو أن السنّة هي قول النبي صلى الله عليه وآله أو فعله أو تقريره؛ وحيث يُثبت المذهب الأمامي بأدلّة عديدة أن المعصوم من آل البيت عليه السلام يجري قولـه وفعله وتقريره مجرى قول وفعل وتقرير النبي صلى الله عليه وآله وأن الأئمة عليهم السلام هم الحجج على العباد من بعد النبي صلى الله عليه وآله لذا فقد توسعوا في تعريف السنّة بحيث يشمل سنة الإمام عليه السلام فأصبحت السنّة باصطلاحهم تعني ,قول المعصوم أو فعله أو تقريره»(1).

وحجية السنّة أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان وإثبات لمن استقامت سليقته واعتدلت طريقته، ولو لم تكن حجّة لكانت وصايا النبي صلى الله عليه وآله وتعاليمه وتوجيهاته لغواً، ولما احتاج المسلمون إلى أقواله صلى الله عليه وآله، ولأصبحت إجاباته عن أسئلتهم بغير طائل بل لكانت آيات القرآن الداعية إلى التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وطاعته والأخذ عنه والانتهاء بنهية لاغية لا معنى لها؛ ومن هنا قال العلامة السيد محمد تقي الحكيم: «أني لا أكاد افهم معنىً للإسلام بدون السنّة، ومتى كانت حجيتها بهذه الدرجة من الوضوح فإن إقامة البرهان عليها لا معنى لـه، لأنّ أقصى ما يأتي به البرهان هو العلم بالحجية وهو حاصل فعلاً بدون الرجوع إليه، ولكن الأعلام من الأصوليين درجوا على ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولابد لنا من مجاراتهم في هذا المجال...»(2). والحقيقة ان فقهاء وأصوليي المذاهب الأربعة اقاضوا في إثبات حجية السنّة وتوسعوا في النقض والإبرام بما

________________________________

1ـ أُصول الفقه 2: 61، محمد رضا المظفر.

2ـ السنّة في الشريعة الإسلاميّة: 12، محمد تقي الحكيم (فصل مستقل من كتابه الأُصول العامة للفقه المقارن).

ـ(220)ـ

لا مزيد عليه، كالإمام الشافعي في كتابه «الاُم»، وحجة الإسلام الغزالي في كتابه «المستصفى من علم الأُصول»، ومحمد بن علي الشوكاني في كتابه «إرشاد الفحول إلى علم الأُصول»، والشيخ محمد أبي زهرة في كتابه «أُصول الفقه»، والشيخ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه «أُصول الفقه الإسلامي»، وغيرهم من القدماء والمتأخرين والمحدثين، بينما طوى أصوليو المذهب الأمامي صفحة هذا البحث ولم يتناولوه اعتماداً على بداهته وكونه نوعاً من تحصيل الحاصل، كما نقلنا عن السيد محمد تقي الحكيم الذي طرح هذا البحث مجاراةً لما جرى عليه أصوليو المذاهب الأربعة، حيث استدلوا على حجية السنّة بما يلي:

1ـ القرآن الكريم:

فهو الذي أرشد إلى حجية السنّة النبوية بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(1).

﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(2).

﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾(3).

واستدلّ الغزالي بقوله تعالى:

﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى _ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(4).

مبينا ان بعض الوحي يتلى فيسمّى كتابا وبعضه الاخر لا يتلى فيسمى سنّه(5)،

________________________________

1ـ سورة النساء: 59.

2ـ سورة الحشر: 7.

3ـ سورة النساء: 80.

4ـ سورة النجم: 3- 4.

5ـ المستصفى 1: 129، أبو حامد الغزالي، قم- إيران.

ـ(221)ـ

فسنّة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم جزء من الوحي الإلهي الذي تجب طاعته.

