القسم الأول ـ ما يرجع إلى الموهوب .
و أما ما يرجع إلى الموهوب فأنواع : .
منها : أن يكون موجودا وقت الهبة فلا تجوز هبة ما ليس بموجود وقت العقد بأن وهب ما يثمر نخلة العام و ما تلد أغنامه السنة و نحو ذلك بخلاف الوصية .
و الفرق : أن الهبة تمليك للحال و تمليك المعدوم محال و الوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت و الإضافة لا تمنع جوازها و كذلك لو وهب ما في بطن هذه الجارية أو ما في بطن هذه الشاة أو ما في ضرعها لا يجوز و إن سلطة على القبض عند الولادة و الحلب لأنه لا وجه لتصحيحه للحال لاحتمال الوجود و العدم لأن انتفاخ البطن قد يكون لداء البطن و غيره و كذا انتفاخ الضرع قد يكون باللبن و قد يكون بغيره فكان له خطر الوجود و العدم و لا سبيل لتصحيحه بالإضافة إلى ما بعد زمان الحدوث لأن التمليك بالهبة مما لا يحتمل الإضافة إلى الوقت فبطل و لهذا لا يجوز بيعه بخلاف ما إذا وهب الدين من غير من عليه الدين و سلطه على القبض أنه يصح استحسانا لأنه أمكن تصحيحه للحال لكون الموهوب موجودا مملوكا للحال مقدور القبض بطريقه على ما سنذكره إن شاء الله تعالى .
و كذلك لو وهب زيدا في لبن أو دهنا في سمسم أو دقيقا في حنطة لا يجوز و إن سلطة على قبضه عند حدوثه لأنه معدوم للحال فلم يوجد محل حكم العقد للحال فلم ينعقد و لا سبيل إلى الإضافة إلى وقت الحدوث فبطل أصلا بخلاف ما إذا وهب صوفا على ظهر الغنم و جزه و سلمه أنه يجوز لأن الموهوب موجود مملوك للحال إلا أنه لم ينفذ للحال لمانع و هو كون الموهوب مشغولا بما ليس بموهوب فإذا جزه فقد زال المانع لزوال الشغل فينفذ عند وجود القبض كما لو وهب شقصا مشاعا ثم قسمه و سلمه .
و منها : أن يكون مالا متقوما فلا تجوز هبة ما ليس بمال أصلا كالحر و الميتة و الدم و صيد الحرم و الإحرام و الخنزير و غير ذلك على ما ذكرنا في البيوع و لا هبة ما ليس بمال مطلق كأم الولد و المدبر المطلق و المكاتب لكونهم أحرارا من وجه و لهذا لم يجز بيع هؤلاء و لا هبة ما ليس بمتقوم كالخمر و لهذا لم يجز بيعها .
و منها : أن يكون مملوكا في نفسه فلا تجوز هبة المباحات لأن الهبة تمليك و تمليك ما ليس بمملوك محال .
و منها : أن يكون مملوكا للواهب فلا تجوز هبة مال الغير بغير إذنه لاستحالة تمليك ما ليس بمملوك و إن شئت رددت هذا الشرط إلى الواهب و كل ذلك صحيح لأن المالك و المملوك من الأسماء الإضافية و العلقة التي تدور عليها الإضافة هي الملك فيجوز رد هذا الشرط إلى الموهوب و يجوز رده إلى الواهب في صناعة الترتيب فافهم و سواء كان المملوك عينا أو دينا فتجوز هبة الدين لمن عليه الدين قياسا و استحسانا .
و أما هبة الدين لغير من عليه الدين فجائز أيضا إذا أذن له بالقبض و قبضه استحسانا و القياس : أن لا يجوز و إن أذن له بالقبض .
وجه القياس : أن القبض شرط جواز الهبة و ما في الذمة لا يحتمل القبض بخلاف ما إذا وهب لمن عليه لأن الدين في ذمته و ذمته في قبضه فكان الدين في قبضه فكان الدين في قبضه بواسطة قبض الذمة .
وجه الاستحسان : أن ما في الذمة مقدور التسليم و القبض ألا ترى أن المديون يجبر على تسليمه إلا أن قبضه بقبض العين فإذا قبض العين قام قبضها مقام قبض عين ما في الذمة إلا أنه لا بد من الإذن بالقبض صريحا و لا يكتفي فيه بالقبض بحضرة الواهب بخلاف هبة العين لما نذكره في موضعه .
