الباب الخامس : في آداب حامل القرآن وفيه فصول .
قد تقدم حمل منه في الباب الذي قبل هذا ومن آدابه أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالا للقرآن وأن يكون مصونا عن دنيء الإكتساب شريف النفس مترفع على الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا متواضعا للصالحين وأهل الخير والمساكين وأن يكون متخشعا ذا سكينة ووقار وفقد جاء عن عمر بن الخطاب Bه أنه قال : يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح لكم الطريق فاستبقوا الخيرات لا تكونوا عيالا على الناس وعن عبد الله بن مسعود Bه قال : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون وعن الحسن بن علي Bهما قال : إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وتفقدونها في النهار وعن الفضيل بن عياض قال : ينبغي لحامل القرآن أ لا تكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم وعنه أيضا قال : حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلو هو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن .
( فصل ) ومن أهم ما يؤثر به أن يحذر كل الحذر من اتخاذ القرآن معيشة يكتسب بها فقد جاء عن عبد الرحمن بن شبيل Bه قال : قال رسول الله A [ اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه ] وعن جابر Bه عن النبي A [ اقرؤوا القرآن من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه ] رواه بمعناه من رواية سهل بن سعد : معناه يتعجلون أجره إما بمال وإما سمعة ونحوها وعن فضيل بن عمرو Bه قال : [ دخل رجلان من أصحاب رسول الله A مسجدا فلما سلم الإمام قام رجل فتلا آيات من القرآن ثم سأل فقال أحدهما : إنا لله وإنا إليه راجعون سمعت رسول الله A سيجيء قوم يسألون بالقرآن فمن سأل بالقرآن فلا تعطوه ] وهذا الإسناد منقطع فإن الفضيل بن عمرو لم يسمع الصحابة وأما أخذه الأجرة على تعليم القرآن فقد اختلف العلماء فيه فحكى الإمام أبو سليمان الخطابي منع أخذ الأجرة عليه عن جماعة من العلماء منهم الزهرى و أبو حنيفة وعن جماعة أنه يجوز إن لم يشترطه وهو قول الحسن البصرى و الشعبي و ابن سيرين وذهب عطاء و مالك و الشافعي وآخرون إلى جوازها إن شارطه واستأجره إجارة صحيحة وقد جاء بالجواز الأحاديث الصحيحة واحتج من منعها بحديث عبادة بن الصامت [ أنه علم رجلا من أهل الصفة القرآن فأهدى له قوسا فقال له النبي A أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها ] وهو حديث مشهور رواه أبو داود و وغيره وبآثار كثيرة عن السلف وأجاب المجوزون عن حديث عبادة بجوابين : أحدهما أن في إسناده مقالا والثاني أنه كان تبرع بتعليمه فلم يستحق شيئا ثم أهدي إليه على سبيل العوض فلم يجز له الأخذ بخلاف من يعقد معه إجارة قبل التعليم والله أعلم .
( فصل ) ينبغي أن يحافظ على تلاوته وكثر منها وكان السلف Bهم لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه فروى ابن أبي داود عن بعض السلف Bهم أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة وعن بعضهم في كل شهر ختمة وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة وعن بعضهم في كل ثمان ليال وعن الأكثرين في كل سبع ليال وعن بعضهم في كل ست وعن بعضهم في كل خمس وعن بعضهم في كل أربع وعن كثيرين في كل ليال وعن بعضهم في كل ليلتين وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة ومنهم من كان يختم ثلاثا وختم بعضهم ثمان ختمات أربعا بالليل وأربعا بالنهار فمن الذين كانوا يختمون ختمة في الليل واليوم عثمان بن عفان Bه و تميم الداري و سعيد بن جبير و مجاهد و الشافعي وآخرين ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات سليم بن عمر Bه قاضي مصر في خلافة معاوية Bه وروى أبو بكر بن أبي داود أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات وروى أبو عمر الكندي في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي Bه : سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول : كان ابن الكتاب Bه يختم بالنهار أربع ختمات وبالليل أربع ختمات وهذا أكثر ما بلغنا من اليوم والليلة وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زادان من عباد التابعين Bه أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ويختمه أيضا فيما بين المغرب والعشاء في رمضان ختمتين وسيأتي وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل وروى أبو داود بإسناده الصحيح أن مجاهدا كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء وعن منصور قال : كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان وعن إبراهيم بن سعد قال : كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن وأما الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان و تميم الداري و سعيد بن جبير Bهم ختمة في كل ليلة في الكعبة وأما الذين ختموا في الأسبوع مرة فكثيرون نقل عن عثمان بن عفان Bه و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و أبي بن كعب Bهم وعن جماعة من التابعين ك عبد الرحمن بن يزيد و علقمة و إبراهيم رحمهم الله