الوسطية هي السبيل الوحيد للتقارب والتضامن

الوسطية هي السبيل الوحيد للتقارب والتضامن

الوسطية هي السبيل
الوحيد للتقارب والتضامن


أ. د. عبد القادر المكي الكتاني
نائب رئيس قسم الدراسات العليا والتخصصية
رئيس قسم وأستاذ مواد الفكر الإسلامي والحوار الحضاري
رئيس مركز الدراسات العربية والإسلامية
مجمع الفتح الإسلامي بدمشق


الحمد لله رب العالمين القائل في محكم التنزيل
والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي وحد الأمة وأزال عنها الغمة، القائل في جوامع كلمه ( مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ الواحد إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى) (حم، ق ) والقائل (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا) (حم، ق، ن) عن أنس بن مالك وبعد
 فإن هذه الأمة أمة التوحيد، ربها واحد، وكتابها واحد، ورسولها واحد، وقبلتها واحدة، ومع ذلك ويا للأسف فقد تشتت أهواؤها، وتفرقت أهدافها، وتعددت مذاهبها، وضلت عن الصراط بعض فرقها، فظهرت فيها عصبيات كثيرة كالمذهبية والشعوبية والعرقية، ومذاهب شتى على حساب دين الله الحنيف القويم ويعود ذلك برأيي إلى أمور عدة أهمها :
1 - تخلف المسلمين وتراجعهم الفكري والثقافي والعلمي والحضاري، وذلك لعدة أسباب من أهمها تعاقب الاحتلال والاستعمار والظلم الذي أذكى ظاهرة التشدد والتقوقع الفكري والمذهبي ورفض الفكر الآخر، وقيام متشددي قلة من المذاهب التكفيرية بتكفير كل ما عداهم من المذاهب الأخرى، 
2- ابتعاد أغلب علماء ومفكري المذاهب المختلفة عن المنهج الوسطي المعتدل الذي جعله البارئ عزوجل منهج الأمة الأسلامية امتثالاً لقوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي وسطية في الفكر والحوار، بعيدة عن التشدد والتشنج بالرأي، وأرى أن الله تعالى إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين،فلا هم أهل غلو فيه ولا هم أهل تقصير فيه،ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه،فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها، العقيدة الإسلامية قائمة على الوسطية بين الروحانية والمادية بين العقلانية والوجدانية والفردية والجماعية.
لأن الوسطية منطقة تقع بالوسط بين طرفين متضادين منحدرين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وهما طرفان متباعدان أوسطهما النقطة المرنة بينهما.
ويصحب الغلو دائماً جهل وتعصب وانسياق نحو الهوى وتمسك شديد بالرأي الشخصي 
أما الوسطية فمرتبطة بالمرونة، ومدعاة لرفع اليسر والحرج، لأن التنطع والتشديد حرج من جانب التشدد بالتكليف، والإفراط أو التفريط حرج فيما يؤدي إليه من تعطيل المصالح وعدم تحقيق مقاصد الشرع، واليسر يعني اللين وهو ضد العسر ـ ورفع الحرج يعني رفع كل ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أوالمال ،قال تعالى((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر))، [البقرة،185]
وقال تعالى((وما جعل عليكم في الدين من حرج))،[الحج78] وقال((ربنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به)) ـ
وللرسول الكريم % أحاديث عدة محذرة من الغلو والتشدد والمبالغة بأمور الدين حتى بالصلاة وهي من أهم أركان الإسلام   { أيها الناس إنّ منكم منفّرين فأيكم أمّ الناس ( يعني بالصلاة) فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذو الحاجة {، وقوله (( يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين )) والعدول هم الوسطيون المعتدلون الذين ينفون تحريف الغالين وتأويل الجاهلين،
وإنّ من أهم أسباب الغلو هو الجهل بحقيقة وسطية الإسلام بل الجهل بمكانتها في الشريعة، إذ إنّ الوسطية الإسلامية تتجلي في وسطية المكان فالكعبة المشرفة مكان وسط تقريبا ـ تتوسط دنيا الناس شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ووسطية العقيدة تتجلى في لا إكراه فيها ولا تعقيد ـ ووسطية العبادات فالصلاة مثلاً ليست كثيرة شاقة ولا قليلة مخلة،  ووسطية الأخلاق، ووسطية في توزيع الحقوق والواجبات  بين الفرد والمجتمع ـ ووسطية بين المادية المفرطة والروحانية الخيالية، ووسطية في استقلال شخصية المسلم في قول الحق والعدل، وعدم الظلم والرجوع إلى الحق وفي العزة دون تكبّر وفي الإنفاق الوسطي في غير إسراف ولا تقتير، وفي العيش بين الخوف والرجاء، وبين العسر واليسر، بين الجانب الحسّي والمعنوي ووسطية السلوك في السرّاء والضرّاء، وفي كظم الغيظ، وفي العفو عن الناس ـ والوسطية في حقوق الإنسان وحرياته وكونها وسط بين الحريات اللامحدودة والمحافظة على الفضائل وأخلاق المجتمع   وفي سماحة التشريع الإسلامي مع غير المسلمين .