2 ـ السنّة:

واستدلّ بعضهم على حجية السنة بالسنة نفسها ، كقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدهما أبداً : كتاب الله وسنة نبيه». وعلّق السيد محمد تقي الحكيم على هذا الاستدلال بأنه «لا يخلو من غرابة لوضوح لزوم الدور فيه»(1)، لأن الشيء لا يمكن ان يثبت نفسه إلاّ على نحو دائر.

 

3 ـ الإجماع :

واستدلّوا على حجية السنة بالإجماع أيضاً ، وأشكل السيد الحكيم أيضاً على أن الإجماع أن كان مصدره السنة فيلزم من الاحتجاج به الدور وهناك من لا يرى حجية الإجماع فلا يمكن الاحتجاج به عليه

 

4 ـ العقل :

 ببيان أن العقل حكم بعصمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن الذنب والخطأ والسهو ، فإذا ثبتت نبوّته عصمته، وإذا ثبتت عصمته ثبت أن سننه نحوٌ من التشريع ، لأن إبلاغ الرسالة يتم لا محالة بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره ، وإثبات أن هذا القول والفعل والتقرير جزء من الرسالة متوقف على إثبات العصمة عن الخطأ والذنب والسهو ، وقد ثبتت بإجماع المسلمين عليها في الجملة ؛ وعلّق السيد محمد تقي الحكيم على هذا الدليل بأنه «من امتن ما يمكن أن يُذكر من الأدلة على حجية السنة ، وإنكاره مساوق لإنكار النبوة من وجهة ؟؟؟؟

_______________________________________

1 ـ السنة في الشريعة الإسلامية : 14 ، محمد تقي الحكيم.

ـ(222)ـ

عقلية، إذ مع إمكان صدور المعصية منه، أو الخطأ في التبليغ، أو السهو، أو الغفلة لا يمكن الوثوق أو القطع بما يدّعي تأديته عن الله عز وجل، لاحتمال العصيان أو السهو أو الغفلة أو الخطأ منه، ولا مدفع لهذا الاحتمال»(1).

رغم أنه أشكل على هذا الدليل ثمّ رد الأشكال بمحاولة لا تخلو من الصعوبة والتعقيد بصورة تثير التساؤل عن السر الذي جعله يصف هذا الدليل بأنه امتن الأدلة بدلاً من الدليل القرآني الذي لا يحتاج إلى هذه العناية الفكرية الواسعة.

وواصل أصوليو المذاهب الأربعة هذا البحث فأخذوا يناقشون أدلة المنكرين لحجية السنّة القائلة بأن كتاب الله وصف نفسه بأن تبيان لكل شيء، وأن القرآن لو احتاج إلى السنّة لما كان تبياناً لكل شيء ولكان مفرّطاً؛ ثمّ أن الله سبحانه تكفل بحفظ القرآن ولم يتكفل بحفظ السنّة.

وردّوا هذه الأدلة بأن القرآن ارشد إلى السنّة، وحينئذ تكون بيانات السنّة بمنزلة البيانات القرآنية، ويكون القرآن تبياناً لكل شيء، ولولا السنّة لا يكون القرآن كذلك بدلالة الوجدان، لأن أكثر الشريعة مأخوذ من السنّة كأجزاء الفرائض وشرائطها وسننها ومبطلاتها وموانعها وأكثر أبواب الفقه في المعاملات والإيقاعات(2).

وفي هذا السياق ذكروا أن الزنادقة والخوارج وضعوا حديثاً يقول: «ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وان خالف فلم أقله وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني»(3). ونسب إلى الشافعي انه قال عن هذا الحديث: «ما رواه أحد ممن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير»(4).

________________________________

1ـ السنّة في الشريعة الإسلاميّة: 14، محمد تقي الحكيم.

2ـ أُصول الفقه الإسلامي: 458ـ 460، د. وهبة الزحيلي.

3ـ إرشاد الفحول: 33، محمد بن علي الشوكاني.

