واجبات وحقوق الحاكـم الإسلامي

واجبات وحقوق الحاكـم الإسلامي

 

 

واجبات وحقوق الحاكـم الإسلامي

 

شهاب الدين الحسيني ـ العراق

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقـدمـة:

الأُمة الإسلامية أمّة واحدة وإن تعددت فيها المذاهب; تجتمع حول عقيدة واحدة، ومنهج واحد، وسلوك واحد، ومصالح واحدة، ومصير واحد، وتواجه عدوّاً واحداً وحدّ صفوفه وإمكانياته من أجل إيقاف المسيرة الإسلامية وعرقلة حركتها التاريخية لتصفيتها عقيدة وقيادة وكياناً، وقد أيقن أعداء الأُمة الإسلامية انّ الإسلام لازال قوة تنافسهم وتنازلهم وتطاردهم في جميع مجالات الحياة; الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية وخصوصاً بعد ان استطاع الإمام الخمينيv أن يعيد الإسلام منهاجاً في الحياة بتأسيسه الجمهورية الإسلامية التي ساهمت مساهمة فعّالة في الصحوة الإسلامية ابتداءً وإدامةً، وأعادت الأمل إلى جميع أبناء الأُمة بقدرتهم على النهوض وإعادة الإسلام إلى موقعه الريادي بين الأمم، بعد أن كان أُمنيّة في الأذهان والتصورات وأصبح بقيادة الإمام الخمينيv وخليفته الإمام الخامنئي(حفظه الله) قوة عظمى ينازل الاستكبار العالمي ليعيد للأُمة الإسلامية مجدها وعزتها ودورها في قيادة العالم الإنساني، وبعد هذا الانتصار الكبير أصبحت جميع المفاهيم والقيم الإسلامية حقائق واقعية

ـ(208)ـ

بعد أن كانت مسطورة في الكتب، ومن هذه المفاهيم: الحاكم والحكومة الإسلامية، والتي أوجب فقهاء المسلمين قيامها، فأصبحت قائمة على أرض الواقع، منذ ثمانية عشر عاماً، ومن خلال هذه التجربة الجديدة مضافاً إلى ما أوردته ثقافتنا الإسلامية من مفاهيم حول الحاكم والحكومة نستطيع أن نضع الأسس والقواعد العامة المرتبطة بالحاكم الإسلامي، وفقاً لأدبيات التقريب التي نهض بها جمع من علماء الشيعة والسنّة في السنوات التي سبقت قيام الجمهورية الإسلامية، وتوجت الجمهورية الإسلامية ذلك المشروع المبارك بعقد عشر مؤتمرات للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وفي بحثنا هذا نعتمد على الروايات المشتركة بين المذاهب وعلى بعضها التي انفرد بها هذا المذهب أو ذاك بما يُرسي دعائم التقريب، وتركّز على دلالة الرواية مع التساهل في سندها للاختلاف في التعديل والتجريح المعتمد في كل مذهب، فتعتمد على الروايات التي تنهض كدليل أو مؤيد أو شاهد على الأسس التي نتبنّاها، إضافة إلى ما قام به السلف الصالح من أعمال ونشاطات في مجال الحكم لم تواجه اعتراضاً من قبل كبار الصحابة في ظروف كانت لهم القدرة فيها على الاعتراض، فمصادرنا في البحث هو القرآن الكريم وسنّة رسول الله وسيرة السلف الصالح وآراء أئمة الحديث والفقهاء، لتضع صورة واضحة المعالم عن واجبات وحقوق الحاكم الإسلامي في مرحلتنا الراهنة بتوسعة المفاهيم المطروحة في المراحل الأولى للدعوة الإسلامية وان كانت مختصة بأفراد معينين فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد، ونسأل الله تعالى أن يوحد صفوفنا ويجمع كلمتنا في إطار الأهداف الإسلامية الكبرى لنتعامل مع الفواصل الجزئية في حدودها في مرحلة تكالبت علينا جميع الدول الاستكبارية للحيلولة دون وحدتنا وتقاربنا، فبالوحدة نحقق أهدافنا بأسرع وقت وبأقل التكاليف لنعيد مجد الإسلام وعزة المسلمين في عصر الصحوة الإسلامية والنهوض الحضاري المرتقب.

ـ(209)ـ

ضرورة تنصيب الحاكم الإسلامي

من موارد الاتفاق بين المسلمين ضرورة تنصيب الحاكم الإسلامي ليقوم بحماية العقيدة وتطبيق أحكام الشريعة، وقيادة الأُمة على أساس المنهج الإلهي في التصوّر والاعتقاد وفي العمل والسلوك لتنعم البشرية في ظلّ حكومته بالعدل والاستقرار والرفاهية، وتتحرّر من كل ألوان التسلط والانحراف، ومن موارد الاتفاق أن يتصف الحاكم الإسلامي بالعلم والكفاءة والعدالة والتقوى، ان كانت الأُمة الإسلامية قادرة على الاختيار بمحض إرادتها، وإذا كانت الظروف غير مؤاتية للاختيار يقدّم من يستطيع تحمّل المسؤولية وان لم يتصف ببعض تلك المواصفات، وهذا الاتفاق ورد في كثير من الروايات المعتبرة عند السنّة والشيعة، وفي آراء العلماء والفقهاء المتقدمين والمتأخرين، وهذا الاتفاق معلوم من خلال سيرة المسلمين التاريخية بما فيهم أهل البيت عليه السلام.

الباب الأول

واجبات الحاكم الإسلامي

من أهم واجبات الحاكم الإسلامي هي إقرار العقيدة والشريعة في واقع الحياة لتكون هي الحاكمة على تصورات الناس وأخلاقهم وعلاقاتهم، وإقرار المنهج الإلهي في الأرض وتحقيقه في صورة واقعية ذات معالم واضحة، تترجم فيها القواعد الفكرية والنظرية إلى حركات وأعمال ومشاعر وأخلاق وارتباطات، قال سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ...﴾(1).

ـ(210)ـ

ومن أهم واجبات الحاكم أن يتقيّد بالشريعة الإسلامية في الحكم بين الناس قال تعالى:﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾(2).

الواجبات السياسية:

أولاً : استشارة أصحاب الاختصاص:

أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم بالشورى فقال:

﴿... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(3).

لا نريد أن ندخل في حقيقة الشورى هل هي واجبة على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أم مندوبة أم مباحة، فالقضية محل خلاف بين الفقهاء سواء كانوا منتمين إلى مذهب واحد أم مذاهب متعددة، ولكنّنا ننظر إلى الواقع العملي فانّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاستشارة لأصحاب الاختصاص لتطييب خواطرهم وتوثيق العلاقة بينه وبينهم وبناء الشخصية الإسلامية، وان كان في الواقع غير محتاج لآرائهم لارتباطه بالله تعالى المسدّد والمقوّم لـه كما ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلم انّه قال:

(أما أنّ الله ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً)(4).

___________________________

1ـ سورة الحج: الآية 41.

2ـ سورة النساء: 105.

3ـ سورة آل عمران: 159.

4ـ الدر المنثور 2: 90، السيوطي، دار المعرفة ببيروت 1979 م.

ـ(211)ـ

وكان صلّى الله عليه وآله وسلم يستشير أصحابه ابتداءً، ويستمع إلى من يشير عليه وان لم يطلب مشورته، وأراد صلّى الله عليه وآله وسلم بهذا العمل أن يقتدي به الحاكم الإسلامي في كل العصور، والشورى وان اختلف في وجوبها في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فانّ وجوبها على غير المعصوم من الحكّام من القضايا المتسالم بها عند المسلمين، وذهب ابن عطية إلى القول:(والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا ما لا خلاف فيه)(1).

ويجب على الحاكم أن يستمع إلى جميع وجهات النظر المطروحة ويقلب الأمر على وجوهه كلّها، ثم يختار الأصوب منها والذي يحقق مصلحة الإسلام والأُمة، ويحق لـه أن ينفرد برأيه إن وجد الصواب به، قال الإمام علي عليه السلام لابن عباس:(لك أن تشير عليّ وأرى فإن عصيتك فأطعني)(2).

وفي عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ومن بعده من الخلفاء لم يكن هناك مجلس شورى يتعدد بأفراد معينين لبساطة الحياة وسهولة الأمور، ولم يحدد الإسلام طريقة معينة للشورى وإنما ترك المسلمين لاختيار ما يرونه مناسباً تبعاً لظروف عصرهم، وفي العصر الراهن بعد تعقيد وتشابك سبل الحياة وتطورها لابدّ من تشكيل مجلس شورى يضم مختلف أصحاب الخبرة والاختصاص، يشاورهم الحاكم أو يشيرون عليه ابتداءاً، ومن النماذج العصرية للشورى ما قامت به الجمهورية الإسلامية حيث شكّلت مجلساً للشورى شارك الشعب في انتخاب أعضائه ونصت المادة السابعة من الدستور على ما يلي:

(تعتبر مجالس الشورى: مجلس الشورى الوطني، ومجلس شورى المحافظة والقضاء والقرية والمحلة وأمثالها من مراكز صنع القرار وإدارة شؤون الدولة).

___________________________

1ـ المحرر الوجيز 3: 397، ابن عطية، الدوحة 1402 ط 1.

