خلود القرآن والسنة والتغييرات الزمانية والمكانيّة

خلود القرآن والسنة والتغييرات الزمانية والمكانيّة

 

 

خلود القرآن والسنة والتغييرات الزمانية والمكانيّة

 

يوسف باه

 

مدخل:

إنه لمن الأهمية بمكان أن نقوم بالبرهنة على صدور القرآن الكريم الذي تستمد منه السنّة حجيتها من الله الحفيظ الذي تعهد بحفظه بصورة صريحة ومطلقة بدون أي ارتباط بدالتي الزمان والمكان.

هذا التأصيل لحقيقة خلود القرآن والسنة النبوية، يمثل منطلقا أساسياً للشروع في إلقاء الضوء على ثبوت وتغير المفاهيم المستقاة منهما نسبة إلى التغيرات الزمانية والمكانية.

وسيتناول هذا البحث الموضوعات الآتية:

1ـ تعريف المصطلحات الواردة في البحث.

2ـ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله قبل وبعد البعثة.

3ـ القرآن كلام الله.

4ـ خلود القرآن.

ـ(252)ـ

5ـ حجية السنّة وخلودها.

6ـ الثابت والمتغير من مفاهيم القرآن والسنة.

7ـ المشاكل الناجمة من سوء فهم الثابت والمتغير من مفاهيم القرآن والسنة.

8ـ الخاتمة.

 

تعريف المصطلحات الواردة في البحث:

1ـ القرآن: هو كلام الله الذي أنزله على خاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وآله بواسطة الأمين جبريل عليه السلام والمتعبد بتلاوته والمتحدى به جميع من ميزهم الله بقدرة العقل والفكر والاختيار.

2ـ السنّة: تدل على أقوال الرسول محمد صلى الله عليه وآله وأفعاله وتقريراته.

3ـ الزمان: من أظهر صفات التجربة البشرية ؛ فحواسنا تقدم إلينا إدراكاتها حسب ترتيب الزمان، وعن طريقها نشارك في المجرى العام المتدفق للزمان الذي يمر خلال الكون، ويخلف وراءه الاحداث المتعاقبة، وهو شبيه ببلورة لكيان سيال معين كان مستقبلا ثمّ أصبح الآن ماضيا لا يمكن تغييره، أما موقعنا نحن ففي وسط هذا المجرى المتدفق، وهو الوسطى المسمى بالحاضر، غير أن ما هو الآن حاضر ينزلق إلى الماضي، على حين أننا ننتقل إلى حاضر جديد، إننا لا نستطيع أن نعكس اتجاهه ونعيد الماضي.

3ـ المكان: هو تجمع ثلاثي الأبعاد ذو شكل وحجم معينين، يدرك بالحواس.

4ـ الشريعة: هي القوانين الأساسية الثابتة الخالدة الصادرة من القرآن والسنة التي يقوم عليها النظام الصحيح للحياة الإنسانية.

5ـ الفقه: هو تفسير القوانين الأساسية الثابتة الخالدة وفقا لتجدد الأحوال في العصور المتعاقبة، استجابة لحاجة تطبيق القانون الأبدي على المتغيرات الزمنية التي تطرأ على خريطة الحياة.

ـ(253)ـ

6ـ الاجتهاد: هو استفراغ الفقيه وسعه لفهم الشريعة، ثمّ لجعل الفقه ملائما لكل عصر.

7ـ اللوائح التمدنية: هي اللوائح التي أجازت الشريعة سنها طبقا لمقتضيات التمدن ومصالح البشر، في مجالات الزراعة والعمارة وغيرها.

 

سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله قبل البعثة وبعدها:

تشهد سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله غير العادية بشكل قاطع على أنه أسمى شخصية على الإطلاق في النوع الإنساني برمته.

لقد وضعه البروفسور مايكل هارت على قمة الشخصيات الخالدة.

لقد اشتهر النبي محمد صلى الله عليه وآله قبل البعثة بمثل وشمائل سمت به فوق سائر المجتمع القرشي، وكان هذا سببا في انفراده بلقب «الصادق الأمين».

«ومما جرى قبل البعثة بخمس سنين أن أهل مكة أرادوا إعادة بناء الكعبة، ثمّ نشب خلاف بينهم فيمن سيعيد الحجر الأسود إلى مكانه، واستمر الخلاف عدة أيام حتى كاد يؤدي إلى التقاتل، ثمّ اتفقوا على أن يكون الحكم بينهم أول من يدخل البيت الحرام صباح غد، وفي اليوم التالي كان محمداً صلى الله عليه وآله أول داخل في البيت فنادوه قائلين «هذا الأمين رضيناه» ثمّ قام الصادق الأمين بحل هذه القضية الشائكة برجاحة عقلية منقطعة النظير»(1).

إن السيرة الممتازة التي تمتع بها الرسول محمد صلى الله عليه وآله قبل البعثة لا تضاهيها أية سيرة في العام، ولم يسبق أن تمتعت بمثل هذه السيرة غير العادية أية شخصية في التاريخ الإنساني كله.

________________________________

1ـ صحيح البخاري باب ما ذكر في الحجر الأسود.

ـ(254)ـ

ولهذا عندما جمع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله قريشا لأول مرة بعد إعلان النبوة على جبل الصفا ثمّ سألهم: «يا بطون قريش ! أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي ؟» فردوا كلهم بـ «نعم ما جربنا عليك كذبا قط !».

ومن الدلائل الدامغة على صدق الرسول محمد صلى الله عليه وآله وأمانته وصيته لابن عمه- الذي خلفه في فراشه ساعة الهجرة الخطرة الحرجة- برد جميع الأمانات المعهودة إليه إلى أصحابها.

إن التاريخ الإنساني برمته لم يشهد رجلا أدلى خصومه بآراء مثالية عن سيرته وحياته مثل ما أدلى به خصوم رسول الإسلام.

فقد وقف النضر بن الحارث الذي كان ممن يعادي رسول الله صلى الله عليه وآله ويؤذيه يوماً في جمع من قريش وخطب قائلاً: «يا معشر قريش، انه والله قد نزل بكم أمر ما أوتيتم لـه بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا والله، ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر لا والله، ما هو بشاعر قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها، هزجه ورجزه، وقلتم مجنون، لا والله، ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه.

