صفاة القسمة .
فصل : و أما صفات القسمة فأنواع .
منها : أن تكون عادلة غير جائرة و هي : أن تقع تعديلا للأنصباء من غير زيادة على القدر المستحق من النصيب و لا نقصان عنه لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء و مبادلة البعض ومبنى المبادلات على المراضاة فإذا و قعت جائرة لم يوجد التراضي و لا إفراز نصيبه بكماله لبقاء الشركة في البعض فلم تجز و تعاد .
و على هذا إذا ظهر الغلط في القسمة المبادلة بالبينة أو بالإقرار تستأنف لأنه ظهر أنه لم يستوف حقه فظهر أن معنى القسمة لم يتحقق بكماله و لو ادعى أحد الشريكين الغلط في القسمة فهذا لا يخلو من أحد وجهين : إما إن كان المدعي أقر باستيفاء حقه و إما إن كان لم يقر بذلك فإن كان قد أقر باستيفاء حقه لا يسمع منه دعوى الغلط لكونه مناقضا في دعواه لأن الإقرار باستيفاء الحق إقرار بوصول حقه إليه بكماله و دعوى الغلط إخبار أنه لم يصل إليه حقه بكماله فيتناقض و إن كان لم يقر باستيفاء حقه لا تعاد القسمة بمجرد الدعوى لأن القسمة قد صحت من حيث الظاهر فلا يجوز نقضها إلا بحجة فإن أقام البينة أعيدت القسمة لما قلنا و إن لم تقم له بينة و أنكر شريكه فأراد استحلافه حلفة على ما ادعى من الغلط لأنه يدعي عليه حقا هو جائز الوجود و العدم و هو ينكر فيحلف .
و بيان ذلك : دار بين رجلين اقتسما و استوفى كل واحد منهما حقه ثم ادعى أحدهما غلطا في القسمة لا تعاد القسمة و لكن يسأل البينة على الغلط فإن أقام البينة و إلا فيحلف شريكه إن شاء لما قلنا فإن حلف أحد الشريكين و نكل الأخر فإن كان الشركاء ثلاثة يجمع بين نصيب المدعي و بين نصيب الناكل فيقسم بينهما على قدر نصيبهما لأن نكوله دليل كون المدعي صادقا في دعواه في حقه فكان حجة في حقه لا في حق الشريك الحالف فلم تصح القسمة في حقهما فتعاد في قدر نصيبهما .
و كذلك لو ادعى الغلط بعد القسمة و القبض في المكيلات و الموزونات و المذروعات و لو كان بين رجلين داران اقتسماها فأخذ كل واحد منهما دارا ثم ادعى أحدهما الغلط في القسمة و أقام البينة على ذلك فالقسمة باطلة عند أبي حنيفة عليه الرحمة و عندهما لا تبطل و لكن يقضي للمدعي بذلك الذرع من الدار الأخرى و بنوا هذه المسألة على بيع ذراع من دار أنه لا يجوز عنده و عندهما جائز .
و وجه البناء : أن قسمة الجمع في الدور بالتراضي جائزة بلا خلاف و معنى المبادلة و إن كان لازما في نوعي القسمة لكن هذا النوع بالمبادلات أشبه و إذا تحققت المبادلة صح البناء و الله سبحانه و تعالى أعلم و لو اقتسما دارا بينهما فأخذ كل واحد منهما طائفة ثم ادعى أحدهما بيتا في يد صاحبه أنه وقع في قسمته و أقام بينة سمعت بينته و إن أقاما جميعا البينة أخذت بينة المدعي لأنه خارج و إن كان قبل الإشهاد و القبض تحالفا و ترادا و كذا لو اختلفا في الحدود فادعى كل واحد منهما حدا في يد صاحبه أنه أصابه و أقام البينة قضى لكل واحد منهما بالحد الذي في يد صاحبه لأن كل واحد منهما عما في يد صاحبه خارج .
و إن قامت لأحدهما بينة يقضي ببينته و إن لم تقم لهما بينة تحالفا و هل ينفسخ العقد بنفس التحالف أم يحتاج فيه إلى فسخ القاضي ؟ اختلف المشايخ فيه على ما عرف في البيوع .
و لن اقتسم رجلان أقرحة فأخذ أحدهما قراحين و الآخر أربعة ثم ادعى صاحب القراحين أن أحد الأقرحة الأربعة أصابه في قسمته و أقام البينة قضي له به لما قلنا و كذلك هذا في أثواب اقتسماها فأخذ كل واحد بعضهما ثم ادعى أحدهما أن أحد الأثواب الذي في يد صاحبه أصابه في قسمته و أقام البينة قضي له به .
