الباب الرابع : في آداب معلم القرآن ومتعلمه وفيه فصول .
هذا الباب مع البابين بعده هو مقصود الكتاب وهو طويل منتشر جدا فإني أشير إلى مقاصده مختصرة في فصول ليسهل حفظه وضبطه إن شاء الله تعالى ) فصل ( أول ما ينبغي للمقرئ والقارئ أن يقصدا بذلك رضا الله تعالى قال الله تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } أي الملة المستقيمة وفي الصحيحين عن رسول الله A [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] وهذا الحديث من أصول الإسلام وروينا عن ابن عباس Bهما قال : إنما يعطى الرجل على قدر نيته وعن غيره إنما يعطى الناس على قدر نياتهم وروينا عن الأستاذ أبي القاسم القشيري C تعالى قال : الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع المخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس أو محبة أو مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى قال ويصح أن يقال : الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين وعن حذيفة المرعشي C تعالى : الإخلاص استواء أفعال العبد في الظاهر والباطن وعن ذي النون C تعالى قال : ثلاث من علامات الإخلاص استواء المدح والذم من العامة ونسيان رؤية العمل في الأعمال واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة وعن الفضيل بن عياض Bه قال : ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما وعن سهل التستري C تعالى قال : نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى وحده لا يمازجه شيء لا نفس ولا هوى ولا دنيا وعن السري Bه قال : لا تعمل للناس شيئا ولا تترك لهم شيئا ولا تغط لهم شيئا ولا تكشف لهم شيئا وعن القشيري قال : أفضل الصدق استواء السر والعلانية وعن الحارث المحاسبي C قال : الصادق هو الذي لا يبالي ولو خرج عن كل قدر له في قلوب الخلائق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله فإن كرامته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من أخلاق الصديقين وعن غيره إذا طلبت الله تعالى بالصدق أعطاك الله مرآة تبصر فيها كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة وأقاويل السلف في هذا كثيرة أشرنا إلى هذه الأحرف منها تنبيها على المطلوب وقد ذكرت جملا من ذلك مع شرحها في أول شرح المهذب وضممت إليها من آداب العالم والمتعلم والفقيه والمتفقه ما لا يستغني عنه طالب العلم والله أعلم ( فصل ) وينبغي أن لا يقصد به توصلا إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع على أقرانه أو ثناء عند الناس أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك ولا يشوب عند المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له من بعض من يقرأ عليه سواء كان الرفق مالا أو خدمة وإن قل ولو كان على صورة الهدية التي لو لا قراءته عليه لما أهداها إليه قال تعالى { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } وقال تعلى { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } الآية وعن أبي هريرة Bه قال : قال رسول الله A [ من تعلم علما يبتغي به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ] رواه أبو داود بإسناد صحيح ومثله أحاديث كثيرة وعن أنس و حذيفة و كعب بن مالك Bهم أن رسول الله A قال : [ من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يكاثر به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار ] رواه الترمذي من رواية كعب بن مالك وقال [ أدخله النار ] .
( فصل ) وليحذر كل الحذر من قصده التكثر بكثرة المشتغلين عليه والمختلفين إليه وليحذر من كراهته قراءة أصحابه على غيره ممن ينتفع به وهذه مصيبة يبتلى بها بعض المعلمين الجاهلين وهي دلالة بينة من صاحبها على سوء نيته وفساد طويته بل هي حجة قاطعة على عدم إرادته بتعليمه وجه الله تعالى الكريم فإنه لو أراد الله بتعليمه لما كره ذلك بل قال لنفسه أنا أردت الطاعة بتعليمه وقد حصلت وقد قصد بقراءته على غيري زيادة علم فلا عتب عليه وقد روينا في مسند الإمام المجمع على إمامته وحفظه وإمامته أبي محمد الدارمي رحمة الله عليه عن علي بن أبي طالب Bه أنه قال يا حملة القرآن أو قال ( يا حملة العلم اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف عملهم علمهم وتخالف سريرتهم علانيتهم يجلسون حلقا يباهي بعضهم بعضا حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى ) وقد صح عن الإمام الشافعي Bه أنه قال : وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم يعني علمه وكتبه أن لا ينسب إلي حرف منه .