2ـ نهج البلاغة 531، تحقيق صبحي الصالح، بيروت، 1387 هـ.

 

ـ(212)ـ

ثانياً : تعيين الأمناء والأكفّاء في مراكز الدولة:

يجب على الحاكم الإسلامي أن يعيّن الأمناء والأكفّاء في مراكز الدولة وخصوصاً المراكز الحساسة ذات التأثير في سير الأحداث، من أجل ضمان مسيرة الحكومة في تطبيق القوانين والتشريعات، وفي معرض الحديث عن واجبات الحاكم جعل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم هذا الواجب من ضمنها فقال:(... وأن يستعين على أمورهم بخير من يعلم...)(1).

والإسلام ينظر إلى المركز الحكومي بأنه وسيلة لأداء الواجب والتكليف الشرعي فلا يناله إلاّ الأمناء، ولذا كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لا يولّي من كان حريصاً على الوصول إلى أحد مراكز الحكومة، وكان يقول:

(إنّا والله لا نولّي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه)(2).

والمراكز الحكومية أمانة كما وصفها صلّى الله عليه وآله وسلم:

(... إنّها أمانة وإنّها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها)(3).

وكان صلّى الله عليه وآله وسلم يحذّر من إسناد المناصب الحكومية إلى الأقارب لمجرّد انّهم أقارب للحاكم دون النظر إلى الأمانة والكفاءة، فكان يقول:

(من ولي ذا قرابة محاباة وهو يجد خيراً منه لم يجد رائحة الجنّة)(4).

وفي عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الاشتر حينما ولاّه مصر، حدّد لـه أسلوب اختيار العمّال على الأعمال:

___________________________

1ـ كنز العمّال 6: 47، الهندي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1985 م ط 5.

2ـ صحيح مسلم 3: 1456.

3ـ صحيح مسلم 3: 1457.

4ـ كنز العمال 6: 39.

ـ(213)ـ

(ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممّن لا تضيق به الأمور... ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه،... وأقلّهم تبرماً بمراجعة الخصم... ثم انظر في أمور عُـمّـالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً... وتوخ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام...)(1).

ويتبع تعيين الإمناء والأكفاء مرحلة المراقبة والمحاسبة ليؤدّوا ما عليهم من وظائف دون تلكؤ أو تقصير أو قصور، فقد استعمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ابن اللتبيّة على الصدقة فجاء بالمال وقال:(هذا مالكم، وهذه هديّة أهديت لي).

فقال لـه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم:(أفلا قعدت في بيت أبيك وأمّك فتنظر أيهدى إليك أم لا...)(2).

وكتب الإمام علي عليه السلام إلى أحد وآلاته يهدّده:(وإنّي أُقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنّك خُنتَ من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشُدنّ عليكَ شدّة تَدَعُكَ قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر)(3).

وكان عليّ شديد المحاسبة لولاته وعمّاله، وكان عمر بن الخطّاب كذلك حتى انّه أعلن بكتابه إلى أهل الكوفة:(من ظلمه أميره فلا إمرة لـه عليه دوني...)(4).

___________________________

1ـ نهج البلاغة 434ـ 437.

2ـ صحيح مسلم 3: 1463.

3ـ نهج البلاغة 377.

4ـ السنّة 1: 118، أبو بكر الخلاّل.

ـ(214)ـ

ثالثاً : الحرص على وحدة الأُمة الإسلامية:

من أهم واجبات الحاكم الإسلامي هو الحفاظ على وحدة الأُمة الإسلامية ووحدة مركز قوتها وهي الحكومة الإسلامية، ولا يجوز لـه التفريط في هذا الواجب وهذه المسؤولية، فكان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يعمل جاهداً لتحقيق الوحدة بالنصائح المستمرة وباتخاذ الموقف العملي الواقع في طريقها، ففي أوائل الهجرة كتب صلّى الله عليه وآله وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم، وممّا جاء فيه:

(هذا كتاب من محمّد النّبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم... إنهم أمة واحدة من دون الناس... وان المؤمنين المتّقين على من بغى منهم أو ابتغى... ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعاً... وانّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنّه من تَبعنا من يهود فانّ لـه النصر والأسوة...)(1).

وكان صلّى الله عليه وآله وسلم يحذّر من مخططات المنافقين الراميّة لتمزيق الدولة الإسلامية، وحينما اشتدت خطورتهم قام بحرق منزل سويلم اليهودي لاجتماع المنافقين فيه، وأمر بإحراق مسجد ضرار الذي أُسس للتفريق بين المسلمين(2).

ومن أجل وحدة الأُمة والدولة قاتل عليّ بن أبي طالب أصحاب الجمل وصفّين والنهروان بعد ان استنفذ الطرق السلمية لإعادتهم إلى الطاعة.

وكان الإمام الخميني حريصاً على وحدة الجمهورية الإسلامية وعلى وحدة الأُمة الإسلامية وأصدر فتاويه بحرمة كل ما يؤدي إلى تمزيق صفوف المسلمين وشجّع على التقريب بين المذاهب، واستمر الإمام الخامنئي على نهجه وتحت ظلّه أُقيم المؤتمر العاشر للتقريب بين المذاهب.

___________________________

1ـ السيرة النبوية، 2: 147ـ 148، ابن هشام.

2ـ سيرة ابن هشام 4: 160ـ 174.

ـ(215)ـ

رابعاً : المحافظة على الأمن والاستقرار:

من الواجبات الشرعية والعقلية المكلّف بها الحاكم الإسلامي هي المحافظة على الأمن والاستقرار وإزالة عوامل الخطر والاضطراب التي تواجه الأُمة الإسلامية وخصوصاً الرعايا التابعين لها، وكانت سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قائمة على أساس تنفيذ هذا الواجب، وقد قاد أغلب الغزوات بنفسه من أجل صد العدوان وردع الأخطار، واتفق فقهاء المسلمين على وجوب الدفاع عن بيضة الإسلام وحماية الثغور وأوكلوا هذه المهمّة إلى الحاكم الإسلامي.

قال الطوسي:(... والثاني أن يقوم بتدبير الأُمة وسياستها وتأديب جناتها، والقيام بالدفاع عنها، وحرب من يعاديها...)(1).

واشترط الماوردي أن يتصف الحاكم بالشجاعة والنجدة المؤدية إلى(حماية البيضة وجهاد العدو)(2).

وكان الفرّاء يرى انّ من واجبات الحاكم الإسلامي(حماية البيضة، وتحصين الثغور بالعدّة المانعة، وجهاد من عاند الإسلام)(3).

وواجب الحاكم داخل حدود الدولة ـ من أجل المحافظة على الأمن والاستقرار ـ أن يحافظ على أرواح وأعراض وممتلكات رعاياه بالقضاء على الفتن الداخلية، والقضاء على قطّاع الطرق والمعتدين، ووضع الإمام علي عليه السلام قاعدة اختيار أهون الشرّين للمحافظة على الأمن والاستقرار العام فقال:

(وال ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم)(4).

___________________________

1ـ الرسائل العشرة 111.

2ـ الأحكام السلطانية 6، الماوردي، مطبعة مصطفى البابي 1386 هـ.

3ـ الأحكام السلطانية 11، الفراء، مطبعة مصطفى البابي 1386 هـ.

4ـ تصنيف غرر الحكم 464 عبد الواحد آمدى.

ـ(216)ـ

خامساً : إعلان الحريات العامّة:

جاء الإسلام لتحرير الإنسان من كل ألوان السيطرة والعبودية والاستغلال، والواجب على الحاكم الإسلامي أن ينفّذ هذه المهمة، ويعلن الحريات العامة لرعيته مسلمين كانوا أم غير مسلمين، ففي مجال العقيدة قال سبحانه وتعالى:

«لا إكراه في الدين قد تبيّن الرّشد من الغيّ»(1).

وكان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قد منح الحرية لجميع رعاياه من يهود ونصارى، فقد بقيت ريحانة بنت عمر وبن خنافة على يهوديتها وهي في ملكه، ورفضت الإسلام(2).

وفي مجال الرأي والقول يجب على الحاكم أن يتقبل ما يصدر من رعاياه من أراء وأقوال طبقاً لقاعدة(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، كتب أبو عبيدة ومعاذ بن جبل كتاباً لعمر بن الخطاب في خلافته جاء فيه:

(... فانّا نحذّرك يوماً تعني فيه الوجوه، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قاهر).

فأجابهم:

(... وأنكما كتبتماه نصيحة لي وقد صدقتما، فلا تدعا الكتاب إليّ فانّه لا غنى لي عنكما)(3).

والواجب على الحاكم الإسلامي أن يمنح حرية الاعتراض لرعاياه وان كانوا خاطئين ما دام اعتراضاً سلمياً هادئاً، ففي عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم اعترض عمر بن الخطاب على عقد صلح الحديبية فأعطاهم صلّى الله عليه وآله وسلم الحرية الكاملة في تبيان وجهات نظرهم(4).

وفي رواية عمر بن الخطاب يذكر فيها اعتراضه على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم حينما أراد أن

___________________________

1ـ البقرة: 256.

2ـ سيرة ابن هشام 3: 256.

3ـ مجمع الزوائد 5: 214، الهيثمي، دار الكتاب العربي 1402 هـ ط 2.