4ـ أُصول الفقه الإسلامي 458، د. وهبة الزحيلي.

ـ(223)ـ

وردّوا هذا الحديث بأنّه موضوع مختلق تارة، وبأنه عُرض على الكتاب فأمر الكتاب بالأخذ بسنّة الرسول وطرح هذا الحديث تارة أخرى.

ومعلوم أن فكرة عرض الأحاديث على القرآن لتمييز السليم منها عن السقيم هي ممّا يتبناه علماء الأُصول الأماميون في مجالات حل التعارض بين الأدلة الشرعية، ولديهم في ذلك روايات كثيرة صحيحة تدل على الأخذ بما وافق كتاب الله وضرب ما خالفه عرض الجدار لأنه زخرف.

وهكذا فإن فكرة العرض على القرآن لا تنسف حجية السنّة، ولا ضرورة في نسبتها إلى الخوارج والزنادقة؛ ولو أنّها تنسف حجية السنّة لنسف الحديث المذكور نفسه، ولأصبح احتجاج الخوارج به لغواً، فكما ان إثبات السنّة بالسنة أمر دائر، فكذلك إبطال السنّة بالسنة نفسها أمر باطل. ولا شك أنّ عدم تواصل المدرستين الأصوليتين السنية والإمامية هو العامل المسؤول عن ظهور مثل هذه المفارقة العلمية بشكل يبيّن مدى الحاجة إلى هذا التواصل العلمي.

ويبدو أنّ الشاطبي قد فهم- كغيره من أصوليي السنّة- من الحديث المذكور أن السنّة تصبح فيه راجعة إلى الكتاب، فعلّق قائلاً: «ولقد ضلت بهذه الطريقة طوائف من المتأخرين.. فالقول بها والميل إليها ميل عن الصراط المستقيم» (1). ولكن بعد أربع صفحات عاد فقال: «وإذا كان الحديث مخالفاً يكذّبه القرآن والسنة وجب أن يدفع ويعلم أنه- أي الرسول صلى الله عليه وآله- لم يقله، والحاصل من الجميع صحة اعتبار الحديث بموافقة القرآن وعدم مخالفته». وهذا تهافت واضح، فأن التعليق الأخير هو عين مضمون فكرة عرض السنّة على القرآن التي اعتبر القول بها ميلاً عن الصراط المستقيم.

ومن الراجح أن منكري حجية السنّة تمسكوا بهذا الحديث بصفته دليلاً على

________________________________

1ـ الموافقات 4: 19، أبو إسحاق الشاطبي.

ـ(224)ـ

مدّعاهم دون التفاتٍ منهم إلى أنه لا ينهض دليلاً على ذلك البتة، وبمرور الزمن أصبح علامة يعرف بها هؤلاء بحيث جعلت المدافعين عن حجية السنّة يغفلون عن عدم دلالة الحديث على إنكار حجية السنّة، ويقعون في نفس المفارقة العلمية التي وقع فيها المنكرون.

لا يقال: إن الحديث إذا كان لـه أو عليه شاهد من الكتاب يؤيده أو ينفيه فحينئذٍ يكون الشاهد القرآني هو الحجة لا الحديث المشهود لـه أو عليه، وحينئذٍ لا معنى لشهادة القرآن إلاّ إلغاء السنّة عملياً، فإنه يقال: إنّ ذلك الشاهد القرآني قد لا يكون جلياً واضحاً في نفسه، فيحتاج إلى إشارة من السنّة تدل عليه وتشير إليه، وكم من الأمور التي تقع في امتداد القرآن لكننا لا يمكننا ان نكتشفها، فتأتي السنّة لتكشف عنها وتقول: إنّ هذا ممّا يوافق القرآن فنأخذ به.