و منها : أن يكون محوزا فلا تجوز هبة المشاع فيما يقسم و تجوز فيما لا يقسم كالعبد و الحمام و الدن و نحوها و هذا عندنا و عند الشافعي C : ليس بشرط و تجوز هبة المشاع فيما يقسم و فيما لا يقسم عنده و احتج بظاهر قوله D : { فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون } أوجب سبحانه تعالى نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول إلا أن يوجد الحط من الزوجات عن النصف من غير فصل بين العين و الدين و المشاع و المقسوم فيدل على جواز هبة المشاع في الجملة و بما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنه لما شدد في الغلول في الغنيمة في بعض الغزوات فقام عليه الصلاة و السلام إلى سنام بعير و أخذ منه و برة ثم قال أما إني لا يحل لي من غنيمتكم و لو بمثل هذه الوبرة إلا الخمس و الخمس مردود فيكم ردوا الخيط و المخيط فإن الغلول عار و شنار على صاحبه إلى يوم القيامة فجاء أعرابي بكبة من شعر فقال : أخذتها لأصلح بها بردعة بعيري يا رسول الله فقال : أما نصيبي فهو لك و سأسلمك الباقي ] و هذا هبة المشاع فيما يقسم و روي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل على أبي أيوب الأنصاري Bه فنظر إلى موضع المسجد فوجده بين أسعد بن زرارة و بين رجلين من قومه فاستباع أسعد نصيبهما ليهب الكل من رسول الله صلى الله عليه و سلم فأبيا ذلك فوهب أسعد نصيبه من النبي عليه الصلاة و السلام فوهبا أيضا نصيبهما من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد قبل النبي عليه الصلاة و السلام الهبة في نصيب أسعد و قبل في نصيب الرجلين أيضا ] و لو لم يكن جائزا لما قبل لأن أدنى حال فعل النبي عليه الصلاة و السلام الجواز و لأن الشياع لا يمنع حكم هذا التصرف و لا شرطه لأن حكم الهبة الملك و الشياع لا يمنع الملك .
ألا ترى أنه يجوز بيع المشاع و كذا هبة المشاع فيما لا يقسم و شرطه هو القبض و الشيوع لا يمنع القبض لأنه يحصل قابضا للنصف المشاع بتخلية الكل و لهذا جازت هبة المشاع فيما لا يقسم و إن كان القبض فيها شرطا لثبوت الملك كذا هذا .
و لنا إجماع الصحابة Bهم فإنه روي أن سيدنا أبا بكر Bه قال في مرض موته لسيدتنا عائشة Bها : [ إن أحب الناس إلي غنى أنت و أعزهم علي فقرا أنت و إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي بالعالية و إنك لم تكوني قبضته و لا جذيتيه و إنما هو اليوم مال الوارث ] .
اعتبر سيدنا الصديق Bه القبض و القيمة في الهبة لثبوت الملك لأن الحيازة في اللغة جمع الشيء المفرق في حيز و هذا معنى القسمة لأن الأنصباء الشائعة قبل القسمة كانت متفرقة و القسمة تجمع كل نصيب في حيز .
و روي عن سيدنا عمر Bه قال : [ ما بال أحدكم ينحل ولده نحلا لا يحوزها و لا يقسمها و بقول : إن مت فهو له و إن مات رجعت إلي و أيم الله لا ينحل أحدكم ولده نحلى لا يجوزها و لا يقسمها فيموت إلا جعلتها ميراثا لورثته ] و المراد من الحيازة القبض هنا لأنه ذكرها بمقابلة القسمة حتى يؤدي إلى التكرار أخرج الهبة من أن تكون موجبة للملك بدون القبض و القسمة .
و روي عن سيدنا علي Bه أنه قال : [ من وهب ثلث كذا أو ربع كذا لا يجوز ما لم يقاسم ] و كل ذلك بمحضر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم ينقل أنه أنكر عليهم منكر فيكون إجماعا و لأن القبض شرط جواز هذا العقد و الشيوع يمنع من القبض لأن معنى القبض هو التمكن من التصرف في المقبوض و التصرف في النصف الشائع وحده لا يتصور فإن سكنى نصف الدار شائعا و لبس نصف الثوب شائعا محال لا يتمكن من التصرف فيه بالتصرف في الكل لأن العقد لم يتناول الكل .