4ـ سيرة ابن كثير 3: 320.

ـ(217)ـ

يصلّي على رئيس المنافقين:

(... فلمّا وقف عليه يريد الصلاة تحوّلت حتى قمت فقلت: يا رسول الله، أتصلّي على عدو الله... ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخّر عنّي إنّي قد خُيّرت فاخترت)(1).

وحينما وزّع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الغنائم اعترض عليه ذو الخويصرة باعتراض أساء فيه الأدب وقال:(يا محمد أعدل)، فلم يجبه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلاّ بالقول: (ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل)(2).

واعترض بعض الصحابة على أبي بكر لاستخلافه عمر بن الخطاب، ففسح لهم المجال في الاعتراض(3).

وحينما خرج البعض على عليّ بن أبي طالب سمح لهم بإبداء وجهات نظرهم وترك لهم حرية الرأي والقول وكان يقول:(أن لا نمنعهم المساجد أن يذكروا الله فيها، وأن لا نمنعهم الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا، وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا)(4).

ومنح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الحرية لأصحابه في مجال التنفيذ في حدود لا تؤثر سلباً على سير الأحداث فحينما دعا صلّى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة قبل صلح الحديبية قال عمر:(يا رسول الله إنّي أخاف قريشاً على نفسي وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني... ولكنّي أدلك على رجل أعزّ بها منّي عثمان بن عفان)(5)، فلم يكرهه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم على تنفيذ الأمر الصادر إليه.

___________________________

1ـ سيرة ابن هشام 4: 197.

2ـ سيرة ابن كثير 3: 687.

3ـ تاريخ الإسلام 116، الذهبي، دار الكتاب العربي 1407 هـ ط 1.

4ـ الأموال 245، أبو عبيد، دار الكتب العلمية 1406 هـ ط 1.

5ـ سيرة ابن كثير 3: 318.

ـ(218)ـ

سادساً : القضاء العادل بين المسلمين:

ومن واجبات الحاكم الإسلامي الأساسية إقامة القضاء بين المسلمين طبقاً للدستور الإسلامي، قال الإمام علي عليه السلام: (يحق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة...)(1).

والحاكم مكلّف بإقامة الحق وإعادة الحقوق إلى مستحقيها، وفي وصف الحاكم وتحديد بعض واجباته قال علي عليه السلام:(... عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقّه...)(2). وأن يقيم حدود الله تعالى التي أنزلها على نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم، قال علي: (ليس على الإمام إلاّ ما حمّل به من أمر ربّه... وإقامة الحدود على مستحقيها...)(3).

وان يعالج قضايا المنازعات التي تحدث بين رعاياه، قال الجرجاني:(أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع المخاصمات...)(4).

ومن مسؤوليات الحاكم الإسلامي أن يحكم بين الناس بالعدل، قال الله تعالى:﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ...﴾(5).

___________________________

1ـ الأمـوال 13.

2ـ كتاب سليم بن قيس 2: 752، مطبعة الهادي قم 1415 هـ.

3ـ شرح نهج البلاغة 7: 167.

4ـ شرح المواقف 8: 349، الجرجاني مطبعة السعادة مصر، ط 1.

5ـ سورة النساء: 58.

ـ(219)ـ

وعلى الحاكم أن لا يفرّق في إصدار الحكم بين فرد وآخر وأن يقيم الحدود على مستحقيها وأن لا يقبل الشفاعة لتعطيل حدّ من حدود الله تعالى، فرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رفض شفاعة أسامة بن زيد في امرأة مخزومية سرقت وقام خطيباً وقال: (يا أيّها الناس إنّما ظل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)(1).

وفي عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم كان القضاء بيده صلّى الله عليه وآله وسلم وكان يباشر بنفسه الحكم في الخصومات والمنازعات في عاصمة الدولة الإسلامية ويوكل أمر القضاء إلى فقهاء الصحابة خارج المدينة، وفي عصرنا الراهن توسعت دائرة الإسلام وازداد عدد المسلمين، وتعقدت المشاكل والنزاعات، فكانت الحاجة إلى توسعة شؤون القضاء أمراً ضرورياً فحددت وزارة خاصة بالقضاء والقضاة تحت إشراف الحاكم الإسلامي فهو المسؤول عن تعيين القضاة طبقاً للشروط التي حدّدها الشرع الإسلامي ومن أهمها الفقاهة والعدالة(2).

والواجب على الحاكم متابعة شؤون القضاء ومراقبة تنفيذ الأحكام طبقاً للشريعة الإسلامية.

سابعاً : مساواة الرعية أمام القانون:

من واجب الحاكم الإسلامي أن يتعامل مع الرعية تعاملاً عادلاً لا يحابي أحداً منهم ولا يميل إلى ذي قرابة أو صداقة، وان يكونوا جميعاً متساوين أمام القانون، خاطب علي عليه السلام رعيته قائلاً:

___________________________

1ـ صحيح البخاري 8: 199، دار أحياء التراث العربي.

2ـ الأحكام السلطانية، 30، الغرّاء.

ـ(220)ـ

(ألا وإنّ لكم عندي... أن تكونوا عندي في الحق سواء...)(1).

وجعل علي عليه السلام المساواة شرطاً من شروط صلاحية الحاكم لمنصبه فقال:

(ثلاثة من كنّ فيه من الأئمة صلح أن يكون إماماً اضطلع بأمانته، إذا عدل في حكمه ولم يحتجب دون رعيته وأقام كتاب الله تعالى في القريب والبعيد)(2).

وكتب علي عليه السلام إلى أحد ولاته المقصّرين في أعمالهم والمستحوذين على بيت المال دون حق:(... ووالله لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا منّي بإرادة، حتى آخذ الحقّ منهما وأزيح الباطل عن مظلمتهما...)(3).

وكانت سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قائمة على أساس مساواة المسلمين أمام القانون لا فرق بين قريب وبعيد.

ومن واجب الحاكم الإسلامي أن يزيل كل تمايز عنصري قائم على أُسس طبقية أو قومية أو طائفية كما نصّت عليه المادة التاسعة عشر من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران.

الواجبات الاجتماعية

إنّ مسؤولية الحاكم الإسلامي هي رعاية شؤون الأُمة، قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:

(ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته...)(4).

___________________________

1ـ شرح نهج البلاغة 17: 16.

2ـ كنز العمال 5: 764.

3ـ نهج البلاغة 414.

4ـ صحيح مسلم 3: 1459.

ـ(221)ـ

فهو مسؤول عن تنظيم العلاقات الاجتماعية وأقامتها على التكافل والتراحم والتناصح، والأمانة والعدل والمودة والإحسان، ومن أهم واجبات الحاكم الاجتماعية:

أولاً : الاهتمام بأمور المسلمين:

الحاكم الإسلامي مسؤول عن جميع المسلمين سواء كانوا معه في البقعة الجغرافية التي يفرض سيطرته عليها أو خارجها، وعليه أن يشارك المسلمين في آمالهم وآلامهم، قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(1).

وقال علي عليه السلام: (أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكارة الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(2).

وخير مصداق للاهتمام بأمور المسلمين ما نص عليه دستور الجمهورية الإسلامية في إيران ففي المادة 152 ورد: (إنّ السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية تقوم على أساس... الدفاع عن حقوق كل المسلمين، وعدم الالتزام بأي شيء تجاه القوى المتسلطة).

ونصّت المادة 154 على: (مع نفي أي تدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى، فإنها تؤيد وتدافع عن الكفاح العادل للمستضعفين في إقبال المستكبرين، في أيّ بقعة من بقاع العالم).

ونصّت المادة 155 على انّ: (دولة الجمهورية الإسلامية في إيران تستطيع أن تمنح حق اللجوء السياسي لكل من يطلب ذلك باستثناء الذين يعتبرون وفقاً لقوانين إيران مجرمين أو خونة).

___________________________

1ـ الكافي 2: 163، الكليني، دار صادر، بيروت 1401 هـ.

2ـ نهج البلاغة 418.

ـ(222)ـ

ويتواجد على أرض الجمهورية الإسلامية أكثر من مليون ونصف لاجئ من الدولة الإسلامية المجاورة.

ثانياً : وجوب النظر في حوائج الناس: من واجب الحاكم الإسلامي أن لا يضع حاجزاً بينه وبين الرعيّة قال: علي عليه السلام: (ثلاثة من كنّ فيه من الأئمة صلح أن يكون إماماً اضطلع بأمانته إذا أعدل في حكمه ولم يحتجب دون رعيته وأقام كتاب الله تعالى في القريب والبعيد)(1).

وواجب الحاكم أن ينظر في حوائج المسلمين. قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:(من وليّ شيئاً من أمر المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتى ينظر في حوائجهم)(2).

ومن واجب الحاكم الإسلامي أًن يخصص جزءاً من وقته للنظر في حوائج المسلمين، ففي عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الاشتر ـ حينما ولاّه مصر ـ ورد ما يؤكد ذلك:(واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع)(3).

