وحدة الأمة الإسلامية بين معوّقات الذات وتحديات الآخر

وحدة الأمة الإسلامية بين معوّقات الذات وتحديات الآخر

 

 

وحدة الأمة الإسلامية بين معوّقات الذات وتحديات الآخر

 

الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية

والعلوم والثقافة (إيسيسكو) - المغرب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم :

الحديث عن وحدة الأمة الإسلامية حديث قديم متجدّد، كتب وحاضر فيه آلاف العلماء والباحثين منذ عصر اليقظة، وكان شعار المصلحين ورواد النهضة الإسلامية ومقصدهم.

وحين نعيد الحديث فيه اليوم في ظل الأوضاع المؤلمة التي يعيشها العالم الإسلامي، والتحديات الجسام التي تواجهه، لا نأتي بجديد، فالتاريخ يعيد نفسه، وفصول إستهداف العالم الإسلامي ديناً وحضارة وإنساناً، تتوالى وتتخذ أشكالاً جديدة ومظاهر مختلفة. وما يعنينا هنا هو تأكيد أهمية هذه الوحدة وضرورة قيامها ولو في حدودها الدنيا، درءاً للأخطار، وحماية للذات، وانفتاحاً على العالم للإستفادة من مستجداته العلمية والمعرفية، في إطار متناسق، وبروح متضامنة تكفل للأمة إستمرار حيويتها وتجدد عطائها.

 في مفهوم الوحدة :

إن (الوحدة الإسلامية) قائمة منذ بعث الله تعالى رسوله محمداً بن عبد الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام. أما (وحدة الأمة الإسلامية) فمن الواجبات الدينية والضرورات الدنيوية، وهي إلى ذلك من (فروض الكفاية)، إن شئنا أن نقتبس من عبارة فقهائنا. فالوحدة الإسلامية وضع توفيقي، هكذا أراد الله الخالق البارئ أن تكون هذه الأمة، مصداقاً لقوله تعالى : (وإن هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاتقون)([1]).

وفي آية أخرى (فاعبدون)([2]).

وهذا الوضع يختلف عن وضع (وحدة الأمة الإسلامية) التي يصنعها المسلمون أنفسهم، ويؤجر عليها العاملون الصادقون منهم من أجلها، انطلاقاً من الحقيقة الأولى التي  هي من خصائص أمة الإسلام. ولذلك فمن الحكمة وحسن التدبير أن نُفرّقَ هنا بين المسألتين :

الوحدة الإسلامية:

وحدة الأمة الإسلامية

وعلى هذا الأساس، فإننا إذ ندعو إلى وحدة الأمة الإسلامية، ننطلق من أن هذه الأمة أمة واحدة، أو هي بتعبير آخر، أمة الوحدة. والجدير بالملاحظة في هذا السياق، أن الله سبحانه وتعالى لم يكلفنا بـ (الاتحاد)، وإنما كلفنا تقدست أسماؤه بـ (الاعتصام)، وليس مجرد الاعتصام، وإنما هو (الاعتصام بحبل الله)، ودعانا، سبحانه، إلى (عدم التفرق)، لأن التفرق ـ والعبارة هنا أبلغ دلالةً من التفرقة ـ خروج على سنة الله في المؤمنين الذين يهتدون بالرسالة المحمدية الخالدة.

أما كيف لم يرد في تكليف الله لنا في كتابه العزيز فعل (اتحدوا)، فلأن الاتحاد قائم في حياتنا باعتبار أن المسلمين أمة واحدة، ولكنه جلّ وعلا، كلفنا بالاعتصام (واعتصموا)، أي الاعتصام في دائرة الوحدة التي هي صبغة المجتمع المسلم. والاعتصام أقوى في الدلالة المعنوية والمادية من الاتحاد؛ لأن الاعتصام بحبل الله هو تجسيم للوحدة الإسلامية، وهو إلى ذلك تعبير عن وحدة الأمة الإسلامية. وحبل الله هنا المقصود به (الدين) الذي جعله الله سبيلاً إلى السعادة والخير في الدارين. وهو أيضاً، (الأخوة في الله) التي هي (الأخوة الإسلامية). يقول تعالى : (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)([3]). فالأخوة هي الأساس المكين للاعتصام، والقاطرة إلى الوحدة، وهي المظلة التي تقي الاتحاد والاعتصام من التلاشي والانهيار.

إن الاعتصام بحبل الله هو المضمون الإسلامي للوحدة الإسلامية، والنداء الإلهي الذي وجَّهه الله تعالى إلى عباده المؤمنين : (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) ([4])، هو نداء خالد موجَّه إلى المسلمين في كل زمان ومكان.

والاعتصام بحبل الله شرط للحفاظ على سلامة المجتمع المسلم، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلكم تتقون) ([5]).