وفي خاتمة البحث عن حجية السنّة تجدر الإشارة إلى أنّ السنّة- وحيث ثبت كونها جزءاً من الوحي والتشريع- لا تتناسب مع وصف الاجتهاد، وما اعتقده بعضهم من ان النبي صلى الله عليه وآله يجتهد أحياناً، فإن الاجتهاد لا يمتنع فيه السهو والخطأ، ومن غير الممكن أنّ يقع الخطأ والسهو في سنة الرسول صلى الله عليه وآله، فلا يصحّ قول بعضهم: «ان اجتهاد الرسول صلى الله عليه وآله في الأحكام أساسه القرآن وروح التشريع» (1) بخاصة وأن هذا القائل أثبت حجية السنّة بعصمة النبي صلى الله عليه وآله عن الذنب والخطأ والسهو.

وذكر الشاطبي في الموافقات: «أن الحديث إمّا وحي من الله صرف، وأما اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وآله معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة، وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله، لأنّه صلى الله عليه وآله ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى _ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه فلا يقر عليه البتة، فلابد من الرجوع إلى

________________________________

1ـ أُصول الفقه الإسلامي: 463، د. وهبة الزحيلي.

ـ(225)ـ

الصواب»(1)، أي إن الله سبحانه لا يقر النبي على اجتهاده الخاطئ فيرجعه إلى الصواب قبل أن يعمل به.

وهذا رأي لا يكاد يستقر على وجه، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله إذا كان لا ينطق عن الهوى، وان هو إلاّ وحي يوحى فيكون كلّ حديثه وحياً يوحى، فلا وجه لتقسيم السنّة إلى الوحي والاجتهاد، وما معنى الاجتهاد إذا كان الصواب فيه أمراً حتمياً ؟

وما هي حاجة النبي صلى الله عليه وآله إلى الاجتهاد الذي يؤدي إلى حكم قد يوافق الواقع وقد يخالفه، وهو قادر على تحصيل الحكم الواقعي من الوحي مباشرة ؟

إنّ فكرة اجتهاد النبي صلى الله عليه وآله التي درج عليها أُصوليو المذاهب الأربعة تحتاج إلى بحث مستفيض وفرصة كافية، لأنها من نقاط الاختلاف المهمة بين المدرستين الأصوليتين: المدرسة الإماميّة ومدرسة المذاهب الأربعة.

السنة النبوية من منظار علماء المذاهب الأربعة:

أفاض علماء المذاهب الأربعة في دراسة السنة النبوية بوصفها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، فبحثوا في المعنى اللغوي للسنّة، ثمّ المعنى الاصطلاحي وهو الذي تسالم عليه المسلمون- في الجملة- من كونها قول النبي صلى الله عليه وآله وفعله وتقريره واستدلّوا على حجيتها، وناقشوا المنكرين لها، ثمّ قسموها تارة إلى السنة القولية والفعلية والتقريرية، وتارة أخرى إلى السنّة المتصلة السند وهي الأخبار المتواترة وأخبار الآحاد، والسنة غير المتصلة السند وهي المراسيل، ثمّ عرّفوا كلّ قسم من هذه الأقسام وحكمه وشروطه.

فالسنّة المتواترة هي «ما رواها عن الرسول وآله جمع يمتنع عادةً تواطؤهم على

________________________________

1ـ الموافقات 4: 21، أبو إسحاق الشاطبي، دار المعرفة، بيروت.

ـ(226)ـ

الكذب في العصور الثلاثة الأُُولى: عصر الصحابة، أو التابعين، وتابعي التابعين (1)، لأنّ النقل بعد ذلك صار بطريق التدوين؛ وحكم التواتر أنه يفيد العلم واليقين وأن جاحده كافر(2)، وان الاحتجاج به بقوة الاحتجاج بالقرآن (3)، وذكروا للتواتر شروطاً عديدة اتفقوا على ثلاثة منها هي:

1ـ أن تكون الرواية مستندة إلى الحسّ لا إلى العقل.