( فصل ) وينبغي للمعلم أن يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها والخصال الحميدة والشيم المرضية التي أرشده الله إليها من الزهادة في الدنيا والتقلل منها وعدم المبالاة بها وبأهلها والسخاء والجود ومكارم الخلاق وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة والحلم والصبر والتنزه عن دنيء المكاسب وملازمة الورع والخشوع والسكينة والوقار والتواضع والخضوع واجتناب الضحك والإكثار من المزاح وملازمة الوظائف الرعية كالتنظيف بإزالة الأوساخ والشعور التي ورد الشرع بإزالتها كقص الشارب وتقليم الظفر وتسريح اللحية وإزالة الروائح الكريهة والملابس المكروهة وليحذر كل الحذر من الحسد والرياء والعجب واحتقار غيره وإن كان دونه وينبغي أن يستعمل الأحاديث الواردة في التسبيح والتهليل ونحوهما من الأذكار والدعوات وأن يراقب الله تعالى في سره وعلانيته ويحافظ على ذلك وأن يكون تعويله في جميع أموره على الله تعالى .
( فصل ) وينبغي له أن يرفق بمن يقرأ عليه وأن يرحب به ويحسن إليه بحسب حاله فقد روينا عن أبي هرون العبدي قال : [ كنا نأتي أبا سعيد الخدري Bه فيقول : مرحبا بوصية رسول الله A إن النبي A قال : إن الناس لكم تبع وإن رجلا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا ] رواه الترمذي و ابن ماجه وغيرهما وروينا نحو في مسند الدارمي عن أبي الدرداء Bه .
( فصل ) وينبغي أن يبذل لهم النصيحة فإن رسول الله A قال [ الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ] رواه مسلم ومن النصيحة لله تعالى ولكتابه إكرام قارئه وطالبه وإرشاده إلى مصلحته والرفق به ومساعدته على طلبه بما أمكن وتأليف قلب الطالب وأن يكون سمحا بتعليمه في رفق متلطفا به ومحرضا له على التعلم وينبغي أن يذكره فضيلة ذلك ليكون سببا في نشاطه وزيادة في رغبته ويزهده في الدنيا ويصرفه عن الركون إليها والإغترار بها ويذكره فضيلة الإشتغال بالقرآن وسائر العلوم الشرعية وهو طريق الحارضين والعارفين وعباد الله الصالحين وأن ذلك رتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وينبغي أن يشفق على الطالب ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح ولده ومصالح نفسه ويجري المتعلم مجرى ولده في الشفقة عليه والصبر على جفائه وسوء أدبه ويعذره في قلة أدبه في بعض الأحيان فإن الإنسان معرض للنقائص لاسيما إن كان صغير السن وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من الخير وأن يكره له ما يكره لنفسه من النقص مطلقا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله A أنه قال : [ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ] وعن ابن عباس Bهما قال : أكرم الناس على جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إلي لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت وفي رواية : إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني فقد جاء أن لا يتعاظم على المتعلمين بل يلين لهم ويتواضع معهم فقد جاء في التواضع لآحاد الناس أشياء كثيرة معروفة مكيف بهؤلاء الذين هم بمنزلة أولاده مع ما هم عليه من الإشتغال بالقرآن ومع ما لهم عليه من حق الصحبة وترددهم إليه وقد جاء عن النبي A أنه قال [ لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه ] وعن أبي أيوب السختياني C قال : ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعا لله D .
( فصل ) وينبغي أن يؤدب المتعلم على التدريج بالآداب السنية والشيم المرضية ورياضة نفسه بالدقائق بالخفية ويعوده الصيانة في جميع أموره الباطنة والجلية ويحرضه بأقواله وأفعاله المتكررات على الإخلاص والصدق وحسن النيات ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات ويعرفه أن لذلك تنفتح عليه أنوار المعارف وينشرح صدره ويتفجر من قلبه ينابيع الحكم واللطائف ويبارك له في علمه وحاله ويوفق في أفعاله وأقواله .
( فصل ) تعليم المتعلمين فرض كفاية فإن لم يكن من يصلح إلا واحد تعين وإن كان هناك جماعة يحصل التعليم ببعضهم فإن امتنعوا كلهم أثموا وإن قام به بعضهم سقط الحرج عن الباقين وإن طلب من أحدهم وامتنع فأظهر الوجهين أنه لا يأثم لكن يكره له ذلك إن لم يكن عذر .
( فصل ) يستحب للمعلم أن يكون حريصا على تعليمهم مؤثرا ذلك على مصالح نفسه الدنيوية التي ليست بضرورية وأن يفرغ قلبه في حال جلوسه لإقرائهم من الأسباب الشاغلة كلها وهي كثيرة معروفة وأن يكون حريصا على تفهيمهم وأن يعطي كل إنسان منهم ما يليق به فلا يكثر على من لا يحتمل الإكثار ولا يقصر لمن يحتمل الزيادة ويأخذهم بإعادة محفوظاتهم ويثني على من ظهرت نجابته ما لم يخش عليه فتنة بإعجاب أو غيره ومن قصر عنفه تعنيفا لطيفا ما لم يخش عليه تنفيره ولا يحسد أحدا منهم لبراعة تظهر منه ولا يستكثر فيه ما أنعم الله به عليه فإن الحسد للأجانب حرام شديد التحريم فكيف للمتعلم الذي هو بمنزلة الولد ويعود من فضيلته إلى معلمه في الآخرة الثواب الجزيل وفي الدنيا الثناء الجميل والله الموفق .