فحبل الله الذي أوصانا الله بالاعتصام به، هو سبيل الله الذي ليس كالسبل التي تؤدي إلى الضلال. فهذا هو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله تعالى باتباعه. وهنا يتطابق معنى (الاعتصام) و(الصراط المستقيم) و(سبيل الله)، مع معنى (حبل الله) في الآية الثالثة بعد المائة من سورة آل عمران. وفي هذا التطابق دلالة عميقة يفقهها الذين أتوا حظاً من العلم. ذلك أن وحدة الأمة الإسلامية التي هي المدلول العملي للاعتصام بحبل الله، لابد أن تكون سائرة على (صراط مستقيم)، متوجهة إلى (سبيل الله)، حتى تكون امتثالاً للأمر الإلهي الخالد (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ([6]). فالتنازع، وهو الاستغراق في (النزاع)، يؤدي إلى الفشل وإلى ذهاب ريح الجماعة المؤمنة. وكأن القرآن الكريم صوّر المسلمين المتنازعين كسفينة في عرض البحر، تتقاذفها الأمواج الهوج، وتذهب بها في كل اتجاه، فتضل عن شاطئ السلامة، وهو سواء السبيل، فتتحول إلى حطام وأشلاء. وذلك هو المصير الذي ينتهي إليه المتنازعون المستغرقون في النزاع، بعيداً عن الصراط المستقيم.

وبالتدبّر في آيات الله البينات، نقف على معنى عميق يفسر لنا أموراً كثيرة تتصل بالوحدة من حيث هي، يقول تعالى في محكم تنزيله : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)([7]). ويقول جلّ من قائل : (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) ([8]).

ويبدّد الله حيرتنا بقوله الفصل الموجّه إلى عباده المؤمنين : (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتُسألن عما كنتم تعملون) ([9]).

وفي آية أخرى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات)([10]).

والمعنى في هذه الآية ينبغي أن نتدبره في تعمّق وإطالة تأمل. فليس القصد هو أن (الأمة الإسلامية ليست أمة واحدة)، وإنما الآية تنحو نحو إقرار عدم المساواة بين المؤمن وغيره. لأن المساواة هنا تتناقض مع العدل الإلهي. ومعنى ذلك أن الأمة الواحدة هي الأمة المسلمة المؤمنة السائرة على الصراط المستقيم، المهتدية إلى سبيل الله، المقتدية برسوله الكريم عليه وعلى آله الصلاة والسلام.

يقول الطبري في تأويله  لقوله الله تعالى : (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) ([11]): «ولو شاء ربكم لجعل شرائعكم واحدة، ولم يجعل لكل أمة شريعة ومنهاجاً غير شرائع الأمم الأُخَر ومنهاجهم، فكنتم أمة واحدة لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم، ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك، فخالف بين شرائعكم ليختبركم، فيعرف المطيع منكم من العاصي، والعامل بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم من المخالف».

أما ابن كثير فيذهب في تفسير قوله تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً)([12])، إلى «أن المخاطب بهذا هذه الأمة، ومعناه (لكل جعلنا) القرآن (منكم) أيتها الأمة (شرعة ومنهاجاً) أي هو لكم كلكم، تقتدون به. وحذف الضمير المنصوب في قوله : (لكل جعلنا منكم) أي : جعلناه، يعني القرآن، (شرعة ومنهاجاً) أي سبيلاً إلى المقاصد الصحيحة، وسنة : أي طريقاً ومسلكاً واضحاً بيّناً».

ولكن المعنى في قوله تعالى : (ولو شاء ربك لجعلكم أمة واحدة) يدل على أن الخطاب الإلهي موجَّه إلى الجماعة المسلمة، وليس موجّهاً إلى الناس كافة على اختلاف أديانهم وشرائعهم. فإذا ثبت ذلك، وهو في رأينا ثابت، يكون الفرق في هذا السياق، هو بين المسلمين الطائعين والمسلمين العاصين. وفي كل الأحوال، فإن الآية الكريمة تخاطب المسلمين، والضمير في قوله (لجعلكم) يعود إليهم تحديداً. فهل نخرج من هذا التأويل بما يفيد أن (وحدة الأمة الإسلامية) بالمفهوم الحديث للوحدة، هو أمرٌ في حاجة إلى مراجعة وتدقيق وتحقيق؟.