و لو ادعى كل واحد منهما على صاحبه ثوبا مما في يده أنه أصابه في قسمته و أقام البينة قضى لكل واحد منهما بما في يد الآخر لأن كل واحد منهما عما في يد صاحبه خارج و لو اقتسما مائة شاة فأصاب أحدهما خمسة و خمسين و أصاب الآخر خمسة و أربعين ثم ادعى صاحب الأوكس الغلط في القسمة أو الخطأ في التقويم لم تقبل منه إلا ببينة .
و لو قال : أخطأنا في العدد و أصاب كل واحد منا خمسين و هذه الخمسة في قسمته و أنكر الآخر تحالفا و إن أقام كل واحد منهما البينة ردت القسمة و لو قال أحدهما لصاحبه : أخذت أنت إحدى و خمسين غلطا و أخذت أنا تسعة و أربعين و قال الآخر : ما أخذت إلا خمسين فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر لاستيفاء الزيادة على حقه و الله تعالى أعلم .
و على هذا الأصل تخرج قسمه عرصة الدار بالذراع أنه يحسب في القسمة كل ذراعين من العلو بذراع من السفل عند أبي حنيفة و عند أبي يوسف يحسب ذراع من السفل بذراع من العلو و عند محمد بحسب على القيمة دون الذراع زعم كل واحد منهم أن التعديل فيما يقوله و الخلاف في هذه المسألة بين أبي حنيفة و بين أبي يوسف مبني علىالخلاف في مسألة أخرى و هي أن صاحب العلو ليس له أن يبني على العلو من غير رضا صاحب السفل و إن لم يضر بصاحب السفل من حيث الظاهر عند أبي حنيفة و عند أبي يوسف له أن يبني إن لم يضر البناء به و وجه البناء أن صاحب العلو إذا لم يملك البناء على علوه عند أبي حنيفة C كان للعلو منفعة واحدة و هي منفعة السكنى فحسب و للسفل منفعتان : منفعة السكنى و منفعة البناء عليه و كذا السفل كما يصلح للسكنى يصلح لجعل الدواب فيه فأما العلو فلا يصلح إلا للسكنى خاصة فكان للسفل منفعتانو للعلو منفعتان و للعلو منفعة واحدة فكانت القسمة عنده على الثلث و الثلثين و عند أبي يوسف لما ملك صاحب العلو أن يبني على علوه كانت له منفعتان ايضا فاستوى العلو و السفل في المنفعة فوجب التعديل بالسوية بينهما في الذرع .
و أما محمد فإنما اعتبر القيمة لأن أحوال البلاد و أهلها في ذلك مختلفة فمنهم من يختار السفل على العلو و منهم من يختار العلو على السفل فكان التعديل في اعتبار القيمة و العمل في المسألة على قول محمد C و هو اختيار الطحاوي C .
و يحتمل أن أبا حنيفة إنما فضل على العلو بناء على عادة أهل الكوفة من اختيارهم السفل على العلو و أبو يوسف إنما سوى بينهما على عادة أهل بغداد لاستواء العلو و السفل عندهم فأخرج كل واحد منهما الفتوى على عادة أهل زمانه و محمد بنى الفتوى علىالمعلوم من اختلاف العادات باختلاف البلدان فكان الخلاف بينهم من حيث الصورة لا من حيث المعنى و الله أعلم .
و بيان ذلك في سفل بين رجلين و علو من بيت آخر بينهما أراد قسمتهما يقسم البناء علىالقيمة بلا خلاف و أما العرصة فتقسم بالذراع عند أبي حنيفة و أبي يوسف و عند محمد بالقيمة ثم اختلف أبو حنيفة و أبو يوسف فيما بينهما في كيفية القسمة بالذرع فعند أبي حنيفة ذراع بذراعين على الثلث و الثلثين و عند أبي يوسف ذراع بذراع .
و لو كان بينهما بيت تام علو و سفل و علو من بيت آخر فعند أبي حنيفة يحسب في القسمة كل ذراع من العلو و السفل بثلاثة أذرع من العلو أرباعا عنده لما ذكرنا من الأصل فكانت القسمة أرباعا و عند أبي يوسف ذراع من السفل و العلو بذراعين من العلو لاستواء السفل و العلو عنده فكانت القسمة أثلاثا و لو كان بينهما بيت تام سفل و علو سفل أخر فعند أبي حنيفة يحسب في القسمة كل ذراع من السفل و العلو بذراع و نصف من السفل و ذراع من سفل البيت بذراع من السفل الآخر و ذراع من علوه بنصف ذراع من السفل الاخر و عند أبي يوسف ذراع من التام بذراعين من السفل و الله تعالى أعلم .