و هكذا نقول في المشاع الذي لا يقسم أن معنى القبض هناك لم يوجد لما قلنا إلا أن هناك ضرورة لأنه يحتاج إلى هبة بعضه و لا حكم للهبة بدون القبض و الشياع مانع من القبض الممكن للتصرف و لا سبيل إلى إزالة المانع بالقسمة لعدم احتمال القسمة فمست الضرورة إلى الجواز و إقامة صورة التخلية مقام القبض الممكن من التصرف و لا ضرورة هنا لأن المحل محتمل للقسمة فيمكن إزالة المانع من القبض الممكن بالقسمة أو نقول الصحابة Bهم شرطوا القبض المطلق و المطلق ينصرف إلى الكامل و قبض المشاع قبض قاصر لوجوده من حيث الصورة دون المعنى على ما بينا إلا أنه اكتفي بالصورة في المشاع الذي لا يحتمل القسمة للضرورة التي ذكرنا و لا ضرورة هنا فلزم اعتبار الكمال في القبض و لا يوجد في المشاع و لأن الهبة عقد تبرع فلو صحت في مشاع يحتمل القسمة لصار عقد ضمان لأن الموهوب له يملك مطالبة الواهب بالقسمة فيلزمه ضمان القسمة فيؤدي إلى تغيير المشروع و لهذا توقف الملك في الهبة على القبض لما أنه لو ملكه بنفس العقد لثبتت له ولاية المطالبة بالتسليم فيؤدي إلى إيجاب الضمان في عقد التبرع و فيه تغيير المشروع و كذا هذا بخلاف مشاع لا يحتمل القسمة لأن هناك لا يتصور إيجاب الضمان على المتبرع لأن الضمان ضمان القسمة و المحل لا يحتمل القسمة فهو الفرق .
و أما الآية فلا حجة له فيها لأن المراد من المفروض الدين لا العين ألا ترى أنه قال : { إلا أن يعفون } و العفو إسقاط و إسقاط الأعيان لا يعقل و كذا الغالب في المهر أن يكون دينا و هبة الدين ممن عليه الدين جائز لأنه إسقاط الدين عنه و إنه جائز في المشاع .
و أما حديث الكبة فيحتمل : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم وهب نصيبه منه و استوهب البقية من أصحاب الحقوق فوهبوا و سلموا الكل جملة ] و في الحديث ما يدل عليه فإنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و سأسلمك الباقي ] و ما كان هو عليه الصلاة و السلام ليخلف في وعده و هبة المشاع على هذا السبيل جائزة عندنا على أن ذلك كان هبة مشاع لا ينقسم من حيث المعنى لأن كبة واحدة لو قسمت على الجم الغفير لا يصيب كلا منها إلا نزر حقير لا ينتفع به فكان في معنى مشاع لا ينقسم .
و أما حديث أسعد بن زرارة فحكاية حال يحتمل أنه وهب نصيبه و شريكاه و هبا نصيبهما منه و سلموا الكل جملة و هذا جائز عندنا و يحتمل أن الأنصباء كانت مقسومة مفرزة و يجوز أن يقال في مثل هذا بينهم إذا كانت الجملة متصلة بعضها ببعض كقرية بين جماعة أنها تضاف إليهم و إن كانت أنصباؤهم مقسومة و احتمل بخلافه فلا يكون حجة مع الاحتمال لأن حكاية الحال لا عموم له و لو قسم ما وهب و أفرزه ثم سلمه إلى الموهوب له جاز لأن هبة المشاع عندنا منعقد موقوف نفاذه على القسمة و القبض بعد القسمة هو الصحيح إذ الشيوع لا يمنع ركن العقد و لا حكمه و هو الملك و لا سائر الشرائط إلا القبض الممكن من التصرف فإذا قسم و قبض فقد زال المانع من النفاذ فينفذ و حديث الصديق Bه لا يدل عليه فإنه قال لسيدتنا عائشة Bها : [ إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي ] و كان ذلك هبة المشاع فيما ينقسم لأن النحل من ألفاظ الهبة و لو لم ينعقد لما فعله الصديق Bه لأنه ما كان ليعقد عقدا باطلا فدل قول الصديق Bه على انعقاد العقد في نفسه و توقف حكمه على القسمة و القبض و هو عين مذهبنا و الله أعلم .
