بيان ما يصير به المولى مختارا للفداء وبيان صحة الاختيار .
وأما بيان ما يصير به المولى مختارا للفداء وبيان صحة الاختيار فنقول : ما يصير به المولى مختارا للفداء نوعان : نص ودلالة أما النص فهو الصريح بلفظ الاختيار وما يجري مجراه نحو أن يقول اخترت الفداء أو آثرته أو رضيت به ونحو ذلك سواء كان المولى موسرا أو معسرا في قول أبي حنيفة Bه فيسار المولى ليس بشرط لصحة الاختيار عنده حتى لو اختار الفداء ثم تبين أنه فقير معسر صح اختياره وصارت الدية دينا عليه .
وعندهما يسار المولى شرط صحة اختياره الفداء ولا يصح اختياره إذا كان معسرا إلا برضا الأولياء ويقال له إما أن تدفع أو تفدي حالا كذا ذكر الاختلاف في ظاهر الرواية .
وذكر الطحاوي قول محمد مع قول أبي حنيفة في جواز الاختيار وقال : إلا أن عند محمد الدية تكون .
في عين العبد لولي الجارية يبيعه فيها المولى لولي الجناية وهكذا روي عن أبي يوسف .
وجه قولهما : أن الحكم الأصلي لهذه الجناية هو لزوم الدفع وعند الاختيار ينتقل إلى الذمة فيتقيد الاختيار بشرط السلامة ولا سلامة مع الإعسار فلا ينتقل إليها فيبقى العبد واجب الدفع و لأبي حنيفة C : أن العزيمة ما قالا وهو وجوب الدفع لكن الشرع رخص له الفداء عند الاختيار والإعسار لا يمنع صحة الاختيار لأنه لا يقدح في الأهلية والولاية وقد وجد الاختيار مطلقا عن شرط السلامة فلا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل .
وأما الدلالة فهي أن يتصرف المولى في العبد تصرفا يفوت الدفع أو يدل على إمساك العبد مع العلم بالجناية فكل تصرف يفوت الدفع أو يدل على إمساك العبد مع العلم بالجناية يكون اختيار للفداء لأن حق المجني عليه متعلق بالعبد وهو حق الدفع وفي تفويت الدفع تفويت حقه والظاهر أن المولى لا يرضى بتفويت حقه مع العلم بذلك إلا بما يقوم مقامه وهو الفداء فكان إقدامه عليه اختيارا للفداء وعلى هذا الأصل يخرج المسائل إذا باع العبد بيعا باتا وهو عالم بالجناية صار مختارا لأنه تصرف مزيل للملك فيفوت الدفع وكذا إذا باع بشرط خيار المشتري .
أما على أصلهما فلا يشكل لأن المبيع دخل في ملك المشتري وأما على أصل أبي حنيفة فلأن خيار المشتري إن كان يمنع دخول المبيع في ملكه فلا يمنع زواله عن ملك البائع وهذا يكفي دلالة الاختيار لأنه يفوت الدفع .
ولو باع على أنه بالخيار فإن مضت مدة الخيار قبل مضي المدة كان مختارا لأن البيع انبرم قبل الدفع ولو نقض البيع لم يكن مختارا لأن الملك لم يزل فلم يفت الدفع ولو عرض العبد على البيع لم يكن ذلك اختيارا عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وقال زفر C يكون اختيارا .
وجه قوله : أن العرض على البيع دليل استيفاء الملك ألا ترى أن المشتري بشرط الخيار إذا عرض المشتري على البيع بطل اختياره فكان دليل إمساك العبد لنفسه وذلك دليل اختيار الفداء لما بينا .
ولنا : أن العرض على البيع لا يوجب زوال الملك فلا يفوت الدفع وليس دليل إمساك العبد أيضا بل هو دليل الإخراج من الملك فلا يصلح دليل اختيار الفداء ولو باعه بيعا فاسدا لم يكن مختارا حتى يسلمه إلى المشتري لأن الملك لا يزول قبل التسليم فلا يفوت الدفع .
