فصل : ما يجب فيه أرش غير مقدر .
وأما الذي يجب فيه أرش غير مقدر وهو المسمى بالحكومة فالكلام في مواضع : في بيان الجنايات التي تجب فيها الحكومة وفي تفسير الحكومة أما الأول : فالأصل فيه أن ما لا قصاص في من الجنايات على ما دون النفس وليس له أرش مقدر ففيه الحكومة لأن الأصل في الجناية الواردة على محل معصوم اعتبارها بإيجاب الجابر أو الزاجر ما أمكن .
إذا عرف هذا فنقول : في كسر العظام كلها حكومة عدل إلا السن خاصة لأن استيفاء القصاص بصفة المماثلة فيما سوى السن متعذر ولم يرد الشرع فيه بأرش مقدر فتجب الحكومة وأمكن استيفاء المثل في السن والشرع ورد فيها بأرش مقدر أيضا فلم تجب فيها الحكومة .
وفي لسان الأخرس والعين القائمة الذاهب نورها والسن السوداء القائمة واليد الشلاء والرجل الشلاء وذكر الخصي والعنين حكومة عدل لأنه لا قصاص في هذه الأشياء وليس فيها أرش مقدر أيضا لأن المقصود ههنا المنفعة ولا منفعة فيها ولا زينة أيضا لأن العين القائمة الذاهب نورها لا جمال فيها عند من يعرفها على أن المقصود من هذه الأشياء المنفعة ومعنى الزينة فيها تابع فلا يتقدر الأرش لأجله وفي الأصبع والسن الزائدة حكومة عدل لأنه لا قصاص فيها وليس لها أرش مقدر أيضا لانعدام المنفعة والزينة لكنها جزء من النفس وأجزاء النفس مضمونة مع عدم المنفعة والزينة لما ذكرنا .
وأما الصغير الذي لم يمش ولم يقعد ورجله ولسانه وأذنه وأنفه وعينه وذكره ففي أنفه وأذنه كمال الدية وكذلك في يديه ورجليه إذا كان يحركهما وكذا في ذكره إذا كان يتحرك وفي لسانه حكومة العدل لا الدية وإن استهل ما لم يتكلم لأن الاستهلال صياح .
وأما العينان : فإن كان يستدل بشيء على بصرهما ففيهما مثل عين الكبير وإنما كان كذلك .
أما الأنف والأذن فلأن المقصود منهما الجمال لا المنفعة وذلك يوجد في الصغير بكماله كما يوجد الكبير .
وأما الأعضاء التي يقصد بها المنفعة فلا يجب فيها أرش كامل حتى يعلم صحتها بما ذكرنا فإذا علم ذلك فقد وجود تفويت منفعة الجنس في كل واحد من ذلك فيجب فيه أرش كامل فإذا لم يعلم يقع الشك في وجود سبب وجوب كمال الأرش فلا يجب بالشك ولا يقال إن الأصل هو الصحة والآفة عارض فكانت الصحة ثابتة ظاهرا لأنا لا نسلم هذا الأصل في الصغير بل الأصل فيه عدم الصحة والسلامة لأنه كان نطفة وعلقة ومضغة فما لم يعلم صحة العضو فهو على الأصل على أن هذا الأصل متعارض لأن براءة ذمة الجاني أصل أيضا فتعارض الأصلان فسقط الاحتجاج بالأصل على الصحة على أن الصحة إن كانت ثابتة ظاهرا بحكم الأصل لأن الظاهر حجة الدفع لا حجة الاستحقاق كحياة المفقود أنها تصلح لنفع الإرث لا لاستحقاقه وفي الظفر إذا نبت لا شيء فيه في قول أبي حنيفة Bه لأنه عادت المنفعة والزينة وإن مات ففيه حكومة عدل لأنه لا قصاص فيه ولا له أرش مقدر وكذا إذا نبت على عيب ففيه حكومة عدل دون ذلك لأن النابت عوض عن الذاهب فكان الأول قائم ودخله عيب وكذلك قال أبو يوسف C : إذا نبت أسودان فيه حكومة لما أصاب من الألم بالجراحة الأولى بناء على أصله أن الألم مضمون .
وفي ثدي الرجل حكومة البدل لأنه لا قصاص فيه ولا أرش مقدر لأنه لا منفعة فيه ولا جمال فتجب الحكومة فيهما وفي أحدهما نصف ذلك الحكم وفي حلمة ثدييه حكم عدل دون ما في ثدييه لما قلنا .
وثدي المرأة في للحلمة حتى لو قطع الحلمة ثم الثدي فإن كان في البرئ لا يجب إلا نصف الدية وإن كان بعد البرئ يجب نصف الدية في الحلمة والحكومة في الثدي لأن منفعة الثدي الرضاع وذلك يبطل بقطع الحلمة وكذلك الأنف مع المارن حتى لو قطع المارن دون الأنف تجب الدية ولو قطع مع المارن لا تجب إلا دية واحدة .
ولو قطع المارن ثم الأنف فإن كان قبل البرء تجب دية واحدة وإن كان بعد البرء ففي المارن الدية وفي الأنف الحكومة وكذلك الجفن مع الأشفار حتى لو قطع الشفر بدون الجفن يجب الأرش المقدر ولو قطع .
الجفن معه لا يجب ذلك الأرش كالكف مع الأصابع .