يا معشر قريش ! فانظروا في شأنكم فإنه والله، لقد نزل بكم أمر عظيم»(1).

وكان أبو لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله من ألد أعدائه، وقال لـه ذات مرة: «يا محمد ! إنني لا أقول: إنك كاذب، ولكن الأمر الذي تقوم بتبليغه باطل» (2) وهذا يؤكد أن صدق

________________________________

1ـ سيرة ابن هشام 1: 319.

2ـ الترمذي

ـ(255)ـ

الرسول محمد صلى الله عليه وآله لم يكن موضع شك مطلقا لدى أهل مكة عندما أعلن النبوة لعلمهم التام بحياته الكاملة، ولذلك لم يجرؤ أحد منهم على محاولة النيل من أمانته وصدقه عن طريق رميه بتهمة الكذب أو الاحتيال.

بل يسجل التاريخ أنه: «ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلاّ وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته»(1).

يقول الدكتور ليتز عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله: «انني لأجرؤ بكل أدب أن أقول: إنّ الله هو مصدر ينابيع الخير والبركات كلها، لو كان يوحي إلى عباده فدين محمد هو الوحي، لو كانت آيات الإيثار والأمانة، والاعتقاد الراسخ القوي ووسائل التمييز بين الخير والشر، ودفع الباطل هي الشاهد على الإلهام، فرسالة محمد صلى الله عليه وآله هي هذا الإلهام» (2).

لقد تعرض الرسول محمد صلى الله عليه وآله لجميع صنوف الأذى والاضطهاد والاهانة من قومه عندما أعلن دعوته، كما فرضوا عليه- هو- وعشيرته بني هاشم، المقاطعة والحصار لمدة ثلاث سنين، وهم لا يجدون ما يسدون به حاجة البطن من الطعام إلاّ أوراق شجر الطلح الجبلية المرة؛ ويروي أحد الصحابة في هذه المقاطعة أنه عثر مرة على قطعة جافة من الجلد فغسله بالماء ووضعه على النار، ثمّ بلله بالماء ثانية وأكله.

لقد لقي النبي محمد صلى الله عليه وآله أسوأ معاملة من أهل الطائف التي توجه إليها بدعوته بعد الخروج من ذلك الحصار الكئيب، ولم تثن هذه المعاناة الشديدة عزيمة الرسول محمد صلى الله عليه وآله فظل يدعو إلى الحقّ حتى اقتنعت قريش بأنه لا يمكن إيقاف دعوته إلاّ بتدبير مؤامرة لاغتياله عندما يخرج من بيته لصلاة الصبح، ولكن الله سبحانه وتعالى نجاه بأعجوبة،

________________________________

1ـ سيره ابن هشام 2: 98.

Life of Mohammad by Abul Fadl

ـ(256)ـ

فهاجر إلى المدينة المنورة.

ثمّ أعلنت قريش الحرب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه، ودامت زهاء عشر سنين، وفقد الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله أسنانه الكريمة وعددا كبيرا من صحابته، وكسرت رباعيته وعانى مع شعبه ما تعانيه الشعوب الضعيفة بعد إعلان الحرب عليها.

ثمّ نصره الله بفتح مكة قبيل نهاية رسالته بعامين بعد ثلاثة وعشرين عاما من الجهاد، وسجل الرسول الأكرم محمد ص بمقولته المشهورة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» أعظم معجزة للرحمة والعفو في التاريخ، استبعادا لوجود إنسان بهذه الشيم!

لا يوجد في التاريخ مثيل لما ضربه النبي محمد صلى الله عليه وآله في حياته الكاملة من الأخلاق العالية والتضحيات العظيمة والزهد في الأموال والملذات.

وما أصدق ما قاله البروفيسور بور سورث سميث: «عندما أُلقي نظرة إجمالية استعرض فيها صفاته وبطولاته ما كان منها في بدء نبوته، وما حدث منها فيما بعد، وعندما أرى أصحابه الذين نفخ فيهم روح الحياة، وكم من البطولات المعجزة أحدثوا، أجده أقدس الناس وأعلاهم مرتبة، حتى ان الإنسانية لم تعرف لـه مثيلا»(1).

وقد روى عمر بن الخطاب أنه دخل حجرة النبي صلى الله عليه وآله: «فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبين جسده الطاهر فراش، فقد أثر الرمل بجنبه، متكئا على وسادة حشوها ليف، قلت يا رسول الله ادع الله فليوسع على أُُمتك، فإن فارس والروم قد وسع عليه وهم لا يعبدون الله، فقال أو في هذا أنت يا بن الخطاب ؟ أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، (وفي رواية) أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة».

يا ترى ماذا كان يدفع محمداً صلى الله عليه وآله إلى حياة التقشف القاسية هذه رغم كونه

________________________________

Mohammad g Mohammadanism p.340

ـ(257)ـ

قادرا كل القدرة على أن يعيش حياة النعيم والترف ؟ ليس هناك أي تفسير لمنبع الصفات العجيبة لهذا الطراز الإنساني الفريد من نوعه، الذي اتفق المؤرخون على عدم تكرار مثله إلا إذا اعترفنا بنبوته التي تمكننا من تفسير سر حياته المعجزة، كما فعل البروفيسور «بور سورث سميث» حتى انه ليدعو البشرية كلها إلى الإيمان برسالته: «لقد ادّعى محمد لنفسه في آخر حياته نفس ما ادعاه في بداية رسالته، وإني لا أجدني مدفوعا إلى الاعتقاد بأن كلا من الفلسفة العليا والمسيحية الصادقة سوف تضطران، يوما إلى التسليم بأنه كان نبياً، نبيا صادقا من عند الله»(1).

 

القرآن كلام الله:

إن الخصائص التي تبرهن على أن القرآن الكريم من عند الله متعددة الجوانب وكثيرة، ويمكننا أن نذكر منها ما يأتي:

أولا: التحدي المعجز:

لقد تحدى القرآن الناس كافة منذ أربعة عشر قرنا من الزمان، وبخاصة أُولئك الذين ينكرونه بصورة صريحة:

﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(2).