ولو وهبه من إنسان وسلمه إليه صار مختارا لأن الهبة والتسليم يزيلان الملك فيفوت الدفع ولو كانت الجناية فيما دون النفس فوهبه المولى من المجني عليه لا يصير مختارا ولا شيء على المولى ولو .
باعه من المجني عليه كان مختارا لأن التسليم بالهبة في معنى الدفع لأن كل واحد منهما تمليك بغير عوض فوقعت الهبة موقع الدفع بخلاف البيع لأنه تمليك بعوض والدفع تمليك بغير عوض فلا يقوم مقامه فكان .
الإقدام على البيع منه اختيارا للفداء وكذلك لو تصدق به على إنسان أو على المجني عليه فهو والهبة سواء لأن كل واحد منهما تمليك بغير عوض .
ولو أعتقه أو دبره أو كانت أمة فاستولدها وهو عالم بالجناية صار مختارا لأن هذه التصرفات تفوت الدفع إذ الدفع تمليك وإنها تمنع من التمليك فكانت اختيارا للفداء ولو كانت جناية العبد فيما دون النفس فأمر المولى المجني عليه بإعتاقه وهو عالم بالجناية صار المولى مختارا للفداء لأن إعتاقه بأمره مضاف إليه فكان دليل اختيار الفداء كما لو أعتق بنفسه .
ولو قال لعبده إن قتلت فلانا فأنت حر فقتله صار مختارا للفداء عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وعند زفر C لا يكون مختارا .
وجه قوله أنه إنما صار معتقا بالقول السابق وهو قوله أنت حر ولا جناية عند ذلك وبعد وجود الجناية لا إعتاق فكيف يصير مختارا .
ولنا : أن المعلق بالشرط يصير منجزا عند وجود الشرط بتنجيز مبتدأ كأنه قال له بعد وجود الجناية : أنت حر .
ونظيره إذا قال لامرأته وهو صحيح : إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا فمرض حتى وقع الطلاق عليها يصير فارا عن الميراث حتى ترثه المرأة وإن كان التعليق في حالة الصحة لما قلنا كذا هذا ولو أخبر المولى .
إنسان أن عبده قد جنى فأعتقه فإن صدقه ثم أعتقه صار مختارا للفداء بلا خلاف وإن كذبه فأعتقه لا يصير مختارا عند أبي حنيفة C ما لم يكن المخبر رجلان أو رجل واحد عدل وعندهما يصير مختارا للفداء ولا يشترط العدد في المخبر ولا عدالته وقد ذكرنا المسألة في كتاب الوكالة .
ولو كاتبه وهو عالم بالجناية صار مختارا اختيارا على التوقف لفوات الدفع في الحال على التوقف فإن أدى بدل الكتابة فعتق تقرر الاختيار وإن عجز ورد في الرق ينظر في ذلك إن خوصم قبل أن يعجز فقضى بالدية ثم عجز لا يرتفع القضاء لأن الدية كانت وجبت بالكتابة من حيث الظاهر وتقرر الوجوب باتصال القضاء به وإن لم يخاصم حتى عجز كان للمولى أن يدفعه لأن الدفع كان لم يثبت على القطع والبتات لاحتمال أن يعجز فإن عجز جعل كأن الكتابة لم تكن فكان له أن يدفعه .
وروي عن أبي يوسف : أنه يصير مختارا بنفس الكتابة لتعذر الدفع بنفسها لزوال يده عنه ثم عادت إليه بسبب جديد وهو العجز ولو كاتبه كتابة فاسدة كان ذلك اختيارا منه بخلاف البيع الفاسد أنه لا يكون اختيارا بدون التسليم لأن الكتابة الفاسدة وهي تعلق العتق بالأداء تثبت بنفس العقد والبيع الفاسد لا يفيد الحكم بنفسه بل بواسطة التسليم .
وأما الإجارة والرهن والتزويج بأن زوج العبد الجاني امرأة أو زوج الأمة الجانية إنسانا فهل يكون اختيارا ؟ .
ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يكون اختيارا لأن الدفع لم يفت لأن الملك قائم فكان الدفع ممكنا في الجملة وذكر الطحاوي C أنه يكون اختيارا لأن الدفع للحال متعذر فأشبه البيع والتزويج تعييب فأشبه التعييب حقيقة ولو أقر به لغيره لا يكون مختارا كذا ذكر في الأصل لأن الإقرار به لغيره لا يفوت الدفع لأن المقر مخاطب بالدفع أو الفداء .
وذكر الكرخي C في مختصره أنه يكون مختارا لأن إقراره به لغيره في معنى التمليك منه إذ العبد ملكه من حيث الظاهر لوجود دليل الملك وهو اليد فإذا اقر به لغيره فكأنه ملكه منه .
ولو قتله المولى صار مختارا لأنه فوت الدفع بالقتل ولو قتله أجنبي فإن كان عمدا بطلت الجناية وللمولي أن يقتله قصاصا لأنه فات محل الدفع لا إلى خلف هو مال فتبطل الجناية وإن كان خطا يأخذ المولى القيمة ويدفعها إلى ولي الجناية ولا يخير المولى في القيمة على ما بينا فيما تقدم .
ولو لم يقتله المولى ولكن عيبه بأن قطع يده أو فقأ عينه أو جرحه جراحة أو ضربه ضربا أثر فيه ونقصه وهو عالم بالجناية صار مختارا للفداء لأنه بالنقصان حبس عن المجني عليه جزأ من العبد وحبس الكل دليل اختيار الفداء لأنه دليل إمساك العبد لنفسه فكذا حبس الجزء ولأن حكم الجزء حكم الكل والله سبحانه أعلم .
ولو ضرب المولى عينه فابيضت وهو عالم بالجناية حتى جعل مختارا ثم ذهب البياض فإن ذهب قبل أن يخاصم فيه بطل الاختيار ويؤمر بالدفع أو الفداء لأنه إنما جعل مختارا لأجل النقصان وقد زال فجعل كأن ذلك لم يكن وإن خوصم في حال البياض فضمنه القاضي القيمة ثم زال البياض فقضاء القاضي نافذ لا يرد ولا يبطل اختياره لأن اختياره وقع صحيحا ووجب الدين وقد استقر باتصال القضاء به وإن استخدمه وهو عالم بالجناية لا يصير مختارا للفداء لأنه لا يفوت الدفع بالاستخدام لقيام الملك وكذا الاستخدام لا يختص بالملك ولهذا لا يبطل به خيار الشرط فلا يكون دليلا على إمساك العبد لنفسه فإن عطب في الخدمة فلا ضمان عليه وبطل حق ولي الجناية لأن الاستخدام ليس باختيار لما بينا ولم يوجد منه تصرف آخر يدل على الاختيار فصار كأنه عطب قبل الاستخدام .
ولو كان الجاني أمة فوطئها المولى فإن كانت بكرا فقد صار مختارا لأنه فوت جزأ منها حقيقة بإزالة البكارة وهي إزالة العذرة وإن كانت ثيبا فإن علقت منه صار مختارا وإن لم تعلق لا يصير مختارا وهذا جواب ظاهر الرواية .
وروي عن أبي يوسف : أنه يصير مختارا سواء علقت منه أو لم تعلق وجه هذه الرواية أن حل الوطء لا بد له من الملك إما ملك النكاح أو ملك اليمين ولم يوجد ههنا ملك النكاح فتعين ملك .
اليمين لثبوت الحال فكان إقدامه على الوطء دليلا على إمساكها لنفسه فكان دليل الاختيار .
وجه ظاهر الرواية : أن الوطء ليس إلا استيفاء منفعة البضع وأنه لا يوجب نقصان العين حقيقة لأن منفعة البضع لا جزأ من العين حقيقة إلا أنها ألحقت بالأجزاء وقدر النقصان عند الاستيفاء في غير الملك .