2ـ أن يستوي طرفا التواتر ووسطه في العدد المطلوب من الرواة، وفي كون الرواية عن حسّ ولا تستند إلى العقل، أي أن النقل في العصور الثلاثة يكون مشتملاً على الشرطين الأول والثالث، فلا يتخلف عصر منها عن أحد الشرطين.

3ـ تعدد الرواة بحيث يمتنع التواطؤ على الكذب (4)، ولا صحة لما ذكر من التحديد بخمسة أو سبعة أو عشرة أو ثلاثمائة... لأن هذه التحديدات لا ترجع إلى أساس عقلي ولا نقلي (5)، والمدار هو إفادة الخبر المتواتر للعلم.

أمّا سنّة الآحاد فهي «ما رواها عن الرسول صلى الله عليه وآله آحاد لم تبلغ عدد التواتر»، وحكمها أنها تفيد الظن لا اليقين ويؤخذ بها في الفروع دون الأُصول الاعتقادية للشك في ثبوتها؛ واختار الآمدي أنّها تفيد اليقين إذا احتفّت بها القرائن، وقال الجمهور إنّها مقبولة في الحدود، وخالف في ذلك أكثر الحنفية(6).

واستدلّوا على حجية خبر الواحد بأدلّة عديدة منها:

1ـ القياس على قبول شهادة العدلين، فإنّها قائمة على أساس ترجيح جانب الصدق على جانب الكذب؛ وكذلك خبر الواحد نعمل به ترجيحاً لصدقه على كذبه،

________________________________

1ـ أُصول الفقه الإسلامي: 452، د. وهبة الزحيلي.

2ـ المصدر نفسه: 453.

3ـ أُصول الفقه: 108، محمد أبو زهرة.

4ـ أُصول الفقه الإسلامي: 452، د. وهبة الزحيلي.

5ـ المصدر نفسه: 453.

6ـ المصدر نفسه: 454.

ـ(227)ـ

وأيّد بعضهم ذلك بأن العقل يحكم بالعمل بما هو راجح الصدق، وعدالة الراوي المشترطة في خبر الواحد تجعل الصدق راجحاً على الكذب.

2ـ قول النبي صلى الله عليه وآله «نظر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها»، ومعلوم أنّ الاحتجاج بهذا الحديث متوقف على تواتره، لأنه إن كان من خبر الواحد لا يصحّ الاستدلال به على حجية أخبار الآحاد، بل قد يقال أنه لا يصلح للاحتجاج حتى على فرض كونه متواتراً؛ فقد تكون الحجية للخبر الذي يرويه عدة سامعين على نحو التواتر ويؤدّونه للآخرين، وغاية ما في هذا الحديث الحث على أن يسمع المؤمن الأخبار ويحفظها وينقلها للأجيال، وهو لا يلازم الحجيّة التي قد تكون خاصة بحالة ما إذا نقل عدة رواة خبراً ما بحيث يؤمن تواطؤهم على الكذب.

3ـ إجماع الصحابة على العمل بخبر الآحاد.

4ـ بعث النبي صلى الله عليه وآله اثني عشر رسولاً إلى اثني عشر ملكاً، فلولا أن خبر الآحاد حجّة لكان عمل النبي صلى الله عليه وآله هذا لاغياً.

وقد يناقش في هذا الدليل أيضاً بأن الحجية لم تكن لأُولئك الرسل أنفسهم، وإنّما كانت للكتب والرسائل التي وجهها النبي صلى الله عليه وآله للملوك، كما هو الأمر في بعثة الأنبياء فإن مجرد مجيء النبي إلى الناس لا يقوم حجّة عقلية عليهم، وإنّما الحجة هي الوثيقة التي يبرزها إليهم والتي تثبت نبوّته وهي المعجزة.

ثمّ بحثوا في شروط قبول خبر الواحد، وذكروا هنا عدة شروط- غير شرط العدالة- وهي:

1ـ أن لا يعمل الراوي خلاف الخبر الذي يرويه.