( فصل ) ويقدم في تعليمهم إذا ازدحموا الأول فالأول فإن رضي الأول بتقديم غيره قدمه وينبغي أن يظهر لهم البشر وطلاقة الوجه ويتفقد أحوالهم ويسأل عمن غاب منهم .
( فصل ) قال العلماء Bهم ولا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية فقد قال سفيان وغيره طلبهم للعلم نية وقالوا طلبنا العلم لغير الله فأبى أن إلا لله معناه كانت غايته أن صار لله تعالى .
( فصل ) ومن آدابه المتأكدة وما يعتنى به أن يصون يديه في حال الإقراء عن العبث وعينيه عن تفريق نظرهما من غير حاجة ويقعده على طهارة مستقبل القبلة ويجلس بوقار وتكون ثيابه بيضا نظيفة وإذا وصل إلى موضع جلوسه صلى ركعتين قبل الجلوس سواء كان الموضع مسجدا أو غيره فإن كان مسجدا كان آكد فإنه يكره الجلوس فيه قبل أن يصلي ركعتين ويجلس متربعا إن شاء أو غير متربع روى أبو بكر بن أبي داود السجستاني باسناده عن عبد الله بن مسعود Bه كان يقرئ الناس في المسجد جاثيا على ركبتيه .
( فصل ) ومن آدابه المتأكدة وما يعتني بحفظه أن لا يذل العلم فيذهب إلى مكان ينسب إلى من يتعلم منه فيه وأن كان المتعلم خليفة فمن دونه بل يصون العلم عن ذلك كما صانه عنه السلف Bهم وحكاياتهم في هذا كثيرة مشهورة .
( فصل ) في آداب المتعلم : جميع ما ذكرناه من آداب المعلم في نفسه آداب للمتعلم ومن آدابه أن يجتنب الأسباب الشاغلة عن التحصيل إلا سببا لا بد منه للحاجة وينبغي أن يطهر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول القرآن وحفظه واستثماره فقد صح عن رسول الله A أنه قال [ ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فصد الجسد كله ألا وهي القلب ] وقد أحسن القائل بقوله : يطيب القلب للعلم كما تطيب الأرض للزراعة وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويتأدب معه وأن كان أصغر منه سنا وأقل شهرة ونسبا وصلاحا وغير ذلك ويتواضع للعلم فبتواضعه يدركه وقد قالوا نظما : ( العلم حرب للفتى والمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي ) وينبغي أن ينقاد لمعلمه ويشاوره في أموره ويقبل قوله كالمريض العاقل يقبل قول الطبيب الناصح الحاذق وهذا أولى .
( فصل ) ولا يتعلم إلا ممن تكملت أهليته وظهرت ديانته وتحققت معرفته واشتهرت صيانته فقد قال محمد بن سيرين و ومالك بن أنس وغيرهما من السلف : هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم وعليه أن ينظر معلمه بعين الاحترام ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على طبقته فإنه أقرب إلى انتفاعه به وكان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء وقال : اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه مني وقال الربيع صاحب الشافعي رحمهما الله : ما اجترأت أن أشرب الماء و الشافعي ينظر إلي هيبة له وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب Bه قال : من حق المعلم عليك أن تسلم على الناس عامة وتخصه دونهم بتحية وأن تجلس أمامه ولا تشيرن عنده بيدك ولا تغمزن بعينيك ولا تقولن قال فلان خلاف ما تقول ولا تغتابن عنده أحدا ولا تشاور جليسك في مجلسه ولا تأخذ بثوبه إذا قام ولا تلح عليه إذا كسل ولا تعرض أي تشبع من طول صحبته وينبغي أن يتأدب بهذه الخصال التي أرشد إليها علي كرم الله وجهه وأن يرد غيبة شيخه إن قدر فإن تعذر عليه ردها فارق ذلك المجلس .
( فصل ) ويدخل على الشيخ كامل الخصال متصفا بما ذكرناه في المعلم متطهرا مستعملا للسواك فارغ من الأمور الشاغلة وأن لا يخل بغير استئذان إذا كان الشيخ في مكان يحتاج فيه إلى استئذان وأن يسلم على الحاضرين إذا دخل ويخصه دونهم بالتحية وأن يسلم عليه وعليهم إذا انصرف كما جاء في الحديث فليست الأولى أحق من الثانية ولا يتخطى رقاب الناس بل يجلس حيث ينتهي به المجلس إلا أن يأذن له الشيخ في التقدم أو يعلم من حالهم إيثار ذلك ولا يقيم أحدا من موضعه فإن آثره غيره لم يقبل اقتداء بابن عمر Bهما إلا أن يكون في تقديمه مصلحة للحاضرين أو أمره الشيخ بذلك ولا يجلس في وسط الحلقة إلا لضرورة ولا يجلس بين صاحبين بغير إذنهما وإن فسحا له قعد وضم نفسه .
( فصل ) وينبغي أيضا أن يتأدب مع رفقته وحاضري مجلس الشيخ فإن ذلك تأدب مر الشيخ وصيانة لمجلسه ويقعد بين يدي الشيخ قعدة المتعلمين لا قعدة المعلمين ولا يرفع صوته رفعا بليغا من غير حاجة ولا يضحك ولا يكثر الكلام من غير حاجة ولا يعبث بيده ولا بغيرها ولا يلتفت يمينا ولا شمالا من غير حاجة بل يكون متوجها إلى الشيخ مصغيا إلى كلامه .
( فصل ) ومما يتأكد الاعتناء به أن لا يقرأ على الشيخ في حال شغل قلب الشيخ وملله واستيفازه وروعه وغمه وفرحه وعطشه ونعاسه وقلقه ونحو ذلك مما يشق عليه أو يمنعه من كمال حضور القلب والنشاط وأن يغتنم أوقات نشاطه ومن آدابه أن يتحمل جفوة الشيخ وسوء خلقه ولا يصده ذلك عن ملازمته واعتقاد كماله ويتأول لأفعاله وأقواله التي ظاهرها الفساد تأويلات صحيحة فما يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق أو عديم وأن جفاه الشيخ ابتدأ هو بالاعتذار إلى الشيخ وأظهر أن الذنب له والعتب عليه فذلك أنفع له في الدنيا والآخرة وأنفى لقلب الشيخ وقد قالوا : من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهالة ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الاخرة والدنيا ومنه الأثر المشهور عن ابن عباس Bهما : ذللت طالبا فعززت مطلوبا وقد أحسن من قال : .
( من لم يذق طعم المذلة ... ساعة قطع الزمان بأسره مذلولا ) .
( فصل ) ومن آدابه المتأكدة أن يكون حريصا على التعلم مواظبا عليه في جميع الأوقات التي يتمكن منه فيها ولا يقنع بالقليل مع تمكنه من الكثير و لا يحمل نفسه ما لا يطيق مخافة من الملل وضياع ما حصل وهذا يختلف باختلاف الناس والأحوال وإذا جاء إلى مجلس الشيخ فلم يجده انتظر ولازم بابه ولا يفوت وظيفته إلا أن يخاف كراهة الشيخ لذلك بأن يعلم من حاله الإقراء في وقت بعينه وأنه لا يقرئ في غيره وإذا وجد الشيخ نائما أو مشتغلا بمهم لم يستأذن عليه بل يصبر إلى استيقاظه أو فراغه أو ينصرف والصبر أولى كما كان ابن عباس Bهما وغيره يفعلون وينبغي أن يأخذ نفسه بالإجتهاد في التحصيل في وقت الفراغ والنشاط وقوة البدن ونباهة الخاطر وقلة الشاغلات قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة فقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب Bه : تفقهوا قبل أن تسودوا : معناه اجتهدوا في كمال أهليتكم وأنتم أتباع قبل أن تصيروا سادة فإنكم إذا صرتم سادة متبوعين امتنعتم من التعلم لارتفاع منزلتكم وكثرة شغلكم وهذا معنى قول الإمام الشافعي Bه : تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه .
( فصل ) وينبغي أن يبكر بقراءته على الشيخ أول النهار لحديث النبي A [ اللهم بارك لأمتي في بكورها ] وينبغي أن يحافظ على قراءة محفوظه وينبغي أن لا يؤثر بنوبته غيره فإن الإيثار مكروه في القرب بخلاف الإيثار بحظوظ النفس فإنه محبوب فإن رأى الشيخ المصلحة في الإيثار في بعض الأوقات لمعنى شرعي فأشار عليه بذلك امتثل أمره ومما يجب عليه ويتأكد الوصية به أن لا يحسد أحدا من رفقته أو غيرهم على فضيلة رزقه الله إياها وأن لا يعجب بنفسه بما خصه الله وقد قدمنا ايضاح هذا في آداب الشيخ وطريقه في نفي العجب أن يذكر نفسه أنه لم يحصل ما حصله بحوله وقوته وإنما هو فضل من الله ولا ينبغي أن يعجب بشيء لم يخترعه بل أودعه الله تعالى فيه وطريقه في نفي الحسد أن يعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت جعل هذه الفضيلة في هذا فينبغي أن لا يعترض عليها ولا يكره حكمة أرادها الله تعالى ولم يكرها