و كذلك لو وهب نصف داره من رجل و لم يسلم إليه ثم وهب منه النصف الآخر و سلم إليه جملة جاز لما قلنا .
و لو وهب منه نصف الدار و سلم إليه بتخلية الكل ثم وهب منه النصف الآخر و سلم لم تجز الهبة لأن كل واحد منهما هبة المشاع فيما يقسم لا تنفذ إلا بالقسمة و التسليم و يستوي فيه الجواب في هبة المشاع بين أن يكون من أجنبي أو شركة شريكه كل ذلك يجوز لقول جماعة من الصحابة Bهم لا تجوز الهبة إلا مقبوضة محوزة من غير فصل و لأن المانع هو الشياع عند القبض و قد وجد و على هذا الخلاف صدقة المشاع فيما ينقسم أنه لا يجوز عندنا خلافا للشافعي C .
وجه قوله : أن الشياع لا يمنع حكم التصرف و هو الملك و لا شرطة و هو القبض و لا يمنع جوازه كالمفروض .
و لنا : أن القبض شرط جواز الصدقة و معنى القبض لا يتحقق في الشائع أو لا يتكامل فيه لما بينا في الهبة و لأن التصدق تبرع كالهبة و تصحيحه في المشاع يصيرها عقد ضمان فيتغير المشروع على ما بينا في الهبة .
و لو وهب شيئا ينقسم من رجلين كالدار و الدراهم و الدنانير و نحوها و قبضاه لم يجز عند أبي حنيفة و جاز عند أبي يوسف و محمد و أجمعوا على أنه لو وهب رجلان من واحد شيئا ينقسم و قبضه أنه يجوز فأبو حنيفة يعتبر الشيوع عند القبض و هما يعتبرانه عند العقد و القبض جميعا فلم يجوز أبو حنيفة هبة الواحد من اثنين لوجود الشياع وقت القبض و هما جوازها لأنه لم يوجد الشياع في الحالين بل وجد أحدهما دون الآخر و جوزوا هبة الاثنين من واحد .
أما أبو حنيفة C فلعدم الشيوع في وقت القبض و أما هما فلانعدامه في الحالين لأنه وجد عند العقد و لم يوجد عند القبض .
و مدار الخلاف بينهم على حرف و هو أن هبة الدار من رجلين تمليك كل الدار جملة أو تمليك من أحدهما و النصف من الآخر فعند أبي حنيفة تمليك النصف من أحدهما و النصف من الآخر فيكون هبة المشاع فيما ينقسم كأنه أفرد تمليك كل نصف من كل واحد منهما بعقد على حدة و عندهما هي تمليك الكل منهما لا تمليك النصف من هذا و النصف من ذلك فلا يكون تمليك الشائع فيجوز .
وجه قولهما : أن العمل بموجب الصيغة هو الأصل و ذلك فيما قلنا لأن قوله : وهبت هذه الدار كلها هبة كل الدار جملة منهما لا هبة النصف من أحدهما و النصف من أحدهما و النصف من الآخر لأن ذلك توزيع و تفريق و اللفظ لا يدل عليه و لا يجوز العدول عن موجب اللفظ لغة إلا لضرورة الصحة و في العدول عن ظاهر الصيغة ههنا فساد العقد بسبب الشيوع فوجب العمل بظاهر الصيغة و هو تمليك الكل منهما و موجب التمليك منها ثبوت الملك لهما في الكل و إنما يثبت الملك لكل واحد منهما في النصف عند الانقسام ضرورة المزاحمة و استوائهما في الاستحقاق إذ ليس كل واحد منهما أولى من الآخرة لدخول كل واحد منهما في العقد على السواء كالأخوين في الميراث عند الاستواء في الدرجة إن الميراث يكون بينهما نصفين و إن كان سبب الاستحقاق في حق كل واحد منهما على الكمال حتى لو انفرد أحدهما يستحق كل المال و إذا جاءت المزاحمة مع المساواة في الاستحقاق يثبت عند انقسام الميراث في النصف و كذا الشفيعان يثبت لكل واحد منهما أخذ نصف الدار بالشفعة لضرورة المزاحمة و الاستواء في الاستحقاق و إن كان السبب في حق كل واحد منهما صالحا لإثبات حق الشفعة في الكل حتى لو سلم أحدهما يكون الكل للآخر و على هذا مسائل فلم يكن الانقسام على التناصف موجب الصيغة بل لتضايق المحل لهذا جاز الرهن من رجلين فكان ذلك رهنا من كل واحد منهما على الكمال إذ لو كان رهن النصف من هذا و النصف من ذلك لما جاز لأنه يكون رهن المشاع لهذا لو قضى الراهن دين أحدهما كان للآخر حبس الكل دل أن ذلك رهن الكل من كل واحد منهما كذا هذا .