لقد أخفقت البشرية كلها على مدى التاريخ في مواجهة هذا التحدي، مما يثبت أن القرآن كلام صادر من الله، ومن ثم خارج تماما عن دائرة القدرة البشرية.

لقد وقعت محاولات عديدة عبر التاريخ لمواجهة هذا التحدي ولكنها كلها باءت

________________________________

Mohammad g Mohammadanism

2ـ سورة البقرة: 23.

ـ(258)ـ

بفشل ذريع ؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما حدث لابن المقفع الأديب الفارسي الكبير كما رواه المستشرق (ولاستن):

«... ان اعتداد محمد بالأعجاز الأدبي للقرآن لم يكن على غير أساس، بل يؤيده حادث وقع بعد قرن من قيام دعوة الإسلام»(1).

والحادث كما نقله البروفيسور وحيد الدين خان عن المستشرق (ولاستن):

«هو أن جماعة من الملاحدة والزنادقة أزعجهم التأثير الكبير للقرآن في عامة الناس، فقروا مواجهة تحدي القرآن، واتصلوا لإتمام خطتهم بعبدالله بن المقفع، وكان أديباً كبيراً وكاتباً ذكياً، يعتد بكفاءته فقبل الدعوة للقيام بهذه المهمة، وأخبرهم بأن هذا العمل سوف يستغرق سنة كاملة، واشترط عليهم أن يتكفلوا ما يحتاج إليه خلال هذه المدة، ولما مضى على الاتفاق نصف عام، عادوا إليه وبهم تطلع إلى معرفة ما حققه أديبهم لمواجهة تحدي رسول الإسلام، وحين دخلوا غرفة الأديب الفارسي الأصل وجدوه جالسا والقلم في يده، وهو مستغرق في تفكير عميق، وأوراق الكتابة متناثرة أمامه على الأرض، بينما امتلأت غرفته بأوراق كثيرة، كتبها ثمّ مزقها»(2).

ثانياً: تمزيق حواجز الغيب:

حينما نزل القرآن تحدى في أشياء كثيرة، ومزق في تحديه حواجز الغيب الثلاثة:

1ـ حاجز الزمن الماضي: يمزق القرآن حاجز الزمن الماضي فيخبر بما حدث للأمم السابقة ورسلها، ويروي أشياء لم يكن أحد يعرفها، على لسان نبي أُمي لا يقرأ ولا يكتب في أكثر من مناسبة ليخبر محمد صلى الله عليه وآله بالأخبار الصادقة عن من سبقوه من الرسل والأنبياء، ويصحح ما حرف من الكتب السماوية التي أنزلها الله وحرفها أحبار اليهود ورهبان النصارى:

 ________________________________

Mohammad His Life g Doctrine ,p.143

2ـ الإسلام يتحدى: 173.

ـ(259)ـ

﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾(1).

﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾(2).

﴿وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾(3).

﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(4).

2ـ حاجز النفس البشرية: لقد مزق القرآن الكريم أيضاً حجاب ما يخفيه الإنسان داخل نفسه ؛ قال تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(5).

يهتك القرآن الكريم هنا ما في داخل صدور الكافرين الذين كممت أفواههم حقيقة صدق القرآن الكريم، لأنه لو لم يكن خبر القرآن صحيحاً، لتسارع- هؤلاء بكل تأكيد- إلى نفي وإنكار ما جاء في أدق الأُمور منهم، الذي هو حديث النفس، ولكن عدم إنكار هؤلاء الكافرين الذين يهمهم هدم الإسلام ما ورد في حقهم لدليل قاطع على مطابقة القرآن الكريم لحالهم وصدقه.

لقد فصح القرآن الكريم أكثر من مرة، الأسرار التي سعى المنافقون والمكذبون إلى إخفائها بجميع الوسائل المتاحة لديهم بما فيه الحلف على الكذب.

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(6).

________________________________

1ـ سورة آل عمران: 44.

2ـ سورة القصص: 44.

3ـ سورة القصص: 45.

4ـ سورة القصص: 46.

5ـ سورة المجادلة: 8.

6ـ سورة المجادلة: 14.

ـ(260)ـ

﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾(1).

﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾(2).

3ـ حاجز المستقبل: يتجلى هذا الجانب من عظمة القرآن الكريم في تنبؤاته المختلفة التي ثبتت صحتها فيما بعد بطرق معجزة، مثل: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾(3).

لقد نزلت هذه الآية في مكة والمسلمون قلة وأذلة، حتى ان عمر بن الخطاب قال: «أي جمع هذا الذي سيهزم ونحن لا نستطيع أن نحمي أنفسنا»(4).

ويواصل القرآن تبشير المسلمين مرة بعد أخرى، بينما هم في أسوأ أحوالهم: قلة خائفون يترقبون الأعداء من كل جانب في عراء المدينة المنورة؛ قال تعالى:

﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾(5).

﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ _ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(6).

لقد تحققت هذه التنبؤات كلها بصورة معجزة، ترغم كل من يحاول تفسيرها إلى التسليم باستحالة صدورها، من إنسان عادي، كما قال البروفيسور ستوبارت «انه لا يوجد مثال واحد في التاريخ الإنساني بأكمله يقارب شخصية محمد... ألا... ما أقل ما امتلكه من الوسائل المادية، وما أعظم ما جاء به من البطولات النادرة، ولو أننا درسنا التاريخ من هذه الناحية، فلن نجد فيه اسماً منيرا هذا النور واضحاً هذا الوضوح، غير اسم

________________________________

1ـ سورة التوبة: 96.

2ـ سورة التوبة: 42.

3ـ سورة القمر: 45.

4ـ معجزة القرآن: 109.

5ـ سورة المجادلة: 21.

6ـ سورة الصف: 8- 9.

ـ(261)ـ

النبي العربي»(1).

يقول السير وليام ميور المشهور بعدائه للإسلام:

«لقد دفن محمد مؤامرات أعدائه في التراب، وكان يثق بانتصاره ليل نهار، مع حفنة من الأنصار والأعوان، رغم أنه كان مكشوفا عسكريا من كل ناحية...» (2).