والإختبار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه وكذا من كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في يوم وليلة ويدل عليه الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص Bهما قال : قال رسول الله A [ لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ] رواه أبو داود و الترمذي و النسائي وغيرهم قال الترمذي حديث حسن صحيح والله أعلم وأما وقت الابتداء والختم لمن يختم في الأسبوع فقد روى أبو داود أن عثمان بن عفان Bه كان يفتتح القرآن ليلة الجمعة ويختمه ليلة الخميس وقال الإمام أبو حامد الغزالي C تعالى في الإحياء : الأفضل أن يختم ختمة بالليل وأخرى بالنهار ويجعل ختمة النهار يوم الإثنين في ركعتي الفجر أو بعدهما ويجعل ختمة الليل ليلة الجمعة في ركعتي المغرب أو بعدهما ليستقبل أول النهار وآخره وروى ابن أبي داود عن عمر بن مرة التابعي قال : كانوا يحبون أن يختم القرآن من أول الليل أو من أول النهار وع طلحة بن مصرف التابعي الجليل قال : من ختم القرآن أية ساعة كانت من النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي وأية ساعة كانت من الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح وعن مجاهد مثله وروى الدارمي في مسنده بإسناده عن سعد بن أبي وقاص Bه قال : إذا وافق ختم القرآن أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح وإذا وافق ختمه آخر الليل صلت عليه الملائكة حتى يمسي قال الدارمي : هذا حسن من سعد وعن حبيب بن أبي ثابت التابعي : أنه كان يختم قبل الركوع قال ابن أبي داود : وكذا قال أحمد بن حنبل C تعالى وفي هذا الفصل بقايا ستأتي إن شاء الله تعالى في الباب الآتي ( فصل : في المحافظة على القراءة بالليل ) ينبغي أن يكون اعتناؤه بقراءة القرآن في الليل أكثر قال الله تعالى { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } وثبت في الصحيح عن رسول الله A أنه قال [ نعم الرجل عبد الله لوم كان يصلي من الليل ] وفي الحديث الآخر من الصحيح أنه A قال [ يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل ثم تركه ] وروى الطبراني وغيره عن سهل بن سعد Bه عن رسول الله A قال : [ شرف المؤمن قيام الليل ] والأحاديث والآثار في هذا كثيرة وقد جاء عن أبي الأحوص الحبشي قال : إن كان الرجل ليطرق الفسطاط طروقا : أي يأتيه ليلا فيسمع لأهله دويا كدوي النحل قال فما بال هؤلاء يأمنون ما كان أولئك يخافون ؟ وعن إبراهيم النخعي كان يقول : اقرأوا من الليل ولو حلب شاة وعن يزيد الرقاشي قال : إذا أنا نمت ثم استيقظت ثم نمت فلا نامت عيناي قلت : وإنما رجحت صلاة الليل وقراءته لكونها أجمع للقلب وأبعد عن الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات وأصون عن الرياء وغيره من المحبطات مع ما جاء الشرع به من إيجاد الخيرات في الليل فإن الإسراء برسول الله A كان ليلا وحديث [ ينزل ربكم كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل فيقول : هل من داع فأستجيب له ] الحديث وفي الحديث أن رسول الله A قال [ في الليل ساعة يستجيب الله فيها الدعاء كل ليلة ] وروى صاحب بهجة الأسرار بإسناده عن سليمان الأنماطي قال : رأيت علي بن أبي طالب Bه في المنام يقول : ( لولا الذين لهم ورد يقومونا وآخرون لهم سرد يصومونا لدككت أرضكم من تحتكم سحرا لأنكم قوم سوء لا تطيعونا ) واعلم أن فضيلة القيام بالليل والقراءة فيه تحصل بالقليل والكثير وكلما كثر كان أفضل إلا أن يستوعب الليل كله فإنه يكره الدوام عليه وإلا أن يضر بنفسه ومما يدل على حصوله بالقليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص Bهما قال : قال رسول الله A [ من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقسطين ] رواه أبو داود وغيره وحكى الثعلبي عن ابن عباس Bهما قال من صلى بالليل ركعتين فقد بات لله ساجدا وقائما .
( فصل : في الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان ) ثبت عن أبي موسى الأشعري Bه عن النبي A قال [ تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها ] رواه البخاري و مسلم وعن ابن عمر Bهما أن رسول الله A قال [ إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت ] رواه مسلم و البخاري وعن أنس بن مالك Bه قال : قال رسول الله A [ عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها ] رواه أبو داود و الترمذي وتكلم فيه وعن سعد بن عبادة عن النبي A قال : [ من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله D يوم القيامة وهو أجذم ] رواه أبو داود و الترمذي .
( فصل : فيمن نام عن ورده ) عن عمر بن الخطاب Bه قال : قال رسول الله A [ من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنه قرأه من الليل ] رواه مسلم وعن سليمان بن يسار قال : قال أبو أسيد Bه : نمت البارحة عن وردي حتى أصبحت فلما أصبحت استرجعت وكان وردي سورة البقرة فرأيت في المنام كأن بقرة تنطحني رواه ابن أبي داود وروى ابن أبي الدنيا عن بعض حفاظ القرآن : أنه نام ليلة عن حزبه فأري في منامه كأن قائلا يقول له : ( عجبت من جسم ومن صحة ومن فتى نام إلى الفجر والموت لا يؤمن خطفاته في ظلم الليل إذا يسري )