بيان أحوالها .
فصل : و أما بيان أحوالها منها في الأصل حالان : حال ما قبل الأخذ و حال ما بعده أما قبل الأخذ فلها أحوال مختلفة قد يكون مندوب الأخذ و قد يكون مباح الأخذ و قد يكون حرام الأخذ أما حالة الندب فهو أن يخاف عليها الضيعة لو تركها لصاحبها أفضل فأخذها لصاحبها أفضل من تركها لأنه إذا خاف عليها الضيعة كان أخذها لصاحبها إحياء لمال المسلم معنى فكان مستحبا و الله تعالى أعلم .
و أما حالة الإباحة فهو أن لا يخاف عليها الضيعة فيأخذها لصاحبها و هذا عندنا و قال الشافعي C : إذا خاف عليها يجب أخذها و إن لم يخف يستحب أخذها و زعم أن الترك عند خوف الضيعة يكون تضييعا لها و التضييع حرام فكان الأخذ واجبا و هذا غير سديد لأن الترك لا يكون تضييعا بل هو امتناع من حفظ غير ملزم و الإمتناع من حفظ غير ملزم لا يكون تضييعا كالامتناع عن قبول الوديعة .
و أما حالة الحرمة فهو أن يأخذها لنفسه لا لصاحبها لما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يأوى الضالة إلا ضال ] و المراد أن يضمها إلى نفسه لأجل نفسه لا لأجل صاحبها بالرد عليه لأن الضم إلى نفسه لأجل صاحبها ليس بحرام و لأنه أخذ مال الغير إذنه لنفسه فيكون بمعنى الغضب و كذا لقطة البهيمة من الإبل و البقر و الغنم عندنا .
و قال الشافعي C : لا يجوز التقاطها أصلا واحتج بما روى أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ضالة الإبل ؟ فقال : [ ما لك و لها معها حذاؤها و سقاؤها ترد الماء و ترعى الشجر دعها حتى يلقاها ربها ] نهى عن التعرض لها و أمر بترك الأخذ فدل على حرمة الأخذ .
[ و لنا ما روى أن رجلا و جد بعيرا بالحرة فعرفه ثم ذكره لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فأمره أن يعرفه فقال الرجل لسيدنا عمر : قد شغلني عن ضيعتي فقال سيدنا عمر : أرسله حيث و جدته ] لأن الأخذ حال خوف الضيعة إحياء لمال المسلم فيكون مستحبا و حال عدم الخوف ضرب إحراز فيكون مباحا ما ذكرنا أما الحديث فلا حجة له فيه لأن المراد منه أن يكون صاحبه قريبا منه ألا ترى أنه قال عليه الصلاة و السلام : حتى يلقاها ربها و إنما يقال ذلك إذا كان قريبا أو كان رجاء اللقاء ثابتا و نحن به نقول و لا كلام فيه .
و الدليل عليه : أنه لما سأله عن ضالة الغنم قال : خذها فإنها لك أو لأخيك أو للذئب دعاء إلى الأخذ و نبه على المعنى و هو خوف الضيعة و أنه موجود في الإبل و النص الوارد فيها أولى أن يكون واردا في الإبل و سائر البهائم دلالة إلا أنه عليه الصلاة و السلام فصل بينهما في الجواب من حيث الصورة لهجوم الذئب على الغنم إذا لم يلقها ربها عادة بعيدا كان أو قريبا و كذلك الإبل لأنها تذب عن نفسها عادة .
هذا الذي ذكرنا حال ما قبل الأخذ و أما حال ما بعده : فلها بعد الأخذ حالان : في حالة هي أمانة و في حال هي مضمونة أما حالة الأمانة فهي أن يأخذها لصاحبها لأنه على سبيل الأمانة فكانت يده يد أمانة كيد المودع .
و أما حال الضمان فهي أن يأخذ لنفسه لأن المأخوذ لنفسه مغصوب و هذا لا خلاف فيه و إنما الخلاف في شيء آخر و هو أن جهة الأمانة إنما تعرف جهة الضمان إما بالتصديق أو بالإشهاد عند أبي حنيفة و عندهما بالتصديق أو باليمين حتى لو هلكت فجاء صاحبها و صدقه في الأخذ له لا يجب على الضمان بالإجماع و إن لم يشهد لأن جهة الأمانة قد ثبتت بتصديقه و إن كذبه في ذلك فكذا عند أبي يوسف و محمد أشهد أو لم يشهد و يكون القول قول الملتقط مع يمينه .
و أما عند أبي حنيفة فإن أشهد فلا ضمان عليه لأنه بالإشهاد ظهر أن الأخذ كان لصاحبه فظهر أن يده يد أمانة و إن لم يشهد يجب عليه الضمان و لو أقر الملتقط أنه أخذها لنفسه يجب عليه الضمان لأنه أقر بالغضب و المغضوب مضمون على الغاضب .