التأثيرات الغربية في مفهوم الوحدة :

كان لظهور التيارات السياسية والفكرية في أوروبا في القرن التاسع عشر، انعكاسات على الفكر السياسي والثقافة العربية الإسلامية في جلّ بلدان العالم الإسلامي، خصوصاً في عاصمة الخلافة العثمانية استانبول، وفي مصر، وفي بلاد الشام، حيث ازدهرت حركة اليقظة، وبدأت تؤثّر في الناس وتنشر الثقافة الجديدة المشبعة بالأفكار الوافدة من الغرب. في تلك الفترة المبكرة تجدَّد الشعـور بالوحـدة السياسية ولكن بصورة معكوسة، إن صحَّ التعبير. ذلك أن الوحدة كانت إطاراً قائماً في الواقع المعيش، ولكن الفكر السياسي المتأثّر بالأفكار الغربية الوافدة، كان يهدف إلى تمزيق دولة الخلافة، لإقامة وحدة فيما بين ما كان يعرف بالولايات العربية التي كانت تابعة لدولة الخلافة،  وذلك بإنشاء كيان عربي منفصل ومستقل عن الكيان الإسلامي الكبير. وكان هذا التفكير يسير في الخط المعاكس، ولا يعبّر عن تطلعات الشعوب الإسلامية التي كانت ترغب في الإصلاح والتغيير وردّ الاعتبار للعنصر العربي، دون أن يكون ذلك على حساب فصل عُرَى الوحدة الإسلامية القائمة الجامعة لكل العناصر العرقية التي يوحدها الإسلام. وكان ذلك مفهوماً للوحدة مخالفاً للمعنى الأصيل لوقوعه تحت تأثير الفكر الأجنبي، لأنه شتان ما بين الرغبة في إصلاح الأوضاع والتطلّع نحو إقرار مبدإ المساواة بين عناصر الأمة التي تنتمي إلى شتّى الأعراق، وبين تمزيق أوصال الدولة الإسلامية الجامعة لأطراف العالم الإسلامي، على نحو من الأنحاء.

ولما كانت الأفكار السياسية الغربية قد تسربت إلى الأوساط السياسية الفكرية في دولة الخلافة العثمانية، وتغلغلت إلى درجة التأثير النافذ في الحياة الفكرية، فقد انعكس ذلك على مفهوم الوحدة السياسية في الفكر العربي الإسلامي. وقد اتسع نطاق هذا التأثير القوي مع مطلع القرن العشرين، حينما بدأت الأفكار الشيوعية تنتقل إلى العالم العربي الإسلامي، خصوصاً بعد قيام ثورة أكتوبر سنة 1917 في روسيا القيصرية، وظهور الدولة الشيوعية الأولى، اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية، التي سيكون لها تأثيرٌ قويٌّ في اضطراب الفكر السياسي في العالم العربي الإسلامي، والدفع به نحو مسارات بعيدة عن الواقع، تنقلب فيها المفاهيم، وتختلط مدلولات الألفاظ، ويسود الارتباك الحياة السياسية والعقلية، وسيكون من نتائج ذلك كلِّه شيوعُ مفهومٍ للوحدة مغرقٍ في الخيال، لانبثاقه عن النظرية الاشتراكية على تعدّد مدارسها، خاصة المدرسة الماركسية، التي لا صلة لها بالواقع، والتي تَتَعارَضُ وطبائع المجتمعات الإنسانية. ومن هنا جاء الانحراف في مفهوم الوحدة الذي جَلَبَ معه فوضى الحياة السياسية التي أَفْضت إلى تشرذم العقل العربي الإسلامي([13]).

إنَّ مفهوم الوحدة الذي ساد المجتمعات العربية بخاصة، طيلة النصف الأول من القرن العشرين، يقوم على أساس غير سليم، يفتقر إلى شروط الموضوعية والتماسك، بحيث صار للوحدة معنىً قسريٌّ، ومدلول سلطويٌّ، فارتبط في الأذهان بنوع من الاستبداد السياسي الناتج عن الضغط الفكري الذي يصل أحياناً إلى ما يصطلح عليه بالإرهاب الفكري. وكم من الجرائم في حقّ الشعوب ارتكبت باسم هذا المفهوم المنحرف للوحدة، وكم من الهزائم مُنيت بها دول عربية باسم هذه الوحدة التي تفتقد إلى المقوّمات السليمة والأصيلة للوحدة.

لقد جنح هذا المفهومُ الضبابيُّ للوحدة إلى التطرف السياسي والغلوّ الفكري، نتيجةً لهيمنة الفكر الاشتراكي على العقل العربي في فترة حرجة من تاريخ الأمة في النصف الأول من القرن العشرين. ولذلك نجد أن التجارب الوحدوية الفاشلة والمدمرة للموارد وللطاقات، اقترنت فيها الوحدة بالاشتراكية، فلا الوحدة تحققت، ولا العدالة الإجتماعية طبقت، ولا الشعوب استقرت أوضاعها وتحسنت أحوالها. وكان ذلك من تأثير الأفكار الطوباوية التي غزت المنطقة فكانت سبباً في تعطيل التنمية، وفي ضياع الأرض، وفي تخريب الذمم.

وهذا الربط بين الوحدة والاشتراكية كان عنواناً لقصور النظر في التحليل وقلة المعرفة بحقائق الحياة، وضعف الوعي بطبيعة الأمة العربية الإسلامية، مما تسبَّب في ضياع فرص النموّ، وإهدار الطاقات، واضطراب الحياة السياسية. وعلى النقيض من ذلك، فإن التجارب الوحدوية التي نجحت وكانت رائدة بحق، هي تلك التي لم ترتبط بالأفكار الغريبة عن المجتمع، المنافية لقوانين التاريخ ومنطق العصر([14]).