وكانت سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قائمة على النظر في احتياجات المسلمين والمساهمة في إشباعها وكذا كانت سيرة الخلفاء الصالحين، وإذا كانت الحياة الاجتماعية آنذاك لا تعقيد فيها، واللقاء مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أو الخليفة سهلاً يسيراً، فانّ العصر الراهن تعقدت فيه الأمور وتداخلت فيه العلاقات فيجب أن يؤسس الحاكم الإسلامي مؤسسات خاصة لمتابعة

___________________________

1ـ كنز العمال 5: 764.

2ـ مجمع الزوائد 5: 211.

3ـ نهج البلاغة 439.

ـ(223)ـ

 احتياجات الناس ويعيّن فيها الثقاة والمخلصين ليكونوا حلقة الوصل بينه وبين النّاس، وخير مصداق لذلك ما طبّق في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ففي كل دائرة من دوائر الدولة يوجد قسم خاص لمتابعة أمور الناس وشكاويهم، وأئمة الجمعة يتابعون بدورهم حوائج الناس، وتقوم المكاتب التابعة للإمام الخامنئي(حفظه الله) بنفس الدور والأهم من كل ذلك ان مكتبه الرئيسي في العاصمة يستمع إلى شكاوي المواطنين واحتياجاتهم ويضع الحلول المناسبة لها، إضافة إلى تخصيص يوما في الأسبوع للقاء القائد مع المواطنين، وللقائد زيارات ميدانية للمحافظات والاقضية والمدن المختلفة يلتقي فيها مع المواطنين لقاءاً مباشراً.

ثالثاً : حسن التعامل مع الرعيّة:

انّ منصب الحاكم الإسلامي مسؤولية وتكليف وليس تشريفاً لـه، والواجب عليه أن لا يتعامل مع الرعيّة تعاملاً فوقياً، وإنّما يحسن التعامل معها ويكون موقعه كموقع الأب لأبنائه، قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:

(لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم)(1).

وحدّد الإمام علي عليه السلام أسلوب التعامل مع الرعيّة كالرحمة بهم ومبادلتهم الحب واللطف بهم، والتواضع، والرفق، والحلم والأنصاف، والعفو والكرم والمداراة(2).

والواجب على الحاكم أن يكون ناصحاً مع الرعيّة صريحاً معهم لا يغشهم ولا يخفي شيئاً عنهم إلاّ في حدود المصلحة العامة كإسرار الحرب وأشباهها، قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:

___________________________

1ـ الكافي 1: 407.

2ـ تصنيف غرر الحكم 342.

ـ(224)ـ

(ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يَحُطْها بنصيحة إلاّ لم يجد رائحة الجنة)(1).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلاّ حرّم الله عليه الجنّة)(2).

ويجب على الحاكم الإسلامي أن لا يحمّل الرعية فوق طاقتها، قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تحرجوا أمتي اللهمّ من أحرج أمتي فانتقم منه)(3).

ويجب على الحاكم أن لا يستثمر منصبه وتقديس الرعية لـه في دفعها للتنازل عن بعض حقوقها أو حريتها في التصرّف، فحينما طلب وفد هوازن من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إرجاع السبايا من النساء قال لهم:(إمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم)، فقال المهاجرون والأنصار:(وما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم)، أمّا بنو تميم وبنو فزارة وبنو سليم فأبوا التنازل عن حقهم، فقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:(من أمسك منكم بحقّه فله بكل إنسان ستة فرائض من أول فيء نصيبه، فردّوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم)(4).

وحينما رفضت بريرة الرجوع إلى زوجها قال لها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:(لو أرجعتيه فانّه أبو ولدك) فقالت: يا رسول الله تأمرني به؟ فلم يستثمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم منصبه وتقديس بريرة لـه ليأمرهـا بالرجوع إليه مع كراهيتها لـه، وإنما قال لها:(إنّما شافع) فقالت: فلا حاجة لي فيه(5).

___________________________

1ـ صحيح البخاري 9: 8.

2ـ سنن الدارمي 2: 324.

3ـ مجمع الزوائد 5: 214.

4ـ سيرة ابن كثير 3: 668ـ 669.

5ـ سنن الدارقطني 2: 154 دار المعرفة بيروت 1386 هـ.

ـ(225)ـ

الواجبات التعليمية والتربوية:

تقع على عاتق الحاكم الإسلامي تعليم وتربية الأُمة، بنشر المفاهيم والقيم والأحكام الإسلامية، وتحصينها من الانحراف العقائدي والسلوكي، وتعليمها مختلف العلوم التي تحتاجها، والتي تكون مقدمة لإيصال الأُمة إلى مرحلة الرقي والتطور والرفاهية والسعادة كتعلم فنون الطب والصناعات وغيرها، مع التركيز على التعليم المتعلّق بالعقيدة والشريعة، ففي رواية: دخل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم المسجد فإذا جماعة محيطين برجل أعلم الناس بأنساب العرب وأيام الجاهلية والأشعار العربية فقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه، إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل)(1).

وأكدّ علي عليه السلام على مسؤولية الحاكم في التعليم والتربية فقال:(على الإمام أن يعلّم أهل ولايته حدود الإسلام والإيمان)(2).

وأكدّ على وجوب تربية الرعية فقال:(ليس على الإمام إلاّ ما حمّل من أمر ربّه: الإبلاغ في الموعظة والاجتهاد في النصيحة...)(3).

ومن واجب الحاكم الإسلامي أن يبدأ بنفسه في المجال التربوي ليكون قدوة لمن يريد تربيتهم وإرشادهم، قال الإمام علي عليه السلام:

(من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلّم الناس ومؤدبهم)(4).

وعنه عليه السلام أنّه قال:(أيّها الناس إنّي والله ما أحثكم على طاعة إلاّ وأسبقكم

___________________________

1ـ الكافي 1: 32.

2ـ تصنيف غرر الحكم 341.

3ـ شرح نهج البلاغة 7: 167.

4ـ نهج البلاغة 480.

ـ(226)ـ

إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلاّ وأتناهى قبلكم عنها)(1).

وفي أوائل الدعوة الإسلامية رسم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم المنهج المفروض على الحاكم للقيام بأعبائه، فاهتمّ بتعليم المسلمين الكتابة، وجعل فداء كل أسير من أسرى بدر ممّن يحسنون القراءة والكتابة أن يعلم عشرة من الصحابة وأبنائهم القراءة والكتابة، وثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بعض الصحابة أن يتعلموا اللغة السريانية والعبرية والفارسية والرومية والقبطية والحبشية ليتولّوا أعمال الترجمة(2)، ولـمّا افتتح خيبر كان بين الأسرى ثلاثين حدّاداً، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(اتركوهم بين المسلمين ينتفعون بصناعتهم).

وكان صلّى الله عليه وآله وسلم يرسل إلى خارج المدينة بعض الصحابة ليعلّموا القبائل الكتابة والقرآن والسنّة، والفراض والأحكام الشرعية.

وكان المسجد بمثابة المدرسة والجامعة التي يتعلم بها المسلمون جميع ما يتعلق بشؤون العقيدة والشريعة، وكان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يتدرج مع المسلمين في التعليم والتربية، وتغييرهم بالإسلام، وكان كثير النصح والإرشاد لأصحابه لا يترك مناسبة إلاّ استثمرها في تحقيق الهدف التعليمي والتربوي.

وبعد تطور وسائل الحياة كانت الحاجة إلى التعليم والتربية ضرورية ويجب على الحاكم أن ينفّذ ما عليه من مسؤولية بتأسيس الجامعات والمدارس الشاملة لجميع الاختصاصات، وفي ظل الجمهورية الإسلامية نشطت الحركة العلميّة في الجامعة والحوزة الدينية، واهتمت القيادة الإسلامية اهتماماً كبيراً في شؤون التربية وتقييم أصحاب الاختصاصات والمبدعين، وفي ما يتعلق بدراسة العلوم الدينية كان التشجيع قائماً بتوفير جميع مستلزمات الدراسة، وتخصيص رواتب للطلبة، وشمولهم بالضمان الاجتماعي وتوفير السكن وجميع مستلزمات العيش الضرورية.

___________________________

1ـ نهج البلاغة 175.

2ـ الحاوي الكبير 20: 82ـ 83، الماوردي دار الفكر بيروت 1414 هـ.

ـ(227)ـ

الواجبات الاقتصادية:

من الحقائق المتسالم بها عند المسلمين انّ الأموال والثروة الاقتصادية المكنوزة في بيت المال ليست ملكاً شخصياً للحاكم الإسلامي، وإنّما هي ملك لله تعالى أعارها للمسلمين، وللحاكم حق التصرف بها حسبَ ما أراد الله تعالى، قال الإمام علي عليه السلام:(لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله)(1).

وعبّر عنه في موضع آخر:(ان هذا المال ليس لي ولا لك، وإنّما هو فيء للمسلمين)(2).

وبيت المال أمانة بيد الحاكم الإسلامي، قال علي عليه السلام:(والله ما هو بكدّ يدي ولا بتراثي عن والدي ولكنّها أمانة أوعيتها)(3).

والواجب على الحاكم أن يتعامل مع بيت المال بأنّه مال الله تعالى ومال المسلمين، والحاكم أمين عليه، فيجب عليه إنفاقه حسب الدستور الإسلامي، ليحقق الرفاهية والرخاء الاقتصادي للمسلمين وإشباع حاجاتهم الضرورية، ففي عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الاشتر حينما ولاّه مصر أمره بعمارة الأرض وأن يكون العمران مقدّم على أخذ الخراج، فأمره باستصلاح الأنهار والأراضي الزراعية، وبناء القناطر، والأنفاق على موظفي الدولة لكي يخلصوا في أعمالهم، وتفقد أحوال الرعايا خصوصاً الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى والمرضى وأصحاب العاهات وكبار السنّ(4).