وجه قولهما : أن الظاهر أنه أخذه لا لنفسه لأن الشرع إنما مكنه من الأخذ بهذه الجهة فكان إقدامه على الأخذ دليلا على أنه أخذ بالوجه المشروع فكان الظاهر شاهدا له فكان القول قوله و لكن مع الحلف لأن القول قول الأمين مع اليمين و لأبي حنيفة C وجهان : أحدهما أن أخذ مال الغير بغير إذنه سبب لوجوب الضمان في الأصل إلا أنه كان الأخذ على سبيل الأمانة بأن أخذه لصاحبه فيخرج من أن يكون سببا و ذلك إنما يعرف بالإشهاد فإذا لم يشهد لم يعرف كون الأخذ لصاحبه فبقي الأخذ سببا في حق وجوب الضمان على الأصل .
و الثاني : أن الأصل أن عمل كل إنسان له لا لغيره بقوله سبحانه و تعالى : { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى } و قوله تعالى : { لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت } فكان أخذه اللقطة في الأصل لنفسه لا لصاحبها و أخذ مال الغير بغير إذنه لنفسه سبب لوجوب الضمان لأنه غضب و إنما يعرف الأخذ لصاحبها بالإشهاد فإذا لم يوجد تعين أن الأخذ لنفسه فيجب عليه الضمان .
و لو أخذ اللقطة ثم ردها إلى مكانها الذي أخذها منه لا ضمان عليه في ظاهر الرواية و كذا نص عليه محمد في الموطأ و بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا : هذا الجواب فيما إذا رفعها و لم يبرح عن ذلك المكان حتى و ضعها في موضعها فأما إذا ذهب بها عن ذلك المكان ثم ردها إلى مكانها يضمن و جواب ظاهر الرواية مطلق عن هذا التفصيل مستغن عن هذا التأويل .
و قال الشافعي C : يضمن ذهب عن ذلك المكان أو لم يذهب .
وجه قوله : أنه لما أخذها من مكانها فقد التزم حفظها بمنزلة قبول الوديعة فإذا ردها إلى مكانها فقد ضيعها بترك الحفظ الملتزم فأشبه الوديعة إذا ألقاها المودع على قارعة الطريق حتى ضاعت .
و لنا : أنه أخذها محتسبا متبرعا ليحفظها على صاحبها فإذا ردها إلى مكانها فقد فسخ التبرع من الأصل فصار كأنه لم يأخذها أصلا و به تبين أنه لم يلزم الحفظ و إنما تبرع به و قد رده بالرد إلى مكانها فارتد و جعل كأن لن يكن .
هذا إذا كان أخذها لصاحبها ثم إلى مكانها فضاعت و صدقه صاحبها فيه أو كذبه لكن الملتقط قد كان أشهد على ذلك فإن كان لم يشهد يجب عليه الضمان عند أبي حنيفة و عندهما لا يجب أشهد أو لم يشهد و يكون القول مع يمينه أنه أخذها لصاحبها على ما ذكرنا .
ثم تفسير الإشهاد على اللقطة : أن يقول الملتقط : بمسمع من الناس إني التقطت لقطة أو عندي لقطة فأي الناس أنشدها فدلوه علي أو يقول : عندي شيء فمن رأيتموه يسأل شيئا فدلوه علي فإذا قال ذلك ثم جاء صاحبها فقال الملتقط : قد هلكت كان القول قوله و لا ضمان عليه بالإجماع و إن كان عنده عشر لقطات لأن اسم الشيء و اللقطة منكرا إن كان يقع على شيء واحد و لقطة واحدة لغة لكن في مثل هذا الموضع يراد بها كل الجنس في العرف و العادة لا فرد من الجنس إذ المقصود من التعريف إصال الحق إلى المستحق و مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف و المعتاد فكان هذا إشهادا على الكل بدلالة العرف و العادة و لو أقر أنه كان أخذها لنفسه لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك لأنه ظهر أنه أخذها غصبا فكان الواجب عليه الرد إلى المالك لقوله عليه الصلاة و السلام : [ على اليد ما أخذت حتى ترده ] فإذا عجز عن رد العين يجب عليه بدلها كما في الغصب .
و كذلك إذا أخذ الضالة ثم أرسلها إلى مكانها الذي أخذها منه فحكمها حكم اللقطة لأن هذا أحد نوعي اللقطة و قد روينا في هذا الباب عن سيدنا عمر Bه أنه قال لواجد البعير الضال : أرسله حيث وجدته و هذا يدل على انتفاء و جوب الضمان