من الوحدة إلى الاعتصام :

كلما ذكرت الوحدة وارتفعت الدعوة إلى وحدة الأمة الإسلامية، إلاَّ وذكرت الآية الكريمة : (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). إذ ليس في القرآن الكريم ولا في الحديث الشريف، عبارة تدل على الوحدة غير ما هو واردٌ في الآية الآنفة الذكر. فهل يعني ذلك أن (الوحدة) كما تفهم في عصرنا غير واردة في الإسلام والاعتصام هو البديل لهذه الوحدة؟.

لا نريد أن نجزم بذلك أو نقطع برأي. وإنما حسبنا أن نتأمل ونقلب النظر في المسألة قبل الخروج بنتيجة نطمئن إليها فنعتمدها.

إن أول ما يستحق النظر من جوانب هذه القضية، أن المسلمين في جمع عصورهم، وإلى حدود الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، لم يعرفوا مصطلح (الوحدة) بالمفهوم الحديث، ولم ترد (الوحدة) بهذا المفهوم في التراث الفقهي الإسلامي، ولا في كتابات المفكرين المسلمين الذين صنعوا كتباً رائدة في الفكر السياسي الإسلامي. بل مما يلاحظ أيضاً، أن مصطلح (التقريب) كما نفهمه اليوم لم تعرفه المصادر العربية الإسلامية، وإنما عرفت مصطلح (الاعتصام) بكل دلالاته الدينية واللغوية والسياسية والاجتماعية.

إن المفهوم الحديث والمعاصر للوحدة تبلور على الألسن وفي الكتابات السياسية والصحافية في العالم الإسلامي، في الفترة التي اصطلح في الأدبيات التاريخية المعاصرة، بتسميتها بعصر اليقظة. ولنا في التراث المكتوب والشفوي الذي خلفه السيد جمال الدين أسد آبادي، المعروف بالأفغاني، مثال لذلك. كما أننا نجد هذه المفردة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، في كتابات الجيل الأول الذي تأثر بالمصلح جمال الدين، أمثال محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا وحسين الجسر. وهذا الأمر يدفعنا إلى أن نتساءل : هل التأكيد على الوحدة في أدبيات الجيل الذي عايش عصر اليقظة، كان بتأثير من الفكر الغربي؟. وإذا كان هذا صحيحاً، فما الضير في ذلك؟. ألم يتأثر الفلاسفة المسلمون بالتراث اليوناني؟. أَوَلَمْ يتأثر واضعو أسس علم الكلام بالمنطق اليوناني؟. ثم أَوَلَمْ يتأثر النحاة العرب بالمنطق اليوناني أيضاً؟. إن التأثر بالفكر الأجنبي ليس عيباً في حد ذاته بأي مقياس، ما دام أن هذا التأثير لم يصل إلى الأصول والكليات والمفاهيم العامة الأساس.

إن هذا التنقيب التاريخي والبحث المنهجي في مفهوم الوحدة، ليس القصد منهما الخروج بنتيجة مفادها أن (الوحدة) ليست من تراثنا الحضاري. ولكن المسألة الأساس التي يتم التركيز عليها في هذا البحث، هي أن الدلالة السياسية والفكرية لوحدة الأمة الإسلامية، تستند إلى القاعدة التي جاء بها الإسلام، وهي (الاعتصام بحبل الله)، بما يعني ربط وحدة الأمة بدينها وثقافتها وتراثها الروحي والثقافي والحضاري. وبذلك نصل إلى القول إن وحدة الأمة الإسلامية لابد أن تقوم على أساس متين من المبادئ الإسلامية، وأن تكون خالصة التوجّه إلى الله، أي خالصة الأهداف والغايات والنوايا، لتدوم ولتزداد رسوخاً مع توالي السنين.

إن القاعدة الإسلامية للوحدة هي (الأخوة الإسلامية) انطلاقاً من قوله تعالى : (إنما المؤمنون إخوة). فلأن المؤمنين إخوة في الدين، فهم بالضرورة معتصمون بحبل الله، ثم بهذه الصفة هم متحدون، أو بعبارة أدق، يتوجّب عليهم أن يكونوا متحدين، تتجسد فيهم وحدة الأمة الإسلامية في أجلى مظاهرها. فالأخوة من الوحدة والوحدة في الأخوة. وتلك هي المعادلة التي يجب علينا مراعاة حساباتها وإخلاص أعمالنا على مقتضياتها، فلا وحدة بلا أخوة، ولا قيمة للأخوة إذا لم تكن قاعدة للوحدة.