إظهارا لخطر البضع والاستيفاء ههنا حصل في الملك فلا حاجة إلى الإلحاق فانعدم النقصان حقيقة وتقديرا ولو أذن له في التجارة فركبه دين لم يصر المولى مختارا وعليه قيمته .
أما عدم صيرورته مختارا فلأن الإذن لا يوجب تعذر الدفع لا قبل لحوق الدين ولا بعده وأما لزوم القيمة فلأن تعلق الدين برقبة العبد يوجب نقصانا فيه بسبب كان من جهة المولى وهو الإذن بالتجارة فتلزمه قيمته حين لو رضي ولي الجناية بقبوله مع النقصان لا شيء على المولى ثم جميع ما يصير به مختارا للفداء مما ذكرنا إذا فعله وهو عالم بالجناية فإن كان لم يعلم لم يكن مختارا سواء كانت الجناية على .
النفس أو على ما دون النفس لأن الاختيار ههنا اختيار الإيثار وإنه لا يتحقق بدون العلم بما يختاره وهو الفداء عن الجناية واختيار الفداء عن الجناية اختيار الإيثار واختيار الإيثار بدون العلم بالجناية محال ثم الجناية إن كانت على النفس فعليه الأقل من قيمة العبد ومن الدية وإن كانت على ما دون النفس فعليه الأقل من .
قيمته ومن الأرش لأنه فوت الدفع المستحق من غير اختيار الفداء فيضمن القيمة .
ولو باعه بيعا باتا وهو لا يعلم بالجناية فلم يخاصم فيها حتى رد العبد إليه بعيب بقضاء القاضي أو بخيار رؤية أو شرط يقال له ادفع أو افد لأنه إذا لم يعلم بالجناية لم يصر مختارا لما بينا ولو كان بعد العلم .
فعليه الفداء لأنه إذا باعه بعد العلم بالجناية فقد صار مختارا للفداء لتعذر الدفع لزوال ملكه بالبيع فلا يعود بالرد وهذا مشكل لأن الرد بهذه الأشياء فسخ للعقد من الأصل وسيتضح المعنى فيه إن شاء الله تعالى .
ولو قطع العبد يد إنسان أو جرحه جراحة فخير فيه فاختار الدفع ثم مات من ذلك فالدفع على حاله لا يبطل لأن وجوب الدفع لا يختلف بالقتل والقطع لأنه يدفع في الحالين جميعا وإن اختار الفداء ثم مات .
يبطل الاختيار ثم يخير ثانيا عند محمد استحسانا وهو قول أبي يوسف الأول والقياس أن لا يبطل وعليه الدية وهو قول أبي يوسف الأخير ولم يذكر في ظاهر الرواية قول أبي حنيفة C وذكر الطحاوي قوله مثل قول محمد .
ولو كان اختار الفداء بالإعتاق بأن عتق العبد للحال حتى صار مختارا للفداء ثم مات المجني عليه لا يبطل الاختيار ويلزمه جميع الدية قياسا واستحسانا .
وجه القياس : أن المولى لما اختار الفداء عن أصل الجناية فقد صح اختياره ولزمه موجبها وبالسراية لم يتغير أصل الجناية وإنما تغير وصفها والوصف تبع للأصل فكان اختيار الفداء عن المتبوع اختيارا عن .
التابع .
وجه الاستحسان : أن اختيار الفداء عن القطع لما سرى إلى النفس ومات فقد صار قتلا وهما متغايران فاختيار الفداء عن أحدهما لا يكون اختيارا عن الآخر فيخير اختيارا مستقبلا بخلاف ما إذا كان الاختيار بالإعتاق لأن إقدامه على الإعتاق مع علمه أنه ربما يسري إلى النفس فيلزمه كل الدية ولا يمكنه الدفع بعد الإعتاق دلالة اختيار الكل والرضا به وهذا المعنى لم يوجد ههنا لأنه لم يرض بالزيادة على ما كان ثابتا وقت الاختيار والعبد للحال محل للدفع والله سبحانه وتعالى أعلم