ولو قطع الشفر ثم الجفن فإن كان قبل البرء فكذلك وإن كان بعد البرء يجب في الشفر أرشه وفي الجفن الحكومة لأنه قطع الشفر وهو كامل المنفعة وقطع الجفن وهو ناقص المنفعة فلا يجب إلا الأرش الناقص وهو الحكومة ولو قطع أنفا مقطوع الأرنبة ففيه حكومة العدل لأن المقصود من الأنف الجمال وقد نقص جماله بقطع الأرنبة فينتقص أرشه وكذلك إذا قطع كفا مقطوعة الأصابع لأن المقصود من الكف البطش وإنه لا يحصل بدون الأصابع وكذلك إذا قطع ذكرا مقطوع الحشفة لأن منفعة الذكر تزول بزوالها فلا يمكن إيجاب أرش مقدر ولا قصاص فيه فتجب الحكومة .
ولو قطع الذكر والأنثيين فإن قطعهما معا بأن قطعهما من جانب عرضا يجب ديتان لأنه فوت منفعة .
الجماع بقطع الذكر ومنفعة الإنزال بقطع الأنثيين فقد وجد تفويت منفعة الجنس في قطع كل واحد منهما فيجب في كل واحد منهما دية كاملة .
وإن قطع أحدهما بعد الآخر بأن قطعهما طولا فإن قطع الذكر أولا تجب ديتان أيضا دية بقطع الذكر لوجود تفويت منفعة الجماع ودية بقطع الأنثيين لأن بقطع الذكر لا تنقطع منفعة الأنثيين وهو الإنزال لأن الإنزال يتحقق مع عدم الذكر .
وإن بدأ بقطع الأنثيين ثم الذكر ففي الأنثيين الدية وفي الذكر حكومة العدل لأن منفعة الأنثيين كانت كاملة وقت قطعهما ومنفعة الذكر تفوت بقطع الأنثيين إذ لا يتحقق الإنزال بعد قطع الأنثيين فنقص أرشه ولو حلق رأس رجل فنبت أبيض فلا شيء فيه في قول أبي حنيفة Bه .
وقال أبو يوسف : فيه حكومة عدل وإن كان عبدا ففيه ما نقص : وجه قوله : إن المقصود من الشعر الزينة والزينة معتبرة في الأحرار ولا زينة في الشعر الأبيض فلا يقوم الثابت مقام الفائت .
وجه قول أبي حنيفة : أن الشيب في الأحرار ليس بعيب بل هو جمال وكمال فلا يجب به أرش بخلاف العبيد فإن الشيب فيهم عيب ألا يرى أنه ينقص الثمن فكان مضمونا على الجاني وفيما دون الموضحة من الشجاج حكومة عدل وكذا روي عن سيدنا عمر بن عبد العزيز C تعالى أنه قال : ما دون الموضحة خدوش فيها حكم عدل وكذلك روي عن إبراهيم النخعي C تعالى ولأنه لا قصاص فيه والشرع ما ورد فيه بأرش مقدر فتجب فيه الحكومة والخلاف الذي ذكرنا في المتلاحمة بين أبي يوسف و محمد رحمهما الله لا يرجع إلى المعنى بل إلى الاسم لأن أبا يوسف لا يمنع أن تكونا الشجه التي قبل الباضعة أقل منها أرشا وكذلك محمد لا يمنع أن تكون أرش الشجة التي ذهبت في اللحم أكثر مما ذهبت الباضعة زائدا على أرش الباضعة فكان الاختلاف بينهما في العبارة وفيما سوى الجائفة من الجراحات التي في البدن إذا اندمات ولم يبق لها أثر لا شيء فيها عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف رحمهما الله فيه أرش الألم وعند محمد C أجرة الطبيب وقد مرت المسألة وإن بقي لها أثر ففيها حكومة عدل وكذا في شعر سائر البدن إذا لم ينبت حكومة عدل وإن نبت لا شيء فيه والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما تفسير الحكومة فإن كان الجاني والمجني عليه عبدا يقوم العبد مجنيا عليه وغير مجني عليه فيجب نقصان ما بين القيمتين بلا خلاف وإن كان الجاني والمجني عليه حرا فقد ذكر الطحاوي C : أنه يقوم المجني عليه لو كان عبدا ولا جناية به ويقوم وبه الجناية فينظر كم بين القيمتين فعليه القدر من الدية .
وقال الكرخي C : تقرب هذه الجناية إلى أقرب الجنايات التي لها أرش مقدر فينظر ذوا عدل من أطباء الجراحات كم مقدار هذه ههنا في قلة الجراحات وكثرتها بالحزر والظن فيأخذ القاضي بقولهما ويحكم من الأرش بمقداره من أرش الجراحة المقدرة .
وجه ما ذكره الطحاوي C : أن القيمة في العبد كالدية في الحر فيقدر العبد حرا فما أوجب نقصا في العبد يعتبر به الحر وكان الكرخي C ينكر هذا القول ويقول : و هذا يؤدي إلى أمر فظيع وهو أن يجب في قليل الشجاج أكثر مما يجب في كثيرها لجواز أن يكون نقصان شجة السمحاق في العبد أكثر من نصف عشر قيمته فلو أوجبنا مثل ذلك من دية الحر لأوجبنا في السمحاق أكثر مما يوجب في الموضحة وهذا لا يصح والله سبحانه وتعالى أعلم