2ـ ألاّ يكون موضوعه ممّا تعم به البلوى، فإن خبر الواحد يكون بياناً شرعياً تاماً في موضوعات قليلة الابتلاء، ولا يكون كذلك في موضوعات يكثر الابتلاء بها

ـ(228)ـ

ويحتاج الحكيم لبيانها إلى تكرار وتأكيد.

3ـ أن لا يكون مخالفاً للقياس والأصول الشرعية، ويعمل بهذا الشرط في روايات غير الفقهاء، فإن نقل غير الفقهاء بالمضمون يؤدّي إلى نقيصة أو زيادة لا يلتفت إليها الراوي إلاّ إذا كان فقيهاً.

4ـ واشترط المالكية أن لا يكون الخبر مخالفاً لعمل أهل المدينة المنورة، لأن عملهم بمنزلة الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله.

5ـ واشترط الشافعي أن يكون الراوي واعياً ضابطاً لما يرويه.

وعلى غرار ذلك بحثوا في المراسيل.

ومن البحوث التي تناولوها أيضاً في باب السنّة البحث في منزلة السنّة من الكتاب، وعندهم أنّها المصدر الثاني وأنها تأتي في مرتبة متأخرة عن الكتاب. لأنها ظنية الثبوت والقرآن قطعي الثبوت (1)، وهذا الكلام يتناقض مع ما قررّوه في حكم المتواتر من السنّة، فقد بيّنوا هناك أنّ المتواتر يفيد العلم واليقين وأن الاحتجاج به بقوة الاحتجاج بالقرآن، فمعنى ذلك أن القرآن والسنة المتواترة بمنزلة واحدة، وأن التأخر عن الكتاب ليس رتبة لكل السنّة وإنّما لأخبار الآحاد منها خاصة.

وقد فنّد السيد محمد تقي الحكيم هذه الفكرة جملة وتفصيلاً ببيان يمكننا تلخيصه: بأن تقدم الكتاب على السنّة إذا كان بمعنى التقدم عليها عند التعارض بينهما فإن التعارض بين الكتاب والسنّة أمر لا يعقل، وما يحصل هو التعارض بين الكتاب والأخبار الحاكية عن السنّة لا السنّة نفسها التي هي عمل الكلام.

وإذا كان التقدم بمعنى الشرف والأولوية وأن الكتاب والسنة بمنزلة الدليل الواحد، فإن الحكم الكتابي لا يتم بيانه إلاّ بالسنة والحجية تتم بهما معاً، على أن التقدم بالشرف

________________________________

1ـ أُصول الفقه الإسلامي 460، د. وهبة الزحيلي.

ـ(229)ـ

والأولوية لا معنى لإدراجه في مباحث الأُصول، لأنه لا يؤدي إلى نتيجة استنباطية؛ وإذا كان بمعنى عدم النظر إلى السنّة إلاّ أحوجنا الكتاب إليها فهذا المعنى غريب إذ لا يعقل الاستغناء بالكتاب ومن السنّة بيانه وشرحه وشروط أحكامه، ثمّ ختم قائلاً: «فالحق أن السنّة في مجالات الاستدلال صنو للكتاب وفي رتبته»(1).

ويمكن أن يكون قولـه تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى _ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(2) دليلاً على ما ذهب عليه، فإن الآية تدل على أن الوحي ليس خاصاً بما يتلوه النبي صلى الله عليه وآله من القرآن وإنّما شامل لكل ما ينطق به، ولذا قسّم الغزالي الوحي إلى ما يتلى فيسمى كتاباً وما لا يُتلى وهو السنّة؛ وحينئذٍ فالكتاب والسنة يرجعان إلى أصل واحد وهو الوحي الذي هو وحدة شرعية واحدة لا يمكن التفكيك بين أجزائه ولا إجراء التفاضل بين هذه الأجزاء.