وإذا كان مفهوم الأخوة يرتبط في النص القرآني بالإيمان؛ فإن الإخوة هم المؤمنون، والإيمان تصديق بالقول والعقل والجوارح جميعاً بأركان الإسلام وأصوله وثوابته. فارتباط الأخوة بالإيمان يجعل منها أخوة إيمانية، بما يعني أنها الأخوة التي تقوم على أساس ثابت، وليس على مصالح ظرفية أو ضرورات حياتية عابرة. وهذا الضرب من الأخوة هو أساس الوحدة الأخوية الإيمانية. وهو مفهوم إيماني يرتقي فوق أي مفهوم آخر، وضعي ومصلحي ودنيوي.

وهكذا يلتقي هذا المفهوم الوحدوي الخالص المبرأ من الأهواء والأغراض، مع الدلالة الدينية واللغوية للاعتصام بحبل الله، على نحو يجعل (الوحدة الإسلامية) حقيقة إيمانية ورابطة دينية والعروة الوثقى التي لا انفصام لها.

فالوحدة إذن تنبع من الذات وتنبثق من الإيمان. ومادام الإيمان قائماً متغلغلاً في القلوب والعقول، فإن الوحدة بين المؤمنين قائمة ثابتة راسخة الجذور. وذلك هو المدخل لوحدة الأمة الإسلامية في كلّ الأحوال وتحت كلّ الظروف.

وإذا كانت الوحدة حالة إيمانية نابعة من عمق النفس المؤمنة المطمئنة، فإن معوقات الوحدة الإسلامية تكمن في انحراف النفس عن سواء السبيل، وفيما تحفل به الذات من شوائب ومكدّرات. فهذه هي معوقات الذات التي إذا التقت مع التحديات الخارجية عملت عملها في إضعاف مشاعر الأخوة التي هي الدافع القوي للاعتصام بحبل الله ولأخوة المؤمنين ولوحدة الأمة الإسلامية.

معوقات الذات :

والحق أن معوقات الذات أكثر تأثيراً في إضعاف الأمة الإسلامية من التحديات الوافدة من خارج العالم الإسلامي، ونقصد هنا بمعوقات الذات، ما يصدر عن فئات من المسلمين من أقوال أو تصرفات أو ممارسات أو مواقف تتعارض كلياً أو جزئياً مع الثوابت الإيمانية والأصول والكليات الشرعية والمقاصد والغايات الإسلامية.

ويمكن لنا أن نحصر معوقات الذات التي تحول دون وحدة الأمة الإسلامية، فيما يلي :

-تضخيم الاختلافات المذهبية والنفخ في الروح العنصرية والنعرة الطائفية التي سمَّاها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بـ (الجاهلية)، مما يؤدي إلى تفشي ظاهرة تكفير أهل القبلة، وتأليب المسلمين بعضهم على بعض.

-استغلال الخلافات السياسية واتخاذها ذريعة لتأجيج نار الفتنة وزرع بذور الشقاق والتفرقة، سواء داخل البلد الواحد، أو بين طائفتين من المؤمنين مختلفتي المذهب، أو على صعيد دول العالم الإسلامي بعضها ببعض.

-استفحال الفهم الخاطئ للأحكام الشرعية وللتعاليم الدينية، وتراجع تأثير الثقافة الإسلامية الصحيحة المعتمدة على كتاب الله وسنة رسوله الكريم، أمام الثقافة المغشوشة التي تسري في جلّ المجتمعات الإسلامية سريان النار في الهشيم.

-إيثار المصالح الضيقة على المصالح العليا للأمة الإسلامية، التي تتمثل في تقوية الكيان الإسلامي، وتعزيز التضامن والتعاون بين المسلمين في كل مكان، والسعي من أجل النهوض باقتصاديات العالم الإسلامي، ودعم التنمية الشاملة المستدامة.

-الاستجابة للسياسات الغربية التي ترمي إلى قطع الأواصر بين الأمة الإسلامية الواحدة، وإبقائها في حالة عجز وضعف، أمام غطرسة القوى المهيمنة على مقاليد السياسة الدولية، والتحرك في إطارها بعيداً عن التوجّهات الرئيسة للعمل الإسلامي المشترك وأهدافه الرامية إلى الحفاظ على استقلال سيادة الدول الأعضاء من خلال تعزيز التضامن الإسلامي.

-استشراء الفساد في الجسم الإسلامي. وهو فسادٌ عامٌّ يتخذ أشكالاً متنوعة، وله مستويات متعددة؛ فساد في إدارة الشؤون العامة سياسياًً واقتصادياً واجتماعياً وخلقياً، وفساد في الأفكار والرؤى والتصورات للأوضاع القائمة وللمشاكل المتفاقمة وللتحديات التي تواجه الأمة في حاضرها وفي مستقبلها. وهو إلى ذلك فساد يجد من القوى الأجنبية الطامعة في مقدرات الشعوب، دعماً وتزكية وتشجيعاً.