ومن سلسلة هذه التنبؤات القرآنية العجيبة ما ورد في حقّ الوليد بن المغيرة المشهور بعدائه للإسلام وكبريائه وعناده ؛ يقول فيه القرآن الكريم:

﴿سَنسِمُه عَلى الخُرطُومِ﴾(3).

لقد تحقق بالفعل هذا التنبؤ كما جاء في القرآن الكريم بالتمام والكمال، وقتل هذا الكافر المكابر في معركة بدر، بضربة على أنفه رغم أنفه.

لقد تحدى القرآن الكريم البشرية كلها، وتنبأ بنتيجة معركة تحدث بين الروم والفرس بعد بضع سنين:

﴿الم _ غُلِبَتِ الرُّومُ _ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ _ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ _ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾(4).

ثمّ أمعن القرآن الكريم في التحدي مؤكدا:

﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(5).

لقد شهد التاريخ على صدق ما تنبأ به القرآن الكريم عن غلبة الروم على الفرس خلال مدة أقل من عشر سنين كما يفهم في اللغة العربية من كلمة «بضع»!

________________________________

1ـ الإسلام يتحدى: 180.

2ـ الإسلام يتحدى: 180.

3ـ سورة القلم: 16.

4ـ سورة الروم: 1- 5.

5ـ سورة الروم: 6.

ـ(262)ـ

وتثبت كل هذه الدلائل الدامغة والمتضافرة أن القرآن الكريم صادر من المنبع الإلهي.

ثالثا: مطابقة الكشوف العلمية الصحيحة للقرآن الكريم:

يجب علينا أن ننتبه إلى الخطر الكامن في محاولة إثبات القرآن الكريم بالعلم، وبخاصة تلك النظريات العلمية التي لم تثبت صحتها بعد، لأن القرآن الكريم لم يتعرض للنواميس الكونية بتفصيل الكتاب العلمي المتخصص، ولكنه بيّن هذه الحقائق الكونية عن طريق الإشارة غير المباشرة، منذ أربعة عشر قرنا من الزمان، وتنبأ بتمكين العقل البشري اكتشاف معانيها في المستقبل، ليكون هذا دليلاً قاطعا على صدق القرآن الكريم وصدوره من الله العليم الحكيم:

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(1).

لقد بين القرآن الكريم حقائق كونية متعددة الجوانب وعديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر المستحيل ما يأتي:

1ـ كروية الأرض:

﴿والأرضَ بَعدَ ذَلكَ دَحَاها﴾(2).

و«دحا» هي الكلمة الوحيدة في لغة العرب التي تعني البسط والتكوير معا، والأرض- كما هو معلوم- مبسوطة في الظاهر ومكورة في الحقيقة، بل هي أشبه بالدحية (البيضة) في تكويرها.

2ـ التمدد الكوني المضطرد:

تميل الأبحاث المتقدمة في علم الكونيات (الكوسمولوجيا) إلى تمدد الكون بشكل

________________________________

1ـ سورة فصلت: 53.

2ـ سورة النازعات: 30.

ـ(263)ـ

مضطرد منذ الانفجار الكوني العظيم المعروف بـ(بيغ بانغ)، الذي حدث منذ عشرين مليار سنة حسب تقدير علماء الكونيات ؛ ولعل هذا ما يشير إليه القرآن الكريم في الآية: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(1).

3ـ وجود الجسيمات الأولية:

لقد كشفت العلوم الحديثة أنّ الذرة قابلة للانقسام إلى جسيمات أولية، على عكس الاعتقاد الذي كان ينظر إلى الذرة على أنّها جوهر فرد لا ينقسم، بل هي تمثل أصغر جسيم في الوجود على الإطلاق.

ويقول القرآن الكريم في هذا الصدد:

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(2).

4ـ علاقة الحيوان المنوي بتحديد جنس المولودة:

يشير القرآن الكريم إلى حقيقة بيولوجية لم تعرف إلاّ مؤخراً، وهي احتواء رأس الحيوان المنوي على عوامل تحديد جنس المولود:

﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى _ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾(3).

5ـ لكل شيء في الوجود زوج:

لقد ثبتت حقيقة زوجية الأشياء في الوجود بصورة مدهشة، ممّا دفع العلماء إلى استنتاج وجود عالم آخر زوج لعالمنا، وذلك العالم- حسب رأيهم- يتمتع بخواص مختلفة كلياً عن تلك التي يتمتع بها عالمنا، يصدق هذا الاكتشاف العلمي القرآن الكريم الذي يقول:

________________________________

1ـ سورة الذاريات: 47.

2ـ سورة سبأ: 3.

3ـ سورة النجم: 45- 46.

ـ(264)ـ

﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(1).

لقد نزل القرآن في عصر لم يكن يخطر على بال أي إنسان ما يخبئه المستقبل وعلومه، ومع ذلك لم تتمكن أية جهة من زعزة حقائقه العلمية، ولو لم يكن القرآن الكريم نابعاً من الحقّ سبحانه وتعالى لكان دوام هذا الحال من المحال.

خلود القرآن الكريم:

يوجد ما لا يعد ولا يحصى من الدلائل على خلود القرآن الكريم، إلى جانب المصداقية المطلقة الثابتة في حقّ الرسول المعصوم قبل وبعد البعثة، ورسالته التي تأكد صدورها من لدن الحكيم الخبير ؛ نستعرض من تلك الأدلة ما يأتي:

1ـ حفظ الله للقرآن الكريم:

تختلف معجزة القرآن الكريم عن معجزات الرسل السابقين، فكل رسول كانت لـه معجزة مختلفة عن منهجه، فمعجزة موسى عليه السلام العصا ومنهجه التوراة، ومعجزة عيسى عليه السلام الطب ومنهجه الإنجيل، لكن محمداً صلى الله عليه وآله معجزته هي عين منهجه، ليظل المنهج محروسا بالمعجزة، وتظل المعجزة محروسة بالمنهج، لأن الله سبحانه وتعالى عندما كلف عباده المحافظة على الكتب السماوية السابقة للقرآن الكريم حرفوها، ولكن القرآن الكريم- معجزة ومنهجاً- يبقى إعجازه ببقاء نصه بدون زيادة أو نقصان أو تحريف، لذلك تعهد الله عز وجل بحفظه وقال:

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(2).

﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(3).

________________________________

1ـ سورة الذاريات: 49.

2ـ سورة الحجر: 9.

3ـ سورة فصلت: 42.

ـ(265)ـ

يقول العلامة المصري محمد متولي الشعراوي في صدد حفظ الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم:

«وهنا نلاحظ شيئا مهماً يبين لنا أن معجزة القرآن محفوظة من الله سبحانه وتعالى، لو أخذنا خطين: خط تطبيق القرآن والعمل بتعاليمه، وخط المحافظة على القرآن، نرى أن تطبيق القرآن والعمل به كلما مر الزمان قل وضعف، أما المحافظة على القرآن فكلما مر الزمان زاد بشكل عجيب، حتى انك ترى القرآن الآن في كل مكتب، وفي السيارات، وعلى صدور السيدات، وفي المنازل، وفي كل مكان، وتجد تجميلا في القرآن من أناس لا يؤمنون به، فترى رجلا ألمانيا- مثلا- يكتب القرآن كله في صفحة واحدة، ويخرجه بشكل جميل وهو ربما لم يقرأ القرآن في حياته، وتجد اليابان مثلا تتفنن في طبع المصاحف الجميلة، فإذا سألت لماذا لا يفعلون ذلك في الكتب الأخرى؟ نقول لك: إنهم مسخرون لذلك، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحفظ القرآن، وكل هذا الحفظ الذي تراه هو من عمل الله، وليس من عمل الإنسان، وأنت حين ترى القرآن في مكتب أو سيارة أو منزل وتسأل صاحب المنزل أو السيارة أو المكتب هل تعمل بهذا القرآن ؟ هل تؤدي الصلاة كما يجب ؟ يقول لك لا، إذن لماذا تحتفظ بالقرآن في منزلك دون أن تعمل به ؟ فلا يستطيع أن يجيب، أو يقول لك: إنّه بركة.

ومن هنا فإن غفلتنا عن تعاليم القرآن الكريم كسلوك في الحياة لا تتمشى مع ازدياد الحفاظ على القرآن الكريم، أحيانا تجد غير المسلم يحافظ على القرآن ويحمله، وأحيانا تجد من لا يطبق القرآن يقتني أكبر عدد من المصاحف، ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الذي يحفظ القرآن هو الله، وأنه كلما نقص خط العمل بالقرآن ازداد خط الحفاظ عليه، لأنّ العباد هم المكلفون بالعمل، ولكن الله سبحانه

ـ(266)ـ

وتعالى هو الذي يحفظه»(1).

2ـ استمرار معجزة القرآن الكريم:

تختلف معجزة القرآن الكريم عن معجزات الرسل السابقين في عدة وجوه، ومنها أن معجزات الرسل السابقين تقع مرة واحدة فقط، ولا تتكرر أبدا ثمّ تصير بعد ذلك خبرا قابلا للتصديق والتكذيب، فلولا ورودها في القرآن الكريم، لكان ممكنا أن ينفى حدوثها، بينما نجد أن معجزة القرآن مستمرة ومتجددة، قادرة على العطاء لكل جيل بما يختلف عن الجيل الذي قبله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لأنه لا نبي بعد من نزل عليه، ولا كتاب بعد قرآنه.

3ـ شمول الرسالة المحمدية للبشرية كلها:

لقد أرسل الله محمداً صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين وأنزل عليه القرآن الكريم رسالة للعالم أجمع، لا تقتصر على علاج داء أُمة بعينها، كما كان الحال في الأزمنة الغابرة، حيث كان الله سبحانه وتعالى يرسل أكثر من رسول في وقت واحد، لمعالجة أمراض اجتماعية مختلفة ؛ فإبراهيم ولوط عليهما السلام أرسلا في وقت واحد لانعزال المجتمعات في ذلك الوقت عن بعضها ولسوء الاتصال والمواصلات وتنوع الأدواء، ولكن بعد أن تقدم العلم أصبح العالم كله مجتمعا واحدا، لتعدد وسائل الاتصال والمواصلات وسهولتها ممّا أدى إلى توحد الأدواء في العالم، مثل الربا والإلحاد وأكل الأموال بالباطل والسرقة والزنا وغيرها، ولهذا وجه الله سبحانه وتعالى رسالة الإسلام إلى الدنيا كلها، لأنّ وحدة الداء تقتضي وحدة العلاج، كما أن وضع وحدة العلاج قبل زمن تحقق وحدة الداء يمثل جانبا مهماً آخر من إعجاز القرآن الكريم.

________________________________

1ـ معجزة القرآن: 30.

ـ(267)ـ

حجية السنّة وخلودها:

تستمد السنّة حجيتها من كتاب الله الخالد ممّا يجعلها خالدة بخلوده، وهي صادرة من الرسول المعصوم صلى الله عليه وآله، ومصدرها من مصادر الشريعة الإسلاميّة، فيجب إتباعها وتحرم مخالفتها، وعلى هذا أجمع المسلمون وتضافرت آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية ؛ قال تعالى: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(1).

﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾(2).

﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى _ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾(3).

﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾(4).

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(5).

﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(6). ﴿﴾(7).

لقد ورد في السنّة أحاديث كثيرة تحث المسلمين على اتباعها وتنهاهم عن مخالفتها، مثل قولـه صلى الله عليه وآله: «من رغب عن سنتي فليس مني».

تأتي السنّة في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم لما يأتي:

________________________________

1ـ سورة الحشر: 7.

2ـ سورة النساء: 80.

3ـ سورة النجم 3- 4.

4ـ سورة النساء: 65.

5ـ سورة الأحزاب: 21.

6ـ سورة آل عمران: 31.

7ـ سورة الأعراف: 158.

ـ(268)ـ

1ـ ثبوت القرآن قطعي، وثبوت السنّة في الجملة ظني.

2ـ السنّة بيان للقرآن الكريم ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).