ومن البحوث التي تناولوها ضمن بحث السنّة بحث سنة الصحابة، حيث ذهبوا إلى حجية سنة الصحابة؛ قال الشاطبي: «سنة الصحابة- رضي الله عنهم- سنة يعمل عليها ويرجع إليها». واستدل على ذلك بثلاثة أدلة هي:

1ـ ثناء الله تعالى عليهم، مثل قولـه تعالى ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(3).

2ـ الحديث الوارد في وجوب أتباعهم مثل قولـه صلى الله عليه وآله: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ» وغير ذلك.

3ـ تقديم جمهور العلماء لأقوال الصحابة عند الحاجة إلى ترجيح الأقوال(4).

________________________________

1ـ السنّة في الشريعة الإسلاميّة 134- 137، محمد تقي الحكيم.

2ـ سورة النجم 3 و 4.

3ـ سورة آل عمران: 110.

4ـ الموافقات: 74- 77، أبو إسحاق الشاطبي.

ـ(230)ـ

ولو صحّت هذه الأدلة لكانت إثباتاً لعصمة الصحابة أو لشيء يساوق ذلك، ومهما كانت الحصيلة العلمية للمرء ضئيلة فإنّه- مع ذلك- يدرك آن الثناء على الصحابة لا يستلزم جعل الحجية لسنّتهم، وأن الصحابة اختلفوا بعد النبي صلى الله عليه وآله، وأن سير بعضهم قد تقاطعت، ولو كانت سنتهم حجّة لكان معنى ذلك أنّ الشارع يأمر بالشيء وضده معاً، كما أن تقديم أقوال الصحابة لا يستلزم القول بحجية سنتهم، فقد يكون ذلك على أساس أن الصحابة أدرى من غيره بسنة النبي صلى الله عليه وآله (1).

 

السُنّة في المدرسة الإماميّة:

تختلف المدرسة الإماميّة عن مدرسة المذاهب الأربعة في تناولها للبحث الأصولي، من جهة هيكلية البحث وطريقة التناول العلمي.

وإذا كانت المدرسة السنية قد أفردت باباً خاصاً للسنة ودرستها بعنوان أنّها المصدر التشريعي الثاني فذلك لأنها أفردت أبواباً لدراسة مصادر التشريع كلّ منها بعنوانه، بينما سار البحث الأصولي في المدرسة الإماميّة على أساس هيكلية أخرى، فتناولت السنّة في بعض المفردات، كمفردة حجية الخبر الواحد ولم تدرسها بعنوانها، باستثناء عدد قليل من الأعلام أفردوا باباً خاصاً للسنة في مؤلفاتهم ودرسوها بعنوانها، كما عليه الفاضل التوني في كتابه «الواقعية في أُصول الفقه»، والشيخ محمد رضا المظفر في «أُصول الفقه»، وما تناوله هذان العالمان يختلف عن منهج الأصوليين السنّة، فقد تناولا تعريف السنّة، ثمّ دراسة دلالات الفعل والقول والتقرير، ثمّ تقسيم الأخبار إلى السنّة متواترة وآحاد، ثمّ إثبات حجية خبر الواحد بالأدلة المختلفة، ولم يتناولوا البحوث الأخرى التي تناولها أصوليو السنّة من البحوث التي جعلها علماء الإمامية أما

________________________________

1ـ انظر مناقشة هذه الأدلة بالتفصيل في: السنّة في الشريعة الإسلاميّة: 21- 29، محمد تقي الحكيم.

ـ(231)ـ

من اختصاص علوم الحديث والدراسة، كالتفصيل في أقسام الحديث، وخصائص وحجية كلّ قسم منها، أو من اختصاص علم الكلام، كإثبات حجية سنة الأئمة الاثني عشر عليهم السلام.