و على هذا الأصل يخرج ما إذا اقتسما دارا وفضلا بعضها على بعض بالدراهم أو الدنانير لفضل قيمة البناء و الموضع أن القسمة جائزة لأنها وقعت عادلة من حيث المعنى لأن الدار قد يفضل بعضها على بعض بالبناء و الموضع فكان ذلك تفضيلا من حيث الصورة تعديلا من حيث المعنى و لو لم يسميا قيمة فضل البناء وقت القسمة جازت القسمة استحسانا وتجب قيمة فضل البناء و إن لم يسمياها في القسمة .
و القياس : أن لا تجوز القسمة لأن هذه قسمة بعض الدار دون بعض لأن العرصة مع البناء بمنزلة شيء واحد و قسمة البناء بالقيمة فإذا وجدت القسمة مجهولة فوقعت القسمة للعرصة دون البناء بقيت و إنها غير جائزة .
وجه الاستحسان : أن قسمة العرصة قد صحت بوقعها في محلها و هو الملك و لا صحة لها إلا بقسمة البناء و ذلك بالقيمة فتجب على صاحب الفضل قيمة فضل البناء و إن لم يسم ضرورة صحة القسمة و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و على هذا الأصل تخرج أيضا قسمة الجمع في الأجناس المختلفة إنها غير جائزة جبرا بالإجماع لتعذر تعديل الأنصباء إلا بالقيمة و إنها ليست محل القسمة على ما مر و لا يجوز في الرقيق و الدور عند أبي حنيفة C لأنها في حكم الأجناس المختلفة و لا تقع القسمة فيها عادلة أو جائزة و لا تقسم الأولاد في بطون الغنم لتعذر التعديل .
و على هذا يخرج رد المقسوم بالعيب في نوعي القسمة لأنه إذا ظهر به عيب فقد ظهر أنها وقعت جائزة لا عادلة فكان له حق الرد بالعيب كما في البيع و لو امتنع الرد بالعيب لوجود المانع منه يرجع بالنقصان كما في البيع إلا أن في البيع بتمام النقصان و في القسمة يرجع بالنصف لأن النقصان في القسمة يرجع بالنصيبين جميعا فيرجع بنصف النقصان من نصيب شريكه .
و أما الرد يختار الرؤية و الشرط فيثبت قسمة الرضا لأن القسمة فيها معنى المبادلة و هذا النوع أشبه بالمبادلات لوجود المراضاة من الجانبين فيثبت فيه خيار الرؤية كما في البيع و لا يثبت في قسمة القضاء لا لخلوها عن المبادلة بل لعدم الفائدة لأنه لو ردها بخيار الرؤية و الشرط لأجبره القاضي ثانيا فلا يفيد و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و لا تجب الشفعة في القسمة لأن حق الشفعة يتبع المبادلة المحضة لثبوتها على مخالفة القياس و القسمة مبادلة من وجه فلا تحتمل الشفعة و لأنها لو وجبت لا يخلو إما أن تجب للشريك أو للجار لا سبيل إلى الأول لأن الشفعة تجب لغير البائع و المشتري و لا سبيل إلى الثاني لأن الشريك أولى من الجار و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و منها : الوجوب عند الطلب حتى يجبر على القسمة فيما ينتفع كل واحد من الشريكين بقسمته و كذا فيما ينتفع بها أحدهما و يستضر الآخر عند طلب المنتفع بالإجماع و عند طلب المستضر اختلاف روايتي الحاكم و القدوري رحمهما الله و قد ذكرناه و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و منها : للزوم بعد تمامها في النوعين جميعا حتى لا يحتمل الرجوع عنها إذا تمت و أما قبل التمام فكذلك في أحد نوعي القسمة و هو قسمة القضاء دون النوع الآخر و هو قسمة الشركاء .
بيان ذلك : أن الدار إذا كانت مشتركة بين قوم فقسمها القاضي أو الشركاء بالتراضي فخرجت السهام كلها بالقرعة لا يجوز لهم الرجوع و كذا إذا خرج الكل إلا سهم واحد لأن ذلك خروج السهام كلها لكون ذلك السهم متعينا بمن بقي من الشركاء و إن خرج بعض السهام دون البعض فكذلك في قسمة القضاء لأنه لو رجع أحدهم لأجبره القاضي على القسمة ثانيا فلا يفيد رجوعه و أما في قسمة التراضي فيجوز الرجوع لأن قسمة التراضي لا تتم إلا بعد خروج السهام كلها و كل عاقد بسبيل من الرجوع عن العقد قبل تمامه كما في البيع و نحوه و الله سبحانه و تعالى أعلم