أسس الوسطية في التصور الإسلامي
الأساس الأول: نشر الحقيقة المجرّدة بعيداً عن الأهواء والأمزجة والآراء الشخصية والرجوع إلى الحق وحده والتحاكم إليه.
الأساس الثاني: وجوب استعمال العقل  العلمي السليم أداة لفهم التشريع.
الأساس الثالث: نبذ الغلو في التصور فضلاً عن الغلو في السلوك والولاء، والعمل على نبذ التسيب في كل من التصور والسلوك.
الأساس الرابع: اعتماد أصول الخلاف العلمي بين العلماء للوصول إلى الحقيقة المجردة، ومن ثم إلى تضامن ووحدة الأمة الإسلامية وتمكينها في الأرض.
الأساس الخامس: لزوم اعتماد فقه الأولويات ومعرفة العادات وشؤون الشعوب وعلم الاجتماع فمن لم يفقه عصره فليس بفقيه ومن ليس فقيهاً في عصره هيهات أن يعي وسطية الشريعة ويفقهها فضلاً عن أن يجتهد بها.
الأساس السادس: لزوم اعتماد فقه النفس أساساً لفهم وسطية الإسلام فمن لم يكن لديه قسط وافر من هذا الفقه لا تتجلى له الوسطية بل يقع فريسة لأحد جانبي الإفراط والتفريط.
الأساس السابع: احترام المخالفين وآرائهم وفتح المجال للغير ليقول رأيه وفتح باب المناظرة العلمية الهادئة الهادفة والأخذ بمبدأ الحوار العلمي البناء المنتج.
الأساس الثامن: لا يُداوى غلو بغلو ولا تطرف بتطرف ولا إفراط بتفريط فالخطأ لا يزال يخطأ مثله ولا بأخف ولا بأشد بل بالصواب مع الدليل.
إن الغلو هو مجاوزة الحد المعقول في القول أو الفعل أو كليهما نقول غلا في الدين جاوز حده وفي القرآن الكريم ((لا تغلو في دينكم))،[النساء،671]،وفي الحديث إياكم والغلو في الدين ـ أي التشدد ومجاوزة الحد وفي أحاديث الرسول r ما يعين أيضاً على ذلك، ويقول r هلك المتنطعون القصد،القصد،تبلغوا}،{اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه}.

ومن أسباب الغلو:
تفسير النصوص تفسيراً متشدداً.
التشدد بتطبيق بالأحكام والقناعات
المغالاة والتطرف بالحكم على الآخرين.