والعنصر المشترك بين المدرستين يتمثل في إثبات حجية خبر الواحد، وقد مرّ بنا كيف استدلّ علماء المذاهب الأربعة عليها، والآن نحاول بيان كيفية استدلال المدرسة الأصولية الإمامية عليها متخذين كتاب «أُصول الفقه» للشيخ محمد رضا المظفر نموذجاً لذلك؛ فقد كانت الأدلة التي طرحها كالتالي:

1ـ القرآن الكريم، كآية النبأ:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(1).

فطرح وجه الاستدلال بها وهو مفهوم الشرط، فالآية تطلب التبيّن في خبر الفاسق، ومفهوم ذلك أن يكون خبر العادل مقبولاً ولا يحتاج إلى التبيّن.

ثمّ آية النفر: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (2).

ببيان أنّ الآية جعلت إنذار المنذرين المتفقهين لقومهم حجّة عليهم، ومعنى ذلك حجية خبر الواحد على من يمسعه.

ثمّ آية الكتمان: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ﴾(3).

بيان ان استنكار كتمان البينات يفهم منه وجوب بيانها، وحجية قول من يبيّنها على من يسمع ذلك البيان وإلاّ لكان تحريم الكتمان لغواً، إلاّ أنَّ المصنف ناقش في دلالة

________________________________

1ـ سورة الحجرات: 6.

2ـ سورة التوبة: 122.

3ـ سورة البقرة: 159.

ـ(232)ـ

الآية على المطلوب واعتبرها أجنبية عن المقام.

2ـ السنّة: ولابد أن تكون السُنّة هنا متواترة لأنّ الاحتجاج بالآحاد على الآحاد لأيتم لكونه دوراً؛ وبعد أن استعرض عدة طوائف من الروايات ردّ الاستدلال بها على المطلوب، ولم يعتبر أيّاً منها ممّا يمكن الاحتجاج به في المقام.

3ـ الإجماع الذي ادّعاه الشيخ الطوسي، وهناك ادعاء معاكس يدّعيه السيد المرتضى على عدم حجية خبر الواحد، ولذا فقد وقع بحث واسع في توجيه الادعائين المتعارضين، وأخيراً مال المصنف إلى ثبوت الإجماع في حجية خبر الواحد.

4ـ بناء العقلاء، ببيان أن العقلاء جرت سيرتهم على العمل بأخبار الآحاد، وهذه السيرة كانت قائمة في عصر النص ولم يثبت الردع عنها، فيستكشف من ذلك إمضاء الشارع لها، ووصف هذا الدليل بأنه قطعي لا يداخله الشك، ثمّ استشهد بقول الشيخ النائيني: «وأما طريقة العقلاء فهي عمدة أدلة الباب بحيث لا فرض انه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد على خبر الثقة والاتكال عليه في محاوراتهم».

وهكذا يثبت البحث الأصولي الأمامي حجية خبر الآحاد بعد نقض وإبرام طويلين، وبطريقة مغايرة لطريقة مدرسة المذاهب الأربعة (1).

ولعل أهم مائز يختلف فيه البحث الأصولي الأمامي عن البحث الأصولي لدى المذاهب الأربعة يتمثل في اعتبار سنة أئمة أهل البيت عليهم السلام جزءاً من سنة النبي صلى الله عليه وآله، ولذا عرّفوا السنّة بأنها: «قول المعصوم وفعله وتقريره»، والمعصوم في المصطلح

________________________________

1ـ أُصول الفقه 2: 63- 84، الشيخ محمد رضا المظفر.

ـ(233)ـ

الإمامي يشمل النبي والأئمة معاً، ولم يتطرقوا إلى إثبات ذلك في بحوثهم الأصولية، وإنّما جعلوه من ضمن أبحاثهم الكلامية، لأن المدرسة الإماميّة اعتبرت الإمامة جزءاً من أُصول الدين، خلافاً لمدرسة المذاهب الأربعة التي اعتبرتها من المسائل الفرعية الفقهية.