والبيان مؤخر عن المبين، وعلى هذا، فإن السنّة مصطلح إسلامي وحقيقة شرعية، وينحصر طريق وصول السنّة إلينا بالرواية المروية عنه صلى الله عليه وآله والمدونة في كتب الحديث والسيرة والتفسير، وغيرها من مصادر الدراسات الإسلاميّة.

الثابت والمتغير من مفاهيم القرآن والسنة الخالدين:

لقد فشل خبراء القانون الوضعي خلال العصور المنصرمة كلها في وضع شريعة ثابتة للإنسان كالتي اكتشفها لآلاته، ممّا أدى إلى اعتراف علم القانون بأن اكتشاف قانون الحياة خارج تماما عن قدرة البشر ~ يقول عالم القانون المعروف (جورج هوايت كروس باتون):

«إنّ السبيل الوحيد للوصول إلى معايير متفق عليها هو الاعتراف بالوحي السماوي قانوناً»(2).

والاعتراف بمبدأ حصول الإنسان على قانون حياته من نفس المنبع الذي يحصل منه الكون كله على قانونه، إثبات في حد ذاته بأن مثل هذا القانون غير خاضع لحدود الزمان والمكان، ممّا يؤكد أن القرآن الكريم والسنة النبوية حقيقتان أبديتان مثل قوانين الطبيعة والحياة، لأنهما أيضاً صادران من الله الحقّ الأبدي الأزلي الذي يدبر شؤون الكون، ولكن خلود القرآن الكريم والسنة النبوية، لا يمنعان من أن نميز بين شيئين فيهما:

أولا: الأحكام الخاصة بمنهج العبادة، التي حدد بها الله سبحانه وتعالى كيفية

________________________________

1ـ سورة النحل: 44.

2ـ الإسلام والعصر الحديث: 20.

ـ(269)ـ

عبادته، هذه تبقى ثابتة كما بينها رسول الله محمد صلى الله عليه وآله بأمر ربه، ولا يجوز فيها الاجتهاد مهما طال الزمن أو تقدم العلم، فلن يستطيع أحد أن يجتهد في تغيير عدد الصلوات الخمس المفروضة، أو في الحلال البين والحرام البين، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يشرع لنا كيف نعبده، وهو الذي يضع لنا معالم الهداية على طريقي الطاعة والمعصية ﴿وهَدينَاه النّجدَينِ﴾(1).

ثانياً: الأشياء المتصلة بقوانين الكون والحياة، تلك الأشياء التي لم يكن للعقل البشري الاستعداد العلمي لفهمها فهماً تاماً وقت نزولها، مثل كروية الأرض، الغلاف الجوي المحيط بالأرض، علم الأجنة، دوران الأرض حول نفسها، نسبية الزمن، وعدد من حقائق الكون الأساسية التي تناولها القرآن الكريم، ثمّ ألمح إليها الرسول صلى الله عليه وآله تاركاً للعقل في كل جيل أن يأخذ قدر تفتحه، وهذا يؤكد أن نظام الحياة الكامل النابع من القرآن الكريم والسنة النبوية الخالدين قد عالج جميع قضايا الكون والذي يدعيه بعضهم- مثل الدكتور شوليكال المسيحي- أن منهج الله لا يعالج قضايا العصر (على سبيل المثال مشكلة تخطيط المدن) ناتج من عدم التمييز بين مختلف أجزاء الشريعة الشاملة الخالدة والصالحة لكل الأزمنة والأمكنة.

إن القانون الإسلامي يقسم قانون الحياة إلى ثلاثة أقسام: الشريعة، الفقه، واللوائح التمدنية.

والشريعة ثابتة ثبات قوانين الطبيعة والحياة لا تتغير بدون أدنى شك، أما الفقه فقد ظهر استجابة لحاجة تطبيق القانون الأبدي على التغيرات التي تطرأ على خريطة الحياة من عصر إلى عصر.

ولكن الفقه على العكس من الشريعة، يحمل العنصر الزمني، على سبيل المثال،

________________________________

1ـ سورة البلد: 10.

ـ(270)ـ

فقد ورد في فتاوى (قاضي خان) أنه لا كفّارة على شخص أقسم بأنه سيطير في الهواء ثمّ فشل في تنفيذ قسمه، وذلك لأن الطيران في الهواء ليس ممكنا للبشر، والمؤكد أن فقهاء عصرنا لن يفتوا على هذا النحو في هذه المسألة، والشريعة تثبت عن طريق الاجتهاد أنها ملائمة لكل العصور ؛ إن الاجتهاد الفقهي تابع للشريعة وخاضع لها ولكنه غير خاضع لفقه سابق لعصره، لأن الفقه ليس إلاّ سجلا للاجتهاد الإسلامي وهو ليس بالشريعة نفسها.

والجزء الأخير من هذا القانون هو ما اصطلحت عليه «اللوائح التمدنية» التي لا تتعلق قضية وضعها بالشريعة، لأن الله سبحانه وتعالى لم ينزل شريعة هندسية أو صناعية، بل أجاز للبشر أن يقوموا بوضع هذه اللوائح وفقاً لعلومهم وأحوالهم إلى جانب وجوب الشكر والحمد عليهم لله سبحانه وتعالى لما أسبغ عليهم من نعم، لأن روح الحمد والشكر والاعتراف بهذه النعم تمثل في حد ذاتها ضمانا أكيداً لعدم دخول عناصر الفساد والظلم إلى اللوائح التمدنية وكيفية سنّها.

المشاكل الناجمة من سوء فهم الثابت والمتغير

من مفاهيم القرآن الكريم والسنة:

لقد حطمت العلوم الحديثة البنيان التقليدي للمعرفة والفكر الذي كان فيه الإسلام، ولم يمكن نقل الإسلام في البيان الفكري والمعرفي الجديد عن طريق تحديث فكره، وأصبح الإسلام في واد والمسلمون في واد آخر، ولم يتمكن زعماء المسلمين من توجيه العمل الإسلامي وفقاً لمقتضيات العصر الحديث، وظلوا يقودون المسلمين باستراتيجيات رثة لها اعتبارها في خريطة الماضي، ولكنها لا تتمتع بقيمة في خريطة العصر الحاضر، وكان هذا سببا في انحطاط المسلمين وتخلفهم في هذا العصر.