وجه قول أبي حنيفة C : أن هذا تمليك مضاف إلى الشائع فلا يجوز كما إذا ملك نصف الدار من أحدهما و النصف من الآخر بعقد على حدة و الدليل على أن هذا تمليك مضاف إلى الشائع أن قوله : وهبت هذه الدار منكما إما أن يكون تمليك كل الدار من كل واحد منهما و إما أن يكون تمليك النصف من أحدهما و النصف من الآخر لا سبيل إلى الأول لأن الدار الواحدة يستحيل أن تكون مملوكة لكل واحد منهما على الكمال و المحال لا يكون موجب العقد فتعين الثاني و هو أن يكون تمليك النصف من أحدهما و النصف من الآخر لهذا لم يملك كل منهما التصرف في كل الدار بل في نصفها .
و لو كان كل الدار مملوكا لكل واحد منهما لملك و كذا كل واحد منهما يملك مطالبة صاحبه بالتهايؤ أو بالقسمة و هذا آية ثبوت الملك له في النصف و إذا كان هذا تمليك الدار لهما على التناصف كان تمليكا مضافا إلى الشائع كأنه أفرد لكل واحد منهما العقد في النصف و الشيوع يؤثر في القبض الممكن من التصرف على ما مر و قد خرج الجواب عن قولهما : إن موجب الصيغة ثبوت الملك في كل الدار لكل واحد منهما على الكمال لما ذكرنا أن هذا محال و المحال لا يكون موجب العقد و لا العاقد بعقده يقصد أمرا محالا أيضا فكان موجب العقد التمليك منهما على التناصف لأن هذا تمليك الدار منهما فكان عملا بموجب الصيغة من غير إحالة فكان أولى بخلاف الرهن فإن الدار الواحدة تصلح مرهونة عند كل واحد منهما لأن الرهن هو الحبس و اجتماعهما على الحبس متصور بأن يحبساه معا أو يضعاه جميعا على يدي عدل فتكون الدار محبوسة كلها عند كل واحد منهما و هذا مما لا يمكن تحقيقه في الملك فهو الفرق و عند أبي حنيفة C : إذا وهب من رجلين فقسم ذلك و سلم إلى كل واحد منهما جاز لأن المانع هو الشيوع عند القبض و قد زال هذا إذا وهب من رجلين شيئا مما يقسم فإن كان مما لا يقسم جاز بالإجماع لما ذكرنا فيما تقدم ثم على أصلهما إذا قال لرجلين : وهبت لكما هذه الدار لهذا نصفها و لهذا نصفها جاز لأن قوله لهذا نصفها و لهذا نصفها خرج تفسيرا للحكم الثابت بالعقد إذ لا يمكن جعله تفسيرا لنفس العقد لأن العقد وقع تمليك الدار جملة منهما على ما بينا فجعل تفسيرا لحكمه فلا يوجب ذلك إشاعة في العقد .
و لو قال : وهبت لك نصفها و لهذا نصفها لم يجز لأن الشيوع دخل على نفس العقد فمنع الجواز .
و لو قال : وهبت لكما هذه الدار ثلثها لهذا و ثلثاها لهذا لم يجز عند أبي يوسف و جاز عند محمد .