وتوجد هناك معوقات أخرى تنبع من الذات، سواء على مستوى الأفراد والجماعات، أو على مستوى الدول، مما يمكن تسميته بـ (الأمراض النفسية) أو (العوامل الذاتية) الناتجة عن ضعف الوازع الديني من جهة، والوقوع تحت تأثير الدعاوى الباطلة والرؤى القاصرة والمعتقدات التي لا أساس لها من صحيح الدين من جهة ثانية. وهي (أمراض نفسية) تتطلب العلاج بالتوجيه السديد، وبالموعظة الحسنة وبالإرشاد الحكيم الذي ينير الأذهان، ويصحح المفاهيم، ويفند الشبهات، ويدحض المفتريات التي تروج في الأوساط العامة التي تفتقد القدوة الحسنة والمثل الحي الذي تتجلى فيه تعاليم الإسلام السمحة وحقائقه المشرقة الناصعة.

إنَّ معوقات الذات التي تتسبب في إضعاف الكيان الإسلامي الكبير، والتي هي في الواقع (أمراض نفسية) تحتاج إلى العلاج، تندرج في فرع من علم النفس يعرف في المحافل العلمية بعلم النفس السياسي. وقد أثبتت الدراسات المتخصصة في هذا الفرع العلمي، أن الفعل السياسي يتأثر إلى حد بعيد، بالأمراض النفسية التي تنتاب الأفراد والجماعات. ومادامت وحدة الأمة الإسلامية، من أحد جوانبها، فعلاً سياسياً، فإن الأمر يتطلب معالجة علمية محكمة لمعوقات الذات التي تؤخر قيام وحدة الأمة الإسلامية. وهذا ما ندعو إليه في هذه المرحلة، أي أننا ندعو بإلحاح شديد، إلى المكاشفة والمصارحة والشفافية في معالجة المشاكل الناجمة عن الفكر غير السوي والممارسة التي تفتقر إلى الانضباط والإحساس بالمسؤولية، حتى تنتفي الأسباب الموضوعية التي تؤدي إلى ضعف الأمة واستمرار تشتتها وتمزقها وتفرقتها.

تحديات الآخر :

أما التحديات الخارجية، أو بعبارة أخرى تحديات الآخر، التي تعرقل كل جهد يبذل من أجل تعزيز وحدة الأمة الإسلامية، فهي كثيرة، وحسبنا أن نستعرض منها أخطرها :

-الاحتلال الأجنبي للأراضي العربية الإسلامية في كل من فلسطين وأفغانستان والعراق وكشمير والجولان السوري، وإن كان بعضنا لا يرى في الوجود الأجنبي في كل من العراق وأفغانستان إحتلالاً، وهو رأي وموقف يتناقضان مع الواقع في هذين البلدين. والاحتلال الأجنبي خاصة للأراضي الفلسطينية، له تأثيرات قوية على مجمل أوضاع العالم الإسلامي، مما يؤدي إلى الاختلاف في الآراء والمواقف والسياسات إزاء العديد من القضايا التي تتطلب توحيد الصفوف وتضافر الجهود وتنسيق المواقف.

-ارتباط إقتصاديات العالم الإسلامي بالسياسات الغربية. والارتباط هنا هو غير (دمج إقتصاديات دول العالم الإسلامي في الاقتصاد العالمي)؛ لأن (الدمج) يفيد أن الإقتصاد المندمج هو جزء لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، بينما الارتباط يعني تبعية الضعيف للقوي. أو لنقل تبعية القوي المغلوب على أمره المحكوم عليه بعدم التصرف السيادي الكامل في موارده، للضعيف الذي يتقوى باستنزاف موارد غيره وتسخيرها في بناء قدراته التي تُكسبه القوةَ والقدرةَ والمناعة. أي أن القوة التي يمتلكها الطرف القوي هي قوة مستمدة من الموارد والقدرات التي تعود إلى الطرف القوي الذي أصبح ضعيفاً.

-تواطؤ القوى المعادية للسلام وللتعايش بين الشعوب والحوار بين الثقافات والحضارات، ضد الشعوب الإسلامية. وهي قوى متعددة الأطراف تجمعها الكراهية للإسلام والتآمر ضده وهيمنة روح العنصرية عليها وولوغها في دم الأبرياء من شعوب العالم بارتكابها جرائم ضد الإنسانية في مواقع عديدة من العالم. ويأتي في مقدمة هذه القوى إسرائيل، ومن يساند إسرائيل ويدعمها ويؤزرها في المحافل الدولية ويقف إلى جانبها في كل الأحوال.

-هبوب رياح العولمة الجامحة التي تكاد تقتلع الثوابت الدينية والمقوّمات الوطنية التي تقوم عليها سيادة الدول واستقلالها. وهي رياح عاصفة عاتية تهزّ أركان المجتمعات الإنسانية، وتكتسح في طريقها كل بناء هش لا يقوم على أساس متين.