لقد وجد مجاهدو غزوة بدر (624 م) تفسير ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (1) في السيف، ولكن لو وجد مجاهدو البوسنة والهرسك والشيشان (1995 م) التفسير ذاته لهذه الآية، فسنقول: إنَّهم لم يفهموا القرآن الكريم وفق مقتضيات العصر الحاضر، بينما يستدعي التغير الزمني أن ننظر إلى القرآن الكريم بمنظار خريطة الحاضر، إن استخدام عاطفة الشعر والخطابة الرنانة الطنانة لبيان الأفكار، وتحول حركات الأحياء الإسلامي إلى السياسة الحربية الانفعالية، والاكتفاء بالوعظ والفتاوى القديمة لإصلاح الأُمة بمنزلة تمثيل لمسرحية الحال في تاريخ الماضي. لو كان مصلحونا في العصر الحديث قاموا بدراسة الأوضاع بعمق، ثمّ أعدوا للإسلام في ضوء هذه الدراسة بنيانا فكريا جديداً متوائما مع البنيان الفكري الجديد الذي صنعته العلوم الحديثة، لو كان قُدِّر لهذا العمل أن يرى الوجود لأصبح العلم أو العصر الحديث مسخّرا لتقوية الدين وإعطائه حياة جديدة بدلا من أن يكون ندّاً لـه.

لقد تأثرت المؤسسات الإسلاميّة كلها بهذا التوجه الخاطئ، لأنها لم تعد تقدم إلينا ما كانت تقدمه من الفوائد في الماضي في مجال الدعوة والتربية أُسوة بدار الأرقم بمكة والصُفّة بالمدينة المنورة.

سنستعرض من تلك المؤسسات ما يأتي:

أولا: التكايا الصوفية:

لقد بدأ نظام الزوايا الصوفية في القرن الرابع الهجري، في وقت سيطر فيه الدين على الفكر العالمي، لهدف رفع الحرارة الروحية في قلوب الناس، لقد لعب هذا الأسلوب الروحي دوراً إيجابيا بالفعل في المناخ الفكري القديم ؛ أما في المناخ الفكري الحديث فإن دورها يقتصر على إيجاد شخصية منفصمة تحمل أفكار العصر بصورة شعورية أو لا

________________________________

1ـ سورة الأنفال: 60.

ـ(272)ـ

شعورية في جانب من قلبها، وفي الجانب الآخر تحمل الدروس الروحانية ؛ يقول العلامة وحيد الدين خان «إنّ مثل هذه الشخصية قد تكون ذات معنى للعقول الإلكترونية، أما المتجمع البشري فهي لا تستطيع أن تقوم فيه ببطولة»(1).

ثانياً: المدارس الدينية:

لقد فشلت المدارس الإسلاميّة المنتشرة بشكل واسع في تحقيق الأهداف التي ينشرها المشرفون عليها في إعلاناتهم لجمع التبرعات، وذلك لانقطاع صلتها بالاقتصاد العصري، لأن المؤسسة التعليمية التي تقطع علاقتها باقتصاد عصرها لا تستطيع إطلاقا إكساب طلابها معرفة دينية شاملة، وكفاءة مهنية قادرة على مواجهة المنافسة في أسواق العمل التي ولدتها التكنولوجيا الحديثة.

ثالثا : التجمعات الإسلاميّة:

من المظاهر الواضحة لفشل هذه التجمعات انعدام الوحدة البناءة المبقية للأمة، على الرغم من كثرة القواسم المشتركة بينها، وتتمثل في الآتي:

1ـ وحدة العقيدة المتمثلة في التبني الاعتقادي للإسلام، والإيمان به كاملاً غير منقوص.

2ـ وحدة الغاية في السعي إلى مرضاة الله عز وجل، والتطلع إلى تطبيق النظام الإسلامي في حياة الناس، سواء على النطاق العام أو الخاص.

3ـ وحدة المصادر والموارد، حيث يستقي كل منها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله.

4ـ وحدة العقبات الداخلية والخارجية.

________________________________

1ـ الإسلام والعصر الحديث: 42.

ـ(273)ـ

الخاتمة:

لقد وضح لنا غاية الوضوح خلال استعراضنا لموضوع «خلود القرآن والسنة والتغييرات الزمانية والمكانية» أنّ القرآن الكريم الذي تستقي منه السنّة النبوية شرعيتها، والذي نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وآله المعصوم قبل وبعد البعثة، قد تحدى به الله سبحانه وتعالى جميع من وهبهم الله قدرة العقل والفكر والاختيار.

لقد تحدى القرآن الكريم العرب في بلاغتهم، ثمّ مزق حواجز الغيب، ثمّ روى لنا بالتفصيل تاريخ الرسل السابقين وأخبار أُممهم، كما أخبر القرآن الكريم عما تخفيه نفوس الكفار الذين كانوا يحاربون الإسلام والمسلمين في عهد النبّوة، ولم يتمكن أحد من هؤلاء الكفار بإتيان ما يخالف مصداقية القرآن الكريم، ثمّ مزق حجاب المستقبل القريب والبعيد وتنبأ بدقة متناهية عما سيحدث بعد شهور وما سيقع بعد سنوات، كما أنبأنا القرآن الكريم بأحداث المستقبل البعيد بمئات والآف من السنين، ليثبت للأجيال القادمة إعجازه وصدقه.

لم يكن الله الحكيم الخبير لينزل هذه المعجزات المستقبلية مفصلة في زمن نزول القرآن الكريم، لأن هذا الكلام كان فوق طاقة العقول في ذلك الوقت، ولذلك جاء القرآن بنهايات النظريات وبقمة النواميس الكونية حتى إذا تليت على المؤمنين في ذلك الوقت مرت عليهم، بدون أن ينتبهوا إلى مدلولاتها العلمية الحقيقية، ليثبت بعد الآف السنين أنّ هذا القرآن حقّ من عند الله، وأن قائله هو خالق الكون ومدبر شؤونه، وهذا لا ينطبق طبعاً على أحكام الدين التي نزلت كاملة لا لبس فيها ولا غموض، ثمّ بينها الرسول محمد صلى الله عليه وآله بأفعاله وتقريراته والأحاديث القدسية والنبوية.

فأصبح الحلال بيناً والحرام بيناً والدين كاملاً ؛ يقول الله سبحانه وتعالى في محكم

ـ(274)ـ

تنزيله في هذا الصدد: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).

وأما آيات الله في الكون فنلاحظ أنها لم تفسر تفسيراً كاملاً في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وآله ليستمر عطاؤها المتجدد إلى أن يرث الله عز وجل الكون وما فيه.

إن التفاعل الصحيح البناء مع الثابت والمتغير من مفاهيم القرآن والسنة الخالدين في عصرنا الحاضر، يقتضي أن نقوم بتدوين معتقدات الإسلام وأحكامه بالأُسلوب الاستدلالي الحديث، الكفيل بنقل النظام الإسلامي الكامل الشامل للحياة من البنيان الفكري القديم الذي تخطّاه الزمن إلى الصرح الفكري والمعرفي الجديد الذي ولدته العلوم الحديثة، لأن العصر الحديث يمتاز بحرية الرأي والفكر، والإنسان الحديث يريد أن تقدم لـه المعلومات بدون إضافات تفسيرية وكلامية، ويترك لـه التقييم.

والمقصود بالأسلوب الحديث أن يكون حديثاً وعصرياً في التحليل والاستدلال والتحرير، وأن يكون على المستوى العلمي المعاصر.

إن أُسلوب الكتابة الذي كان يعتمد في الزمن الماضي على العنصر الخطابي قد تغير تماما في هذا العصر، والأُسلوب المفضل اليوم هو الأسلوب العلمي التحليلي، وكان يكفي في الماضي إيراد أبيات شعرية وعبارات قوية مرصعة بالسجع في ثناياً الفقرات لإضفاء الأهمية على الموضوع، أما اليوم فقد أصبح الأسلوب الأدبي القديم الذي كان يعتز بكثرة العبارات العاطفية والمبالغات والاستعارات والتشبيهات البراقة مخالفا للوقار العلمي، ممّا دفع المثقفين إلى الابتعاد عن قراءة كل ما يصدر بأُسلوب فكرة الأدب القديم، ولا ينطبق هذا التحول على الأسلوب فحسب، بل ينطبق كذلك على المحتوى، ففي الكتابة القديمة لم تكن التواريخ والوقائع تحدد بضوابط علمي التاريخ والجغرافية، كما لم تكن أُسس

________________________________

1ـ سورة المائدة: 3.

ـ(275)ـ

الاستدلال تقوم إلاّ على المنطق القياسي بصفة عامة.

أما اليوم فقد حل محل المنطق القياسي الإثبات التاريخي والتحليلي والتجريبي، لأن الفحص الموضوعي للحقائق هو الأسلوب المعياري للعصر الحديث.

ومن الظواهر التي تدل على تخلّفنا عن الركب الحضاري في المجال الفكري، توجه شبابنا المثقف إلى كتب المستشرقين المؤلفة بالأسلوب والمنهج الحديث لفهم الإسلام مهما كانت خاطئة، وذلك لعدم وجود ما يلبي طلباتهم في المكتبة الإسلاميّة المليئة لحد التخمة بمؤلفات فقدت قيمتها في العصر الحديث.

ـ(276)ـ

من مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ معجزة القرآن، محمد متولي الشعراوي الطبعة الأُولى، دار كتاب اليوم، القاهرة 1979 م.

3ـ الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، الطبعة السابعة، المختار الإسلامي، القاهرة 1977 م.

4ـ معالم المدرستين العلامة السيد مرتضى العسكري، الطبعة الأُولى، مؤسسة البعثة، طهران 1405 هـ.

5ـ الإسلام والعصر الحديث، وحيد الدين خان، الطبعة الثالثة، دار النفائس، بيروت 1986 م.

6ـ حواري مع صديق الملحد، مصطفى محمود، الطبعة السابعة، مؤسسة روز اليوسف القاهرة: 1974 م.

7ـ الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين، مصطفى نصر الملاني، الطبعة الأُولى، دار إقرأ، طرابلس 1986 م.

8ـ الإسلام في عصر العلم، محمد أحمد الغمراوي، الطبعة الثانية، دار الإنسان القاهرة: 1989 م.

9ـ أنت تسأل والإسلام يجيب، محمد متولي الشعراوي، الطبعة الأُولى، دار البيان،

ـ(277)ـ

القاهرة: 1981 م.

10ـ المختار من علوم القرآن الكريم، عبد الصادق مصطفى سلامة، الطبعة الأخيرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الاميرية، القاهرة 1988 م.

11ـ المهذب في مصطلح الحديث، منشاوي عثمان عبود، دار الشعب، القاهرة 1979 م.

12ـ تاريخ القرآن، محمد حسين علي الصغير، الطبعة الأُولى الدار العالمية، بيروت 1983 م،

13ـ الدين في مواجهة العلم، وحيد الدين خان، الطبعة الرابعة، المختار الإسلامي، القاهرة 1978 م.

14ـ دروس إسلامية 16- 20، مؤسسة البلاغ، طهران.

15ـ معركة التشكيك في الإسلام، محمد متولي الشعراوي، المختار الإسلامي القاهرة.

16ـ نشأة الفلسفة العلمية، هانزر يشنباخ، المؤسسة لعربية بيرنت.

17ـ الفيزياء والفلسفة، جيمس جينز، دار المعارف، القاهرة 1981 م.

18ـ وحدة العمل الإسلامي بين الأمل والواقع، محمد أبو الفتح البيانوني، الطبعة الأُولى دار عمار، عثمان 1988 م.

19ـ تاريخ التشريع الإسلامي وأحكام الملكية والشفعة والعقد، عبد العظيم شرف الدين، الطبعة الثالثة، جامعة قار يونس 1978 م.

.-la bible, le coran et la science,maurice bucdille, editions seghers, paris 197920

ـ(278)ـ

-  le phenomene coranique,malek bennabi, lmprimrie bm, paris 1976.21.

- Reflexions sur le coran, Mohamed Taldi g Maurice Bucaille Seghers,Paris 1989. 22

23- La Morale du Coran, M.A. draz, Lmpnimerie Fedala, Rabat 1983.