وإذا كانت الحياة الاقتصادية في الصدر الأول للإسلام محدودة في مواردها

___________________________

1ـ نهج البلاغة 183.

2ـ نهج البلاغة 353.

3ـ مناقب آل أبي طالب 2: 127، ابن شهرآشوب.

4ـ نهج البلاغة 436 إلى 440.

ـ(228)ـ

 ومصروفاتها، فان تطورها في العصر الراهن يتطلب من الحاكم الإسلامي أن يقوم بكل الأعمال التي تقع في طريق النهوض والتقدم الاقتصادي المرجو لتحقيق الرفاهية كاستصلاح الأراضي وبناء السدود والجسور وتنظيم شبكات المياه، واستخراج المعادن وبناء المصانع، والاهتمام بالتجارة، إضافة إلى بناء المستشفيات ودار العجزة، وهذه من البديهيات الواجب القيام بها من قبل الحاكم، وأن لا يثقل الرعايا بالضرائب، وإلا فضل الاقتصار على ما فرضه الله تعالى في كتابه وما سنّه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:(لم نبعث لجمع الأموال ولكن بعثنا لإنفاقه)(1).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(على الوالي خمس خصال: جمع الفيء من حقّه ووضعه في حقّه...)(2).

ومن أهم واجبات الحاكم الإسلامي في المجال الاقتصادي:

أولاً: تحقيق التوازن الاقتصادي:

ان النظام الإسلامي يواجه الناس بمنهج واقعي للحياة يتحكم في تصوراتهم وفي مشاعرهم وفي مواقفهم وفي علاقاتهم، ليلتقطهم من الضلالة والقلق والاضطراب ويرتفع بهم إلى قمة السمو والارتقاء، لكي لا تكون القيم المادية هي المتحكمة فيهم، ومن وسائله تحقيق التوازن بين الطبقات على ضوء قولـه تعالى:

«كي لا يكون دُولَـةً بين الأغنياء منكم»(3).

وتقع على عاتق الحاكم الإسلامي أداء هذه المسؤولية، ومن واجباته:

1ـ القيام بدوره التربوي والإصلاحي في الدعوة إلى الإنفاق في وجوه الخير، ومساعدة الضعفاء والمعوّزين، وإشباع حاجات الفقراء من مأكل وملبس ومسكن،

___________________________

1ـ مشكاة الأنوار 183.

2ـ كنز العمال 6: 47.

3ـ سورة الحشر: 7.

ـ(229)ـ

والدعوة إلى القناعة والكفاف والزهد في الأموال والاقتصاد في الأنفاق على النفس، والنهي عن الطمع والحرص والبخل والتبذير، والنهي عن الربا والغش في المعاملات الاقتصادية، وعن الغصب وأكل أموال الناس بالباطل، لكي تكون علاقات الإيثار والإحسان هي الحاكمة على سلوك الرعايا، وكما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:(ما آمن بالله من شبع وأخوه جائع، ولا آمن بالله من اكتسى وأخوه عريان)(1).

وحينما يستطيع الحاكم أن يشيع هذه المفاهيم والقيم بين رعاياه فانّ التفكير بتحقيق التوازن سيكون مقدساً لدى الجميع، ويشعر كل من الغني والفقير بروح الاخوة والرباط المقدس بينهما.

2 ـ إشباع حاجات المستضعفين:

من واجبات الحاكم الإسلامي تهيئة العمل لكل قادر عليه والقضاء على جميع ألوان وأنواع البطالة، ومن واجبه أن يقوم بإشباع حاجات الفقراء والمستضعفين ومن لا يقدرون على مزاولة الأعمال، كتب الإمام علي عليه السلام إلى عامله على مكة:(... وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيباً به مواضع الفاقة والخلاّت، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا)(2).

وكتب إلى بعض عمّاله على الصدقة:(وإنّ لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً وحقاً معلوماً، وشركاء أهل مسكنة، وضعفاء ذوي فاقة... فوَفِّهم حقوقهم. وبؤسى لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل)(3).

ومن واجب الحاكم أن يقضي دَيْن المَدين، قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم(ما من غريم ذهب بغريمه إلى وال من ولاة المسلمين، واستبان للوالي عسرته إلاّ برئ هذا المعسر من دَينهِ،

___________________________

1ـ مكارم الأخلاق 153.

2ـ نهج البلاغة 457.

3ـ نهج البلاغة 382.

ـ(230)ـ

 وصار دَينه على والي المسلمين فيما بأيديه من أموال المسلمين)(1).

ومن واجبات الحاكم الأنفاق على الشباب المحتاجين للزواج إن لم يستطيعوا الأنفاق، روي عن جعفر الصادق عليه السلام:(ان أمير المؤمنين أتى برجل عبث بذكره فضرب يده حتى احمرّت ثم زوجه من بيت المال)(2).

وأمر بالأنفاق من بيت المال على نصراني مكفوف(3).

3 ـ المنع من الثراء الفاحش

من أجل تحقيق التوازن الاقتصادي فرض الإسلام على أموال الأغنياء بعض الضرائب في جميع مجالات الكسب كالزراعة والصناعة والتجارة، وكانت السيرة النبوية قائمة على جمع الصدقات من أصحاب الأعمال وأنفاقها على مرافق الدولة بما فيها إشباع حاجات الرعايا الضعفاء وكان الأغلب الأعم يعطي ما عليه من ضرائب تطوعاً دون إكراه، ولكنّ الابتعاد عن القيم الإسلامية أدّى إلى التقاعـس عن دفعها وفي هذه الحالة يحق بل يجب على الحاكم الإسلامي أن يستخدم القوة في دفعها من أجل المنع من الثراء الفاحش، قال الإمام مالك بن أنس:(الأمر عندنا أنّ كلّ من منع فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ، فلم يستطع المسلمون أخذها، كان حقاً عليهم جهاده حتى يأخذوها منه)(4).

وهذا الأمر أصبح من البديهيات عند جميع فقهاء المسلمين.

ثانياً: العدالة في العطاء:

المقصود من العدالة هو إعطاء كل ذي حقٍّ حقّه، وإنفاق المال في الحقّ الذي حدّده الدستور الإسلامي.

___________________________

1ـ مستدرك الوسائل 2: 491.

2ـ الوسائل 18: 574.

3ـ الوسائل 11: 49.

4ـ الموطأ 1: 269 مالك بن أنس، دار أحياء التراث العربي تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

ـ(231)ـ

قال الخليفة الثاني لسلمان الفارسي:(أملك أنا أم خليفة؟ قال سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقّه فأنت ملك غير خليفة)(1).

فمن واجبه أن يكون عادلاً في العطاء لا يميل إلى ذي قرابة ولا تكون المرجحات في العطاء قائمة على أساس قومي أو عنصري، وأن لا يعطي لاستمالة الرعية إلى نفسه أو لبناء بطانة خاصة به، قال الإمام علي عليه السلام:(أنّه لا يسعنا أن نؤتى أمراً من الفيء أكثر من حقّه)(2).

وكان يقول:(لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله)(3).

كان العطاء في تلك المرحلة شاملاً للجميع وخصوصاً ان أغلب المسلمين كان متفرغاً للجهاد، أمّا في المرحلة الراهنة فالموضوع في العطاء يختلف فلكل إنسان حقّ حسب عمله، فالطبيب لا يمكن أن يكون متساوياً في الأجر مع العامل أو الفلاّح أو باقي موضفي الدولة، فلكل منهم أجر حسب ما يقوم به من خدمة عقلية أو عضلية، ومن لا يكفيه حقّه فان بيت المال مسؤول عن إشباع حاجاته الضرورية.

فالعدالة يجب أن تتحقق في الأموال التي يشترك الجميع بها، ففي رواية:(مرت إبل الصدقة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأهوى بيده إلى وبرة من جنب بعير فقال: ما أنا بأحقّ بهذه الوبرة من رجل من المسلمين)(4).

وحينما طلب عقيل بن أبي طالب من علي عليه السلام أن يقضي دَينَه البالغ مائة ألف

___________________________

1ـ الكامل في التاريخ 3: 59، ابن الأثير، دار صادر 1399 هـ.

2ـ شرح نهج البلاغة 2: 198.

3ـ نهج البلاغة 183.

4ـ مجمع الزوائد 5: 231.

ـ(232)ـ

درهم، قال:(يخرج عطائي فأواسيكه)، فقال عقيل:(بيت المال في يدك وأنت تسوفني إلى عطائك وكم عطاؤك وما عسى يكون لو أعطيتنيه كلّه) فقال:(ما أنا وأنت فيه إلاّ بمنزلة رجل من المسلمين)(1).

وجاء رجل إلى عمر وكانت بينهما قرابة يسأله زيادة عن حقّه فزبره وأخرجه فكلّم فيه فقال:(إنّه سألني من مال الله، فما معذرتي إذا لقيته ملكاً خائناً)، ثم بعث إليه ألف درهم من ماله(2).