-احتكار الغرب للعلم والتكنولوجيا والضن بهما على الشعوب النامية التي تفتقر إلى القدرات العلمية والمؤهلات التقانية. وهذا تحدّ كبير يواجهه العالم الإسلامي، وأحد العوامل التي تتسبب في تراجع مكانة الأمة الإسلامية بين الأمم المتقدمة اقتصادياً واجتماعياً والمزدهرة علمياً وصناعياً. وهو الأمر الذي ينعكس سلباً على الجهود التي تبذل على الصعيد الإسلامي العام، لاكتساب المقدرات العلمية وامتلاك شروط النهضة العلمية والتقانية. ولذلك كله علاقة بتفرق جهود الأمة وبتشتت مساعيها في هذا المجال الحيوي.

-قصور القانون الدولي عن إقامة نظام سليم للعدالة الدولية، وعن الوفاء بحاجات المجتمع الدولي إلى إقرار الأمن والسلم وحفظهما، واستقرار السياسة الدولية على قاعدة الحق والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات. وهو الأمر الذي يحرم الشعوب النامية من الحق في الدفاع عن حقوقها وصون مصالحها وتحقيق التضامن والتقارب فيما بينها، مما يجعلها تعيش في أجواء من الفرقة والانقسام وانفراط عقد الوحدة التي تجمع شتاتها. ومن هذه الشعوب شعوب الأمة الإسلامية التي تطبق فيها سياسة (فرّق تسد) منذ القرن التاسع عشر وإلى اليوم.

فهذه تحديات خارجية تواجه الأمة الإسلامية وتحاصرها وتحدّ من قدرتها على رسم خريطة الطريق أمام مستقبلها، وهي تحديات تتضافر مع معوقات الذات الآنفة الذكر، لتشكل عقبة كؤوداً أمام وحدة الأمة الإسلامية.

مستقبل العالم الإسلامي في إطار الوحدة والتضامن :

من أهمّ النتائج التي أسفرت عنها محاولات الوحدة في العصر الحاضر، على الصعيد العربي الإسلامي، انصراف الاهتمام إلى تأسيس هياكل سياسية حديثة للعمل العربي الإسلامي المشترك، التي هي من حيث العمق والجوهر والمضمون، إطارات متكاملة لمستويات معقولة من (الوحدة) بين الأسرة العربية أولاً، ثم بين الأسرة الإسلامية ثانياً.

ويمكن اعتبار جامعة الدول العربية، إطاراً إقليمياً ينتظم فيه العمل العربي المشترك. بل إن اهتداء الفكر السياسي العربي إلى استخدام مصطلح (العمل العربي المشترك) كان أهمّ تحوّل ملموس في العقل العربي.

وهنا لا ينبغي أن تفوتنا ملاحظة منهجية، وهي أن تأسيس جامعة الدول العربية في سنة 1945 من الدول العربية السبع التي كانت مستقلة آنذاك، قد قام على قاعدة احترام السيادة الكاملة لكل دولة عضو، ولذلك جاء عنوان الجامعة (جامعة الدول العربية)، وليس (الجامعة العربية)، ومعنى ذلك أن هذه المنظمة الإقليمية التي أُنشئت عقب الحرب العالمية الثانية، بقرار من قادة الدول العربية السبع، لا تعني اتحاداً بين الدول الموقعة على الميثاق، وإنما هي جهاز من الأجهزة الإقليمية التي ظهرت بعد الحرب، للعمل العربي المشترك. ويؤكد هذا  التوجّه ميثاقُ الجامعة الذي يخلو من الألفاظ الفضفاضَة أو العبارات المبهمة القابلة لكل شرح وتفسير؛ فليس في الميثاق (الدولة القطرية)، أو (الدولة القومية)، وليس فيه (المصير العربي المشترك)، وليس فيه (الوحدة العربية)، لأن هذه الألفاظ والشعارات والصيغ الكلامية، جاءت في وقت لاحق، وهي تكتسي صبغة سياسية مذهبية (إيديولوجية)، بينما تأسيس جامعة الدول العربية قبل أربع وستين سنة، قام على أساسٍٍ من الواقعية السياسية متين.