وجه قوله محمد : أن العقد متى جاز لاثنين يستوي فيه التساوي و التفاضل كعقد البيع .
وجه قول أبي يوسف : أن الجواز عند التساوي بطريق التفسير للحكم الثابت بالعقد و ذلك لا يوجب شيوعا في العقد و لما فضل أحد النصيبين عن الآخر تعذر جعله تفسيرا لأن مطلق العقد لا يحتمل التفاضل فكان تفضيل أحد النصيبين في معنى إفراد العقد لكل واحد منهما فكان هبة المشاع و الشيوع يؤثر في الهبة و لا يؤثر في البيع .
و لو رهن من رجلين لأحدهما ثلثه و للآخر ثلثاه أو نصفه لهذا و نصفه لذلك على التفاضل و التناصف لا يجوز بالإجماع بخلاف ما إذا أبهم بأن قال : وهبت منكما أنه يجوز .
و لو وهب من فقيرين شيئا ينقسم فالهبة من فقيرين بمنزلة التصدق عليهما لأن الهبة من الفقير صدقه لأنه يبتغي بها وجه الله تعالى و سنذكر حكمها إن شاء الله تعالى .
و على هذا يخرج هبة الشجر دون الثمر و الثمر دون الشجر و الأرض دون الزرع و الزرع دون الأرض إنها غير جائزة لأن الموهوب متصل بما ليس بموهوب اتصال جزء بجزء فكان كهبة المشاع و لو فضل و سلم و جاز كما في هبة المشاع و لو تصدق بعشرة دراهم على رجلين فإن كانا غنيين لم يجز عند أبي حنيفة و يجوز عندهما لأن التصدق على الغني ميتة في الحقيقة و الهبة من اثنين لا تجوز و عندهما جائز و إن كانا فقيرين فعندهما تجوز كما تجوز في الهبة من رجلين و عن أبي حنيفة C فيه روايتان في كتاب الهبة لا يجوز و في [ الجامع الصغير ] يجوز .
وجه رواية كتاب الهبة : أن الشياع كما يمنع جواز الهبة يمنع جواز الصدقة على ما ذكرنا فيما تقدم و ههنا يتحقق الشيوع في القبض .
وجه رواية [ الجامع ] و هي الصحيحة : أن معنى الشيوع في القبض لا يتحقق في الصدقة على فقيرين لأن المتصدق يتقرب بالصدقة إلى الله D ثم الفقير من الله تعالى قال الله تبارك و تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده و يأخذ الصدقات } و قال عليه الصلاة و السلام : [ الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد الفقير ] و الله تعالى واحد لا شريك له فلا يتحقق معنى الشيوع كما لو تصدق على فقير واحد ثم وكل بقبضها وكيلين بخلاف التصدق على غنيين لأن الصدقة على الغني يبتغى بها وجه الغني فكانت هدية لا صدقة قال عليه الصلاة و السلام : [ الصدقة يبتغى بها وجه الله تعالى و الدار الآخرة و الهدية يبتغى بها وجه الرسول ] و قضاء الحاجة و الهدية هبة فيتحقق معنى الشيوع في القبض و أنه مانع من الجواز عنده و منها القبض و هو أن يكون الموهوب مقبوضا و إن شئت رددت هذا الشرط إلى الموهوب له لأن القابض و المقبوض من الأسماء الإضافية و العلقة التي تدور عليها الإضافة من الجانبين هي القبض فيصح رده إلى كل واحد منهما في صناعة الترتيب فتأمل .
و الكلام في هذا الشرط في موضعين : في بيان أصل القبض أنه شرط أم لا و في بيان شرائط صحة القبض .
أما الأول : فقد اختلف فيه قال عامة العلماء : شرط و الموهوب قبل القبض على ملك الواهب يتصرف فيه كيف شاء .
و قال مالك C : ليس بشرط و يملكه الموهوب له من غير قبض .
وجه قوله : أن هذا عقد تبرع بتمليك العين فيفيد الملك قبل القبض كالوصية و لنا : إجماع الصحابة Bهم و هو ما روينا أن سيدنا أبا بكر و سيدنا عمر Bهما اعتبرا القسمة و القبض لجواز النحلى بحضرة الصحابة و لم ينقل أنه أنكر عليهما منكر فيكون إجماعا