ثالثاً : مواساة الرعية في المستوى المعاشي:

الحاكم الإسلامي يجب أن يكون قدوة للرعية في كل مجالات الحياة ويجب أن يشاركها في جشوبة العيش مواساة لها، لكي لا تنعكس آثار العسر على سلوكها ومواقفها، وتصبر على الحرمان من لذات الدنيا.

قال الإمام علي عليه السلام:(ان الله فرض على أئمة الحق أن يقدِّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّـغ بالفقير فقره)(3).

وقال أيضاً:(إنّ الله جعلني إماماً لخلقه ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه)(4).

وقال الإمام علي عليه السلام:(ألا وانّ لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه; ألا وإنّ إمامكم قد أكتفي من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد... ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي

___________________________

1ـ مناقب آل أبي طالب 2: 125.

2ـ شرح نهج البلاغة 12: 62.

3ـ شرح نهج البلاغة 11: 32.

4ـ الكافي 1: 401.

ـ(233)ـ

إلى تخيّر الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع لـه في القرص، ولا عهد لـه بالشّبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى... أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أُسوة لهم في جُشوبة العيش...)(1).

ومن مصاديق المواساة الزهد في بيت المال وعدم الاستئثار به، والتقيّد بالدستور الإسلامي في تحديد حقّ الحاكم فيه، ففي بداية خلافة أبي بكر عيّن لـه المسلمون ألفين فقال بعد فترة من الزمن:(زيدوني فانّ لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة) فزادوه خمسمائة(2).

وكان الإمام علي عليه السلام حريصاً على بيت المال زاهداً فيه وقد رآه المسلمون في رحبة الكوفة يعرض سيفه للبيع ويقول:(من يشتري منّي سيفي هذا؟ والله لقد جلوت به غير مرّة من وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ولو أنّ عندي ثمن إزار ما بعته)(3).

ومواساة الرعيّة من قبل الحاكم الإسلامي ليس أمراً مستحيل التحقيق في المرحلة الراهنة، فقد جسّده الإمام الخميني vفي حياته قبل استلام الحكم وبعده، فكانت لـه حصة من بطاقة التموين، يشتري المواد الأساسية بسعر الدولة فإذا نفذت لا يشتري شيئاً من السوق السوداء، ومات وهو لا يملك منزلاً شخصياً لـه، بل كان يشترك مع أرحامه في منزل ملكوه بالإرث.

وقد جسّدها السيد الخامنئي(حفظه الله) حينما كان رئيساً للجمهورية وحينما أصبح قائداً ووليّ لأمر المسلمين فحينما زاره بعض العلماء كان عشاؤه كعشاء الطبقات الفقيرة في المجتمع.

فيجب على الحاكم الإسلامي أن يواسي الأُمة في مستواها المعاشي ليكون موضع ثقتها، وليجسّد القيم الإسلامية في واقع الحياة.

___________________________

1ـ نهج البلاغة 417ـ 418.

2ـ الطبقات الكبرى 3: 185، ابن سعد، دار صادر 1405 هـ.

3ـ كنز العمال 13: 178.

ـ(234)ـ

رابعاً: مراقبة العمليات الاقتصادية:

من واجب الحاكم الإسلامي أن يشرف بنفسه على سير العمليات الاقتصادية ليتحقق من مطابقتها للمفاهيم والقيم الإسلامية منعاً للظلم الاقتصادي والإجحاف، والحيلولة دون التضخم الاقتصادي، فكان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يراقب السوق الإسلامي بنفسه، ويستخدم النصيحة أولاً ثم الأجراء العملي ثانياً، فكان ينهى عن الغش والاحتكار والتلاعب بالأسعار(1).

وقد تظافرت الروايات عنه صلّى الله عليه وآله وسلم انّه(مرّ على جرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: يا صاحب الطعام ما هذا؟... أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس... من غشّ فليس منّا)(2).

ونهى صلّى الله عليه وآله وسلم عن الاحتكار وقال:(المحتكر ملعون).

وقال أيضاً:(من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه)(3).

ونهى عن التلاعب بالأسعار وقال:(من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغلي عليهم كان حقاً على الله أن يقذفه في معظم جهنّم رأسه أسفله)(4).

وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال:(رأينا الذين يبيعون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يبيعوه حتى يذهبوا به إلى رحالهم)(5).

وكان يحاسب عمّال الصدقة في حالة تقصيرهم أو تلاعبهم بالأموال كما مرّ في موضوع محاسبة المقصّرين.

___________________________

1ـ المستدرك على الصحيحين 2: 9، 11، 13.

2ـ التراتيب الإدارية 1: 284، الكتاني، دار الكتاب العربي، بيروت.

3ـ المستدرك على الصحيحين 2: 11، 12.

4ـ المستدرك على الصحيحين 2: 13.

5ـ التراتيب الإدارية 1: 55.

ـ(235)ـ

وكان صلّى الله عليه وآله وسلم يعظ أصحابه ويرشدهم إلى التعامل الإسلامي في السوق وفي الأعمال الاقتصادية، وكان الأغلب منهم يستجيبون لـه، وكان الوازع الذاتي متحكماً فيهم، لذا كان استخدام العقوبة نادراً في عصره صلّى الله عليه وآله وسلم.

وكان علي عليه السلام كل يوم:(يطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرّة على عاتقه فيقف على كل سوق فينادي: يا معشر التجّار قدّموا الاستخارة، وتبرّكوا بالسهولة، واقربوا من المبتاعين... وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا... أوفوا المكيال والميزان...)(1).

وفي عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الاشتر أوصاه بالاهتمام بالعمران أكثر من جمع الخراج، وأن يتابع حركة السوق ويراقب جميع الطبقات الاقتصادية وأن يبعث العيون على العاملين في الحقل الاقتصادي من موظفي الدولة ثم يقول لـه:(ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً... وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك... واعلم ـ مع ذلك ـ أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات... فامنع من الاحتكار... وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تُجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حركة بعد نهيك إيّاه فنكلّ به، وعاقبه في غير إسراف)(2).

ومن واجبات الحاكم أن يتدخل بما مسموح لـه في دائرة(الفراغ التشريعي) من تطبيق المفاهيم على مصاديقها في الحفاظ على أموال الناس من الاعتداء والسرقة والابتزاز، وأن يقوم بإجراء جميع العمليات المؤدية إلى الاكتفاء الذاتي واستقلال الاقتصاد الإسلامي عن الهيمنة الغربية لكي يحقق الرفاهية لجميع الرعايا، وقد قطعت الجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الخامنئي(حفظه الله) أشواطاً من التقدّم القياسي في

___________________________

1ـ سفينة البحار 1: 450، عباس القمّي، دار الأسوة 1414 هـ، ط 1.

2ـ نهج البلاغة 438.

ـ(236)ـ

تحسين الإنتاج والاكتفاء الذاتي، ورفع المستوى المعاشي للمواطنين.

الباب الثاني

حقوق الحاكم الإسلامي

 

الحاكم الإسلامي العارف بالأحكام الإسلامية والعادل في سياسته، يعتبر حكمه امتداداً لحكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وله حق الولاية على الأُمة قال الإمام الخميني :(فالفقهاء اليوم الحجة على الناس كما كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم حجة الله عليهم... وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عادل، فانّه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم... ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للنّاس ما كان يملكه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم...)(1).

وقال الخربوطلي:(وله أن يتصرّف في إدارة المسلمين حيث بايعوه على أن يسلموا إليه النظر في أمورهم وأمر المسلمين)(2).

وقال المودودي:(... فإذا انتخبوه فهو وليّ الأمر المطاع في حكمه ولا يعصى لـه أمر ولا نهي، ويعتمد عليه في تنفيذ الأوامر اعتماداً كاملاً ما دام يّتبع الشريعة ويحكم بالكتاب والسنّة)(3).

فالحاكم الإسلامي لـه حقّ الولاية والتصرّف بأمور المسلمين طبقاً للكتاب والسنّة، ويمكن تحديد حقوقه بما يلي:

___________________________

1ـ الحكومة الإسلامية 49.

2ـ الإسلام والخلافة 44.

3ـ نظرية الإسلام وهديه 58، أبو الأعلى المودودي، مؤسسة الرسالة 1389 هـ.

ـ(237)ـ

أولاً : حق الطاعة:

من موارد الاتفاق بين المسلمين هو وجوب طاعة الرعية للحاكم الإسلامي، والدليل الذي استدلّوا به على ذلك قولـه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ...﴾(1).

ولا خلاف في دلالة هذه الآية على طاعة الحاكم الإسلامي العادل العالم العامل بالكتاب والسنّة، فالآية وان نزلت في مورد خاص إلاّ انّ الفقهاء التزموا بسعة المفهوم ليكون شاملاً لكل حاكم إسلامي عادل(2).

والحاكم غير العادل لا يكون مصداقاً للآية الشريفة، وهذا ممّا لا خلاف فيه قال الزمخشري:(والمراد بأولى الأمر منكم: أمراء الحق لأن أُمراء الجور... لا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنّما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهم في أيثار العدل واختيار الحق...)(3).

وقال البروسوي ـ في تفسيره لأولي الأمر ـ:(وهم أمراء الحق وولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين وأمّا أمراء الجور فبمعزل من استحقاق العطف على الله والرسول في وجوب الطاعة(4).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم فانّ طاعتهم طاعة الله وانّ معصيتهم معصية الله وان الله إنما بعثتي ادعوا إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة فمن خلفني في ذلك فهو وليّ...)(5).

___________________________

1ـ سورة النساء: 59.

2ـ مجمع البيان 2: 138، الميزان 4: 388، الكشاف: 1 524، المنار 5: 181، أساس الحكومة الإسلامية 155.

3ـ الكشّاف 1: 524.

4ـ تفسير روح البيان 2: 228.

5ـ مجمع الزوائد 5: 220.

ـ(238)ـ

وقال الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام:(ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تعالى: طاعة الإمام بعد معرفته)(1).

ومن الأدلة: آراء العلماء والفقهاء الذين أجمعوا على وجوب طاعة الحاكم الإسلامي(2).

شروط حق الطاعة:

1ـ انّ حقّ الطّاعة مشروط بالتزام الحاكم الإسلامي بواجباته اتجاه الرعية وقد تظافرت الروايات وآراء الفقهاء في تأكيد هذا الشرط.

وقال الإمام علي عليه السلام:(ألا وإنّ لكم عندي ألاّ أحتجز دونكم سرّاً إلاّ في حرب ولا أطوي دونكم أمراً إلاّ في حكم، ولا أؤخر لكم حقّـاً عن محله، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحقّ سواء، فإذا فعلت ذلك وجب لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة)(3).

وقال أيضاً:(فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقّاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحقّ مثل ا لذي لي عليكم)(4).

وأكدّ الفرّاء على ذلك بقوله:(وإذا قام الإمام بحقوق الأُمة وجب عليهم الطاعة)(5).

ويرى الهريدي إنّ الخلافة عقد يتم عن اختيار وقبول بين الأُمة والخليفة يرتب على كل من الطرفين التزامات وحقوقاً(يرتب للأُمة على الخليفة السير في حكمه وسياسته

___________________________

1ـ أمالي المفيد 69.

2ـ تحرير الأحكام لابن جماعة 359، الأحكام السلطانية للماوردي 7، أصول الدين لعبد القاهر البغدادي 233، الحكومة الإسلامية للإمام الخميني 49.

3ـ شرح نهج البلاغة 17: 16.

4ـ شرح نهج البلاغة 11: 88.

5ـ الأحكام السلطانية 28.

ـ(239)ـ

على مقتضى كتاب الله وسنّة رسوله وإقامة العدل بين الناس، ورفع الظلم عنهم، وحراسة الدين، وإقامة شعائره وحدوده والدفاع عن دار الإسلام، ويرتب للخليفة على الأُمة السمع والطاعة...)(1).

فطاعة الحاكم تتناسب طردياً مع التزامه بواجباته اتجاه الرعية.

2 ـ شرعية الأوامر:

ان طاعة الحاكم الإسلامي ليست مطلقة في كل أمر صادر منه، وإنما يطاع في خصوص الأوامر التي لا معصية فيها، فيجب أن يكون الأمر مشروعاً حتى يكون موضوعاً لحق الطاعة، وهذا الشرط محل اتفاق جميع المسلمين من جميع المذاهب، فالطاعة مقيدة بالأمر المشروع قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:(إنما الطاعة في المعروف)(2).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(لا طاعة لمخلوق في معصية الله)(3).

وحذّر صلّى الله عليه وآله وسلم من طاعة من عصى الله من الحكّام فقال:(من أرضى سلطاناً بما أسخط الله تعالى خرج من دين الإسلام)(4).

وقال بدر الدين العيني:(وجوب السمع والطاعة للإمام... ما لم تكن معصية لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأخبار الواردة بالسمع والطاعة للائمة ما لم يكن خلافاً لأمر الله تعالى ورسوله، فإذا كان خلاف ذلك فغير جائز لأحد أن يطيع أحداً في معصية الله ومعصية رسوله وبنحو ذلك قالت عامة السلف)(5).

وأكدّ النووي على هذا الشرط قائلاً:(تجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم

___________________________

1ـ نظام الحكم في الإسلام 120، أحمد هريدي، جامعة القاهرة 1968.

2ـ صحيح البخاري 9: 78ـ 79.

3ـ مسند أحمد 1: 131، تاريخ بغداد 3: 145.

4ـ مستدرك الوسائل 2: 364.

5ـ عمدة القارئ 24: 224، بدر الدين العيني، دار الفكر ـ بيروت.

ـ(240)ـ

يخالف حكم الشرع)(1).

ثانياً : وجوب النصيحة على الأُمة:

النصيحة تعني الإخلاص(2)، وإرادة الخير للمنصوح لـه(3)، وشدة المحبّة للائمة وعدم الشك فيهم، وشدة متابعتهم في قبول فعلهم وبذل جهدهم ومجهودهم، وهي خلاف الغش(4).

فمن حق الحاكم الإسلامي إخلاص الأُمة لـه دون غش أو خداع أو تلوّن قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:(ثلاث لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم...)(5).

وقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)(6).

وان تكون النصيحة دائمة ومستمرة في جميع الأحوال والأوقات والظروف قال الإمام علي عليه السلام:(... وأمّا حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنّصيحة في المشهد والمغيب...)(7).

ومن مصاديق النصيحة أن تكون في السر والعلانيّة، وأن تأمره الأُمة بالمعروف لتسدده وتقوّمه، وأن تُعلمه بسير عمّاله، وأن تعينهُ على ما تحمله من أعباء مصالح الأُمة(8).

ومن مصاديقها إعطائه الرأي الموفق في حالة الاستشارة، ولأهمية النصيحة جعل

___________________________

1ـ روضة الطالبين 7: 267، النووي، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

2ـ المفردات 494.

3ـ لسان العرب 2: 616.

4ـ مجمع البحرين 2: 418.

5ـ الكافي 1: 403.

6ـ الترغيب والترهيب 3: 228.

7ـ نهج البلاغة 79.

8ـ تحرير الأحكام 359.

ـ(241)ـ

الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الناصحين في التعامل مع الحاكم العادل في أعلى مراتب الجنّة فقال صلّى الله عليه وآله وسلم:(ما نظر الله عزّ وجلّ إلى وليّ يجهد نفسه بالطاعة لإمامه والنصيحة إلاّ كان معنا في الرفيق الأعلى)(1).

ثالثاً : حقّ النصرة:

للحاكم الإسلامي على الأُمة حقّ النصرة في جميع شؤونه وأعماله، وفي سياسته الداخلية والخارجية، ليستطيع القيام بأعباء المسؤولية، ولا يتم لـه القيام ما لم تسانده الأُمة، ومن مصاديق حق النصرة كما حدّدها ابن جماعة:(رد القلوب النافرة عنه إليه، وجمع محبة الناس عليه والذب عنه بالقول والفعل وبالمال والنفس والأهل)(2).

فالواجب على الأُمة أن تسعى لتثبيت محبته في القلوب، وما لم تكن لـه في قلوب الرعية محبّةً فإنّها لا تستجيب لـه، لان الطاعة والاستجابة للأوامر تتوقف على المحبّة، ليكون الاستسلام لـه استسلاماً ذاتياً، دون انزعاج أو تردد، وحق النصرة يكون شاملاً لكل المجالات ومنها نصرته بالقول والدفاع عن سياسته وسيرته، وتبرير ما اشتبه على الآخرين من سياسته والاستعانة بالأعذار المشروعة لإدامة الارتباط به، والدفاع عن قراراته ومواقفه بكل قدرة ممكنة ومتاحة بالمال والأهل، ونصرته على أعدائه في الداخل والخارج، فالحاكم العادل ان وجد لـه أعداء فهم يعادون الإسلام والنظام الإسلامي، فيجب نصرته على أعدائه وان استوجبت النصرة التضحية بالمال وبكل شيء، وقد نصر المسلمون الأوائل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في كل مواقفه ومعاركه، وقد نصروا الخلفاء في جميع الفتوحات والغزوات، وقد نصر الخلفاء بعضهم بعضاً، فعلي عليه السلام نصر أبا بكر وردّ عن المدينة(هجوم قبيلتي عبس

___________________________

1ـ الكافي 1: 404.

2ـ تحرير الأحكام 359.

ـ(242)ـ

وذبيان وبعض القبائل التي اغتنمت فرصة انشغال الجيش بإطفاء نار الارتداد)(1).

والإمام علي عليه السلام هو الذي زجر أبا سفيان حينما عرض عليه الخيل والرجال لقتال أبي بكر وقال لـه:(انّك والله ما أردت إلاّ الفتنة، وانّك والله طالما بغيت الإسلام شرّاً لا حاجة لنا في نصيحتك)(2).

رابعاً : حق الانفراد بالرأي:

استشارة الحاكم الإسلامي لأصحاب الاختصاص وان كانت واجبة عليه إلاّ انّه غير ملزم باتباع رأي من الآراء المطروحة عليه، وله حق الانفراد برأيه ان كان هو الأصلح والأصوب، وكانت السيرة النبوية قائمة على أساس ذلك، فان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وان كان كثير الاستشارة إلاّ انّه كان في بعض الأحيان لا يشير أحداً، وينفرد بالقرار الذي أتخذه، ففي صلح الحديبية لم يلتفت صلّى الله عليه وآله وسلم إلى رأي مجموع المسلمين الذين كانوا يرفضون الصلح، ولم يستشر أصحابه في غزوة بني قريضة، وكانت سيرة الخلفاء من بعده قائمة على ذلك، وعلى سبيل المثال انّ الإمام علي عليه السلام رفض مشورة أصحابه في تفضيل أهل الشرف في العطاء كما تقدّم. وقال لابن عبّاس:(لك أن تشير عليّ وأرى فإن عصيتك فأطعني)(3).

وقد تسالم جمهور الفقهاء من جميع المذاهب على حق الحاكم الإسلامي في الانفراد برأيه، وننقل رأيين من آراء المتأخرين، قال الشهيد محمد باقر الصدر:(وإذا أراد الحاكم الشرعي بشيء تقديراً منه للمصلحة العامّة وجب اتّباعه على جميع المسلمين ولا يعذر في مخالفته من يرى ان تلك المصلحة لا أهمية لها)(4).

___________________________

1ـ لا سنّة ولا شيعة 21، الدكتور محمد علي الزعبي، دار التراث الإسلامي 1394 هـ.

2ـ الكامل في التاريخ 2: 221، ابن الأثير ـ بيروت 1385 هـ.

3ـ نهج البلاغة 531.

4ـ الفتاوي الواضحة 116، محمد باقر الصدر، دار التعارف ـ بيروت 1401 هـ، ط 7.

ـ(243)ـ

خامساً : الصبر على مقرّرات الحاكم:

قد يصدّر الحاكم الإسلامي قراراً لا ينسجم مع مصلحة بعض أفراد الأُمة، ولا يكون مطابقاً لهواهم، كفرض بعض الضرائب الإضافية، أو أجراء الحجز المالي على أموال البعض، أو الدخول في حرب مع الدول المعتدية وإطالة تلك الحرب، أو اعتقال بعض الأفراد المشتبه بهم، أو تهديم بعض المنازل والأسواق لبناء الطرق المهمة للمواصلات وللتجارة أو غير ذلك، فليس أمام بعض أفراد الأُمة إلاّ الصبر على مثل هذه القرارات التي تستبطن المصلحة العامّة، والتي لم يعيها هؤلاء الأفراد، وعلى سبيل المثال أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بعد إكمال معاهدة صلح الحديبية سلّم أبا بصير إلى وفد قريش حسب المعاهدة وسلّم أبا جندل بن سهيل بن عمرو إلى أبيه المشرك، فكان التسليم قراراً أضرَّ بالمسلمين في ظاهره، ولكن في واقع الحال أثبت للمشركين وفاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بالعهد، وفي نفس الوقت استطاع أبو بصير وأبو جندل الهروب من قبضة المشركين(1).

وجاء الفتح الأكبر بعد الصلح، وكان المسلمون لا يفهمون النتائج الإيجابية لموقف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في بداية الأمر لذا كرهوا الصلح، وإذا أمعنّا النظر في سيرة المتشرعة وسيرة العقلاء توصلنا إلى صحة وجوب الصبر على مقرّرات الحاكم الإسلامي ان كانت معارضة لبعض من المحققين يشكل على سندها، ولكن السيرة التاريخية للصحابة والتابعين تعضد دلالتها، فقد ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلم انه قال:(على المرء السمع والطاعة فيما أحبّ وكره، إلاّ أن يُـؤمر بمعصية، فان أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)(2).

ومن مصاديق هذا الحق هو الصبر على أوامر ومقررات العمّال والأمراء التابعين للحاكم الإسلامي قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:(من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فانه ليس من أحد

___________________________

1ـ الكامل في التاريخ 2: 206.

2ـ صحيح مسلم 3: 1469، سنن ابن ماجة، حديث 2864.

ـ(244)ـ

 يفارق الجماعة شبراً فيموت إلاّ مات ميتة جاهلية)(1).

وتستقيم الروايات ان كان المقصود هو الصبر على الأوامر التي تتعارض مع المصالح الشخصية، أمّا إذا كانت الأوامر تتعارض مع مصلحة الإسلام ومصلحة المسلمين، فلا موضوع للصبر والتجمّل فيها.

سادساً : حقّ الاستمرار في منصب الحاكمية:

للحاكم الإسلامي العالم العادل المتقيّد بالدستور حق الاستمرار في منصب الحاكمية مدى الحياة ما دام قائماً بأعبائه مخلصاً في تطبيق الشريعة وحماية العقيدة، وإعطاء الأُمة حقوقها، والروايات متظافرة في الدلالة على ذلك، فعن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام انه قال:(ثلاث موبقات: نكث الصفقة ـ أيّ البيعة ـ وترك السنّة، وفراق الجماعة)(2).

وقال الإمام علي عليه السلام:(إنّها بيعة واحدة لا يثّنى فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخيار الخارج منها طاعن، والمرويّ فيها مداهن)(3).

فالحاكم يبقى حاكماً ما دام ملتزماً بالشريعة الإسلامية، ولم يحدث حدثاً مخالفاً لها، ويظهر ذلك من كلام عمّار بن ياسر معترضاً فيه على من أراد الخروج على الإمام علي عليه السلام فقال:(... نكثا بيعتهما من غير حدث)(4).

وإضافة إلى الروايات المتقدمة فانّ العلماء وأصحاب الاختصاص قد أجمعوا على ذلك، قال الجويني:(ولا يجوز خلع الإمام من غير حدث، ولا تغير أمر، وهذا مجمع

___________________________

1ـ سنن الدارمي 2: 241.

2ـ بحار الأنوار 2: 266.

3ـ نهج البلاغة 367.

4ـ الإمامة والسياسة 1: 67.

ـ(245)ـ

عليه)(1).

وقال الشهيد عبد القادر عودة:(وإذا تمّت المبايعة انعقدت الإمامة، ووجب على الإمام أن يقوم بأمر الله في المسلمين، وأن يقيم فيهم كتاب الله وسنّة رسوله، لا يألوا جهداً في إحقاق الحق وتحقيق العدل، وكان على أهل الشورى وعلى الأُمة بصفة عامة أن يسمعوا للإمام ويطيعوه في حدود طاعة الله... وليس لأحد الفريقين أن ينزع يداً من طاعة ما لم يحدث الإمام ما يقتضي الخروج على طاعته)(2).

وحق البقاء في منصب الحاكمية مدى الحياة أجمعت عليه سيرة المسلمين، وفي واقعنا الراهن نجد أن الإمام الخميني v استمرّ بمنصبه إلى أن أرتحل إلى الرفيق الأعلى، أمّا رئيس الجمهورية فانّ رئاسته محدودة بأربع سنين ويمكن انتخابه ثانية بصورة متوالية لدورة واحدة فقط كما نصت المادة 114 من دستور الجمهورية الإسلامية.

ولا ينعزل الحاكم الإسلامي من منصبه إلاّ بظهور بوادر الانحراف عن الكتاب والسنّة في سياسته الداخلية والخارجية، وهذا محل اتفاق بين المسلمين إلاّ ما شذّ منهم.

فالماوردي يرى ان الفسق يمنع(من انعقاد الإمامة ومن استدامتها)(3).

وفي رأي ابن حزم الأندلسي انّ جور الحاكم وإخلاله بواجباته موجب لعزله:(والواجب ان وقع شيء من الجور وان قلّ أن يكلّم الإمام في ذلك ويمنع منه... فان امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع، وجب خلعه وإقامة غيره ممّن يقوم بالحق...)(4).

___________________________

1ـ الإرشاد إلى قواطع الأدلة 425.

2ـ الإسلام وأوضاعنا السياسية 226، عبد القادر عودة.

3ـ الأحكام السلطانية 17.

4ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4: 175، ابن حزم الأندلسي، دار المعرفة، بيروت 1395، ط 2.

ـ(246)ـ

والفسق في رأي البزدودي موجب للعزل:(إذا جرحت عدالة الخليفة وصار فاسقاً فانّه يعزل من الخلافة)(1).

وصدور الأعمال المخلّة بأحوال المسلمين وبانتكاس أمور الدين موجب للعزل في رأي السيد شريف الجرجاني(2).

ومخالفة أحكام الشرع موجبة للعزل في رأي الإمام الخميني:(وإذا خالف الفقيه أحكام الشرع... فانّه ينعزل تلقائياً عن الولاية لانعدام عنصر الأمانة فيه)(3).

وقد نصّت المادة 111 من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران على انّه:(إذا عجز القائد عن أداء الوظائف القانونية للقيادة، أو فقد واحداً من الشرائط المذكورة في المادة التاسعة بعد المائة، يعزل عن منصبه).

علماً ان المادة التاسعة بعد المائة تتعلّق بشروط وصفات القائد(الصلاحية العلمية، والتقوى، والرؤية السياسية والاجتماعية، والشجاعة الكافية، والقدرة، والإدارة الكافية للقيادة).

___________________________

1ـ أصول الدين 190 البزدودي، مطبعة عيسى الحلبي.

2ـ شرح المواقف 8: 349، الجرجاني، مطبعة السعادة 1907.

3ـ الحكومة الإسلامية 70.