ويقابل الغلو التفريط والجفاء،والتفريط هو التضييع قال تعالى((ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا وكان أمره فُرطاً، أي متطرفا بعيدا عن الاعتدال
3- مع بداية الصحوة الإسلامية بدأت الأمة تصيب مرة وتخطئ مرات، إذ أن ظاهرة الصحوة الإسلامية لم تنجح حتى الآن في وضع تصور فكري وسطي واحد مقبول لدى الأغلبية الفكرية والطليعة المؤمنة، بسبب استمرار التشدد والتقوقع والتجاذب، كنتائج طبيعية، لما يحمله كل طرف من تراث مليء بالمغالطات والتشويه عن الطرف الآخر
4- تدخل القوى المعادية للإسلام التي تحاول اجهاض مسار الصحوة الوسطية والتضامن الإسلامي بكل الإمكانات المتاحة لها، وهي أكثر من أن تحصى فلها مخابراتها المتواجدة في كل مكان بين ظهراني هذه الأمة، وإمكاناتها المعلوماتية، وأقلامها المأجورة وعملاؤها والتي يتمتع أغلبها بهالة من الاحترام بين عوام المسلمين، والتي تقوم بإرسال الفتاوى المزورة التكفيرية والتحريضية لكل طرف بدعوى صدورها من الطرف الآخر، كما جرى ويجري في العديد من الأقطار الإسلامية وعلى رأسها العراق وباكستان وأفغانستان، 
لذلك لا بد من صحوة وسطية تنويرية حقيقية لمفكري وأئمة علماء الأمة، يكون بمقدورها إفشال مخططات العدو الداخلي والخارجي، وذلك بتبني الأفكار والمناهج الوسطية التقريبية من قبل هؤلاء الأعلام، مع التمسك بالثوابت ومقاصد الشريعة الغراء، وهنا يبرز دور مهم وأساسي لأولي الأمر من  الحكام والمسؤولين وذلك بضرورة دعمهم لهؤلاء المفكرين والعلماء الوسطيين المعتدلين والمتنورين مادياً وإعلامياً وتوظيفاً، وإهمال ومحاربة المتشددين والمتطرفين التكفيريين في كل المذاهب والنحل، ونحن نرى أنه وحتى تؤتي فكرة التقريب الوسطية بين المذاهب أُكُلُها بين المسلمين عموما وطلبة العلم خصوصاً لا بد من:
آ - تثقيف الناس بحقائق الإسلام وثوابته الوسطية الأصيلة ومقاصده النبيلة،  ليعلم الجميع أن الاختلاف في الفروع لا يفسد للود قضية، ولا يخرج عن ربقة الإسلام، وأن المعيار لكون الرجل مسلماً هو إيمانه بأركان الإسلام الأساسية دون فروع المذاهب، وأن فروع كل مذهب ميزان لعد الرجل من أتباع ذلك المذهب لا لكونه مسلماً .
ب - التأكيد على أن الدعوة إلى التقريب الوسطي لا تعني بحد ذاتها الدعوة إلى مذهب جديد أو تحويل أفراد فريق ليتمذهبوا بالمذهب الآخر، وإلا فإن الدعوة ستكون دعوة إلى التفريق لا إلى التقريب
ج - التأكيد على أن الحوار والتضامن الإسلامي الإسلامي بات ضرورة ملحة تخدم الإسلام والمسلمين عموماً ويعتبر هذا الحوار ومن بعده التقارب والتضامن واجباً شرعياً لأنه تلبية لأمر إلهي امتثالا لقوله تعالى : فإذا كان الحوار الإسلامي مع غير المسلمين واجباً علينا بالحسنى لوجوب الدعوة إلى الله عملاً بقوله تعالى فمن باب أولى أن يكون هنالك حوار إسلامي داخلي بين المذاهب المختلفة وبالحسنى ايضاً، وقبل أي حوار آخر .
هـ - نقل فكرة الوسطية والاعتدال والتقارب المذهبي التنويري من الرفاهية الفكرية والثقافية لدى النخبة من العلماء والمفكرين الوسطيين المعتدلين إلى الشارع الإسلامي لتتعايش وتترعرع بين عامة المسلمين وتنمو من خلال الممارسة حتى تصبح الألفة والمحبة والوسطية والصداقة شيئاً طبيعياً، إذ ينبغي أن يعي الجميع أن لا حرج ولا غضاضة في الاختلاف، ويستحسن لإظهار ذلك مشاهدةُ علماء السنة والشيعة يؤدون الشعائر الدينية جنباً إلى جنب أئمة ومأمومين، والعمل على تعمد إظهار ذلك من خلال الصورة التلفزيونية أو الانترنت وخصوصاً في المناسبات والاحتفالات الدينية التي يحرص على حضورها العلماء والجماهير من المسلمين وفي مواقع الطرفين المعروفة والمشهورة حتى تأخذ فكرة التقارب مصداقيتها من التطبيق، ولا تبقى حبيسةً في مجتمعات النخبة الثقافية.