وعلى المستوى الأوسع، يمكن أن نعدّ (منظمة المؤتمر الإسلامي)، التي تأسست في سنة 1972، الصيغة المتطوّرة والمسايرة للعصر، لوحدة الأمة الإسلامية. ومما يسجل عن ميثاق هذه المنظمة، أنه يخلو من عبارة (الدولة الإسلامية)، أو (الدول الإسلامية)، وإنما ترد فيه عبارة (الدولة العضو)، أو (الدول الأعضاء)، أو(البلدان الإسلامية). كذلك لا ترد في هذا الميثاق عبارة (الوحدة الإسلامية). واستخدم الميثاق، ولمرتين اثنتين، عبارة (وحدة) في الفقرة الأولى من الديباجة، حيث وردت على النحو التالي : (... وإذ نسترشد بالقيم الإسلامية النبيلة المتمثلة في الوحدة والإخاء، وإذ نؤكد أهمية تعزيز وتقوية أواصر الوحدة والتضامن...). وتكررت عبارة (الوحدة) أيضاً في الفقرة الخامسة من الديباجة هكذا: (تعزيز وتقوية أواصر الوحدة والتضامن بين الشعوب الإسلامية والدول الأعضاء). ولكن عبارة (الوحدة) لم ترد ضمن أهداف المنظمة، إذ جاء في الهدف الأول (تعزيز ودعم أواصر الأخوة والتضامن ...). أما القاعدة التي قام عليها ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، فهي : (التقارب)، و(التضامن)، و(التعاون). وهذه الدقة في اختيار الألفاظ بوضعها في سياقها المحدّد، تعبّر عن مستوى راقٍ من الواقعية السياسية في التعامل مع مسألة (الوحدة)، سواء أكانت عربية أم إسلامية. وهو الأمر الذي يؤكد الاستفادة من التجارب الماضية، وحسن توظيف النتائج المستخلصة من المبادرات الرائدة، في دعم العمل العربي الإسلامي المشترك.

خاتمة :

لقد أثبتت التجارب المتراكمة في مجال السياسة الدولية، أن الوحدة التي تجمع بين دولتين أو أكثر، هي وليدةُ عواملَ تَتَضافَرُ أسبابها وتَتَرابَطُ حلقاتها وتَتَكامَلُ عناصرها. كما أثبتت أن الوحدة، سواء أكانت فيدرالية أم كونفدرالية، لابد وأن تقوم على قواعد راسخة من الاختيارات المحدّدة والمتفق عليها، ووفق إرادة سياسية مصمّمة وقادرة وقوية، واستجابة لتطلعات الشعوب وتلبية لرغباتها، على أن تعزّزها رؤية سياسية مستنيرة واعية، تحدّد الأهداف بدقة، وترسم السبل إلى تحقيقها، وتستشرف آفاق المستقبل، وتراعي في الوقت نفسه، متغيّرات العصر والمناخَ الإقليمي والدولي.

والخلاصة التي نخرج بها من دراستنا هذه، هي أن من أقوى أسباب النجاح الذي حالفها، أنها توفرت لها هذه العوامل التي ترقى إلى أن تكون (قوانين الوحدة). كما أن الدراسة المتعمقة للتجارب الوحدوية الفاشلة، تُظهر لنا أن هذه العوامل  (القوانين) قد انعدمت لديها، أو لم تكن بالقوة والمتانة والتماسك بحيث تؤدّي دورها على الوجه المطلوب.

إن الدروس الصعبة التي خرجت بها الأمة العربية الإسلامية من التجارب الوحدوية الفاشلة في القرن العشرين، تدعونا إلى أن نسلك المنهجَ العلميَّ في السياسات التي نعتمدها لتحقيق القدر المناسب من التضامن والتعاون والتنسيق والتكامل بين الأسرة العربية الإسلامية، على صعيد جامعة الدول العربية، وفي إطار منظمة المؤتمر الإسلامي. وهذا يقتضي العمل على تطوير المنظمتين الإقليميتين وإصلاحهما، بحيث يُعاد النظر في آليات العمل العربي الإسلامي المشترك، ومراجعة النصوص القانونية التي يستند إليها، حتى يكون المعادل الموضوعيّ للوحدة العربية، وللوحدة الإسلامية في هذا العصر، هو العمل العربي المشترك، والعمل الإسلامي المشترك.

إننا لا نشكّ في أن تطوير جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، بمنهجية علمية، وبرؤية سياسية متفتحة، وعلى نحو شامل يتناول الفلسفة والأهداف والوسائل والآليات، من شأنه أن يؤدّي في المستقبل إلى صيغة جديدة للوحدة، خاصة في أبعادها ومجالاتها التي تتصل بحياة الشعوب في واقعها المعيش،. ولاشك أن تعديل ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي في مؤتمر القمة الإسلامي الحادي عشر الذي عقد في داكار في السنة الماضية، خطوة موفقة في هذا الاتجاه، ولكن هذا التعديل لا يكفي، ولابد أن يتبعه تغيير شامل في فلسفة العمل الإسلامي المشترك ومنطلقاته وأساليبه، حتى يكون الصيغة الجديدة الملائمة لوحدة الأمة الإسلامية.

الهوامش:

([1]). المؤمنون، 52 .

([2]). الأنبياء، 92 .

([3]). الحجرات، 10  .

([4]). آل عمران، 103 .

([5]). الأنعام، 153.

([6]). الأنفال، 105 .

([7]). هود، 118 .

([8]). يونس، 19.   

([9]). النحل، 93 .

([10]). المائدة، 48 .

([11]). المائدة 48 .

([12]). المائدة، 48 .

([13]). د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، في البناء الحضاري للعالم الإسلامي، الجزء 9، ص : 102، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو-، الرباط 2007م.

([14]). المصدر نفسه، ص : 103 .