ولتنفيذ ذلك في حالتنا ( أي بين المذهبين الأكبر في العالم الإسلامي) لابد من اعتمادنا على أربعة بنود تتبنى الفكر الوسطي المعتدل والمتنور وأراها من الأهمية بمكان لإزالة أسباب التوتر والشحناء والبغضاء، وعودة الوحدة الشعبية، ولابد من اعتبارها جزءاً من مقررات المؤتمر الختامية، وأن يتبناها جميع العلماء والدعاة المتنورين في المذهبين والمذاهب الأخرى إذا أردنا حقيقة أن نلم الشمل ونعيد الوحدة للصفوف إن شاء الله تعالى وهذه البنود هي :
1ـ الاتفاق على عدم تكفير أحد من المؤمنين بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وبأركان الإٍسلام  خوفا من الوقوع في محذور قول الرسول الكريم ص  (من كفر مسلما فقد كفر،) وتصحيح مفهوم ما يسمونه حديث الفرقة الناجية على الرغم من أن بداية الحديث الوارد بهذا المعنى وهي
 (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنين وسبعين فرقة وتفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة) صحيحة ومتواترة أخرجها عدد من أئمة الحديث وهم ( حم، الأربعة، ك، حب، هق) وأوردها جدي الإمام المحدث سيدي محمد بن جعفر الكتاني في كتابه الشهير نظم المتناثر من الحيث المتواتر وهي في الواقع توقع للاختلاف وسماح به و قبول بنتائجه، أما الإضافة التي أضافها بعض التكفيريين وهي ( كلها في النار إلا واحدة ) فهي من الإدراج، ضعفها عدد من أئمة الحديث
2ـ تجاوز خلافات الماضي الفكرية والسياسية والاجتماعية تلك الخلافات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والتي لا فائدة ترجى من بحثها واجترارها إلا المزيد من الفرقة والانقسام والضياع، والتي ينظر إليها العالَم المتحضر على أنها صورة من أبشع صور تخلفنا وضياعنا، فالعقلاء يبحثون أمور الحاضر والمستقبل ولا يجترون مشاكل الماضي المأساوية،
3ـ الاتفاق على عدم المساس بأئمة آل البيت والصحابة الكرام وبأئمة المذاهب الإسلامية، هذا المساس الذي يوغر الصدور، ويزيد الشحناء والبغضاء دون أية مكاسب ترجى، وإصدار التشريعات المحرمة لذلك.( وقد سررنا جداً وسر أهل السنة عموما لصدور فتوى من سماحة المرشد الأعلى الإمام الخامنائي حفظه الله بتحريم الإساءة للصحابة وأمهات المؤمنين الكرام تلك الفتوى التي أثلجت صدور الجميع،،
4 ـ تشكيل لجان من العلماء الوسطيين المتنورين من المذاهب المختلفة لدراسة ملفات الخلاف، ومحاولة الاتفاق على مرجعية معتمدة ثابتة، للتوفيق بين المذاهب ما أمكننا إلى ذلك سبيلاً، وشعارنا
( نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه )
فإذا ما استطعنا تحقيق ذلك فعلاً نكون قد وضعنا اللبنات الأولى للوسطية المجدية والتي هي السبيل الوحيد للتضامن والتقارب المذهبي ولعودة اللحمة للأمة، مما يمكننا من إزالة ما علق بأذهان البعض من ترهات لا أصل لها في أساسيات المذهبين العظيمين، عندها فقط نستطيع توحيد موقف الأمة من مختلف القضايا المصيرية وتحقيق التكافل والتضامن في مختلف المجالات.
والحمد لله العزيز العليم القائل في محكم التنزيل ( وفوق كل ذي علم عليم ) صدق الله العظيم
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته