الجماعة من شروط الجمعة .
فصل في الجماعة : وأما الجماعة : فالكلام في الجماعة في مواضع : في بيان كونها شرطا للجمعة وفي بيان كيفية هذا الشرط وفي بيان مقداره وفي بيان صفة القوم الذين تنعقد بهم الجمعة .
أما الأول : فالدليل على أنها شرط أن هذه الصلاة تسمى جمعة فلا بد من لزوم معنى الجمعة فيه اعتبارا للمعنى الذي أخذ اللفظ منه من حيث اللغة كما في الصرف والسلم والرهن ونحو ذلك ولأن ترك الظهر ثبث بهذه الشريطة على ما مر ولهذا لم يؤد رسول الله صلى الله عليه و سلم الجمعة إلا بجماعة وعليه إجماع العلماء .
وأما بيان كيفية هذا الشرط فنقول : لا خلاف في أن الجماعة شرط لانعقاد الجمعة حتى لا تنعقد الجمعة بدونها حتى إن الإمام إذا فرغ من الخطبة ثم نفر الناس عنه إلا واحدا يصلي بهم الظهر دون الجمعة وكذا لو نفروا قبل أن يخطب الإمام فخطب الإمام وحده ثم حضروا فصلى بهم الجمعة لا يجوز لأن الجماعة كما هي شرط انعقاد الجمعة حال الشروع في الصلاة فهي شرط حال سماع الخطبة لأن الخطبة بمنزلة شفع من الصلاة .
قالت عائشة Bها : إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة فتشترط الجماعة حال سماعها كما تشترط حال الشروع في الصلاة واختلفوا في أنها هل هي شرط بقائها منعقدة إلى آخر الصلاة .
قال أصحابنا الثلاثة : إنها ليست بشرط وقال زفر : إنها شرط للانعقاد والبقاء جميعا فيشترط دوامها من أول الصلاة إلى آخرها كالطهارة وستر العورة واستقبال القبلة ونحوها حتى إنهم لو نفروا بعد ما قيد الركعة بالسجدة له أن يتم الجمعة عندنا وعند زفر : إذا نفروا قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد فسدت الجمعة وعليه أن يستقبل الظهر .
وجه قوله : أن الجماعة شرط لهذه الصلاة فكانت شرط الانعقاد والبقاء كسائر الشروط من الوقت وستر العورة واستقبال القبلة وهذا لأن الأصل فيما جعل شرطا للعبادة أن يكون شرطا لجميع أجزائها لتساوي أجزاء العبادة إلا إذا كان شرطا لا يمكن قرانه لجميع الأجزاء لتعذر ذلك أو لما فيه من الحرج كالنية فتجعل شرطا لانعقادها وهنا لا حرج في اشتراط دوام الجماعة إلى آخر الصلاة في حق الإمام لأن فوات هذا الشرط قبل تمام الصلاة في غاية الندرة فكان شرط الأداء كما هو شرط الانعقاد ولهذا شرط أبو حنيفة دوام هذا الشرط في ركعة كاملة وذا لا يشترط في شرط الانعقاد بخلاف المقتدي لأن استدامة هذا الشرط في حق المقتدي يوقعه في الحرج لأنه كثيرا ما يسبق بركعة أو ركعتين فجعل في حقه شرط الانعقاد لا غير .
وجه قول أصحابنا الثلاثة : أن المعنى يقتضي أن لا تكون الجماعة شرطا أصلا لا شرط الانعقاد ولا شرط البقاء لأن الأصل أن يكون شرط العبادة شيئا يدخل تحت قدرة المكلف تحصيله ليكون التكليف بقدر الوسع إلا إذا كان شرطا هو كائن لا محالة كالوقت لأنه إذا لم يكن كائنا لا محالة لم يكن للمكلف بد من تحصيله ليتمكن من الأداء ولا ولاية لكل مكلف على غيره فلم يكن قادرا على تحصيل شرط الجماعة فكان ينبغي أن لا تكون الجماعة شرطا أصلا إلا أنا جعلناها شرطا بالشرع فتجعل شرطا بقدر ما يحصل قبول حكم الشرع وذلك يحصل بجعله شرط الانعقاد فلا حاجة إلى جعله شرط البقاء وصار كالنية بل أولى لأن في وسع المكلف تحصيل النية لكن لما كان في استدامتها حرج جعل شرط الانعقاد دون البقاء دفعا للحرج فالشرط الذي لا يدخل تحت ولاية العباد أصلا أولى أن لا يجعل شرط البقاء فجعل شرط الانعقاد ولهذا كان من شرائط الانعقاد دون البقاء في حق المقتدي بالإجماع فكذا في حق الإمام ثم اختلف أصحابنا الثلاثة فيما بينهم فقال أبو حنيفة : إن الجماعة في حق الإمام شرط انعقاد الأداء لا شرط انعقاد التحريمة .
وقال أبو يوسف و محمد : إنها شرط انعقاد التحريمة حتى إنهم لو نفروا بعد التحريمة قبل تقييد الركعة بسجدة فسدت الجمعة ويستقبل الظهر عنده كما قال زفر وعندهما يتم الجمعة .
وجه قولهما : إن الجماعة شرط انعقاد التحريمة في حق المقتدي فكذا في حق الإمام والجامع أن تحريمة الجمعة إذا صحت صح بناء الجمعة عليها ولهذا لو أدركه إنسان في التشهد صلى الجمعة ركعتين عنده وهو قول أبي يوسف إلا أن محمدا ترك القياس هناك بالنص لما يذكر و لأبي حنيفة أن الجماعة في حق الإمام لو جعلت شرط انعقاد التحريمة لأدى إلى الحرج لأن تحريمته حينئذ لا تنعقد بدون مشاركة الجماعة إياه فيها وذا لا يحصل إلا وأن تقع تكبيراتهم مقارنة لتكبيرة الإمام وإنه مما يتعذر مراعاته .
وبالإجماع ليس بشرط فإنهم لو كانوا حضورا وكبر الإمام ثم كبروا صح تكبيره وصار شارعا في الصلاة وصحت مشاركتهم إياه فلم تجعل شرط انعقاد التحريمة لعدم الإمكان فجعلت شرط انعقاد الأداء بخلاف القوم فإنه أمكن أن تجعل في حقهم شرط انعقاد التحريمة لأنه تحصل مشاركتهم إياه في التحريمة لا محالة وإن سبقهم الإمام بالتكبير وإن ثبت أن الجماعة في حق الإمام شرط انعقاد الأداء لا شرط انعقاد التحريمة فانعقاد الأداء بتقييد الركعة بسجدة لأن الأداء فعل والحاجة إلى كون الفعل أداء للصلاة وفعل الصلاة هو القيام والقراءة والركوع والسجود ولهذا لو حلف لا يصلي فما لم يقيد الركعة بالسجدة لا يحنت فإذا لم يقيد الركعة بالسجدة لم يوجد الأداء فلم تنعقد فشرط دوام مشاركة الجماعة الإمام إلى الفراغ عن الأداء ولو افتتح الجمعة وخلفه قوم ونفروا عنه وبقي الإمام وحده فسدت صلاته ويستقبل الظهر لأن الجماعة شرط انعقاد الجمعة ولم توجد .
ولو جاء قوم آخرون فوقفوا خلفه ثم نفر الأولون فإن الإمام يمضي على صلاته ولم يوجد الشرط .
هذا الذي ذكرنا اشتراط المشاركة في حق الإمام وأما المشاركة في حق المقتدي فنقول : لا خلاف في أنه لا تشترط المشاركة في جميع الصلاة ثم اختلفوا بعد ذلك فقال أبو حنيفة و أبو يوسف : المشاركة في التحريمة كافية .
وعن محمد : روايتان في رواية لا بد من المشاركة في ركعة واحدة .
وفي رواية المشاركة في ركن منها كافية وهو قول زفر حتى إن المسبوق إذا أدرك الإمام في الجمعة إن أدركه في الركعة الأولى أو الثانية أو كان في ركوعها يصير مدركا للجمعة بلا خلاف وأما إذا أدركه في سجود الركعة الثانية أو فى التشهد كان مدركا للجمعة عند أبي حنيفة و أبي يوسف لوجود المشاركة في التحريمة وعند محمد لا يصير مدركا في رواية لانعدام المشاركة في ركعة وفي رواية يصير مدركا لوجود المشاركة في بعض أركان الصلاة وهو قول زفر .
وأما إذا أدركه بعد ما قعد قدر التشهد قبل السلام أو بعد ما سلم وعليه سجدتا السهو وعاد إليهما فعند أبي حنيفة و أبي يوسف يكون مدركا للجمعة لوقوع المشاركة في التحريمة وعند زفر لا يكون مدركا لعدم المشاركة في شيء من أركان الصلاة ويصلي أربعا ولا تكون الأربع عند محمد ظهرا محضا حق قال : يقرأ في الأربع كلها وعنه في افتراض القعدة الأولى روايتان في رواية الطحاوي عنه : فرض وفي رواية المعلى عنه : ليست بفرض فكأن محمدا C سلك طريقة الاحتياط لتعارض الأدلة عليه فأوجب ما يخرجه عن الفرض بيقين جمعة كان الفرض أو ظهرا .
وقيل : على قول الشافعي الأربع ظهر محض حتى لو ترك القعدة الأولى لا يوجب فساد الصلاة .
واحتجوا في المسألة بما روى [ عن الزهري بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أدرك .
ركعة من الجمعة فقد أدركها وليضف إليها أخرى وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا ] وفي بعض الروايات [ صلى الظهر أربعا ] وهذا نص في الباب ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرف بنص الشرع بشرائط الجمعة منها الجماعة والسلطان ولم توجد في حق المقتدي فكان ينبغي أن يقضي كل مسبوق أربع ركعات إلا أن مدرك الركعة يقضي ركعة بالنص ولا نص في المتنازع فيه ثم مع هذه الأدلة يسلك محمد C تعالى مسلك الاحتياط لتعارض الأدلة .
واحتج أبو حنيفة و أبو يوسف بما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا ] أمر المسبوق بقضاء ما فاته وإنما فاتته صلاة الإمام وهي ركعتان والحديث في حد الشهرة .
و [ روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أدرك الإمام في التشهد يوم الجمعة فقد أدرك الجمعة ] .
ولأن سبب اللزوم هو التحريمة وقد شارك الإمام في التحريمة وبنى تحريمته على تحريمة الإمام فيلزمه ما لزم الإمام كما في سائر الصلوات وتعلقهم بحديث الزهري غير صحيح فإن الثقات من أصحاب الزهري كمعمر و الأوزاعي و مالك رووا أنه قال : من أدرك ركعة من صلاة فقد أدركها فأما ذكر الجمعة فهذه الزيادة ومن أدركهم جلوسا صلى أربعا رواه ضعفاء أصحابه هكذا قال الحاكم الشهيد ولئن ثبتت الزيادة فتأويلها وإن أدركهم جلوسا قد سلموا عملا بالدليلين بقدر الإمكان وما ذكروا من المعنى يبطل بما إذا أدرك ركعة .
وقولهم : هناك يقضي ركعة بالنص قلنا : وههنا أيضا يقضي ركعتين بالنص الذي روينا وما ذكروا من الاحتياط غير سديد لأن الأربع إن كانت ظهرا فلا يمكن بناؤها على تحريمة عقدها للجمعة ألا يرى أنه لو أدركه في التشهد ونوى الظهر لم يصح اقتداؤه به وإن كانت جمعة فالجمعة كيف تكون أربع ركعات على أنه لا احتياط عند ظهور فساد أدلة الخصوم وصحة دليلنا والله أعلم .
وأما الكلام في مقدار الجماعة فقد قال أبو حنيفة و محمد : أدناه ثلاثة سوى الإمام وقال أبو يوسف : .
اثنان سوى الإمام .
وقال الشافعي : لا تنعقد الجمعة إلا بأربعين سوى الإمام .
أما الكلام مع الشافعي فهو يحتج بما روي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنه قال : كنت قائد أبي حين كف بصره فكان إذا سمع النداء يوم الجمعة استغفر الله لأبي أمامة أسعد بن زرارة فقلت : لأسألنه عن استغفاره لأبي أمامة فبينما أنا أقوده في جمعة إذ سمع النداء فاستغفر الله لأبي أمامة فقلت يا أبت أرأيت استغفارك لأبي أمامة أسعد بن زرارة فقال : إن أول من جمع بنا بالمدينة أسعد فقلت وكم كنتم يومئذ ؟ فقال : كنا أربعين رجلا ولأن ترك الظهر إلى الجمعة يكون بالنص ولم ينقل إنه E أقام الجمعة بثلاثة .
ولنا : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخطب فقدم عير تحمل الطعام فانفضوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما وليس معه إلا اثني عشر رجلا منهم أبو بكر و عمر وعثمان وعلي Bهم أجمعين وقد أقام الجمعة بهم ] وروي أن مصعب بن عمير قد أقام الجمعة بالمدينة مع اثني عشر رجلا ولأن الثلاثة تساوي ما ورائها في كونها جمعا فلا معنى لاشتراط جمع الأربعين بخلاف الاثنين فإنه ليس بالجمع ولا حجة له في حديث أسعد بن زرارة لأن الإقامة بالأربعين وقع اتفاقا ألا يرى أنه روي أن أسعد أقامها بسبعة عشر رجلا ورسول الله صلى الله عليه و سلم أقامها باثني عشر رجلا حين انفضوا إلى التجارة وتركوه قائما .
وأما الكلام مع أصحابنا فوجه قول أبي يوسف : إن الشرط أداء الجمعة بجماعة وقد وجد لأنهما مع الإمام ثلاثة وهي جمع مطلق ولهذا بتقدمهما الإمام ويصطفان خلفه .
ولهما : أن الجمع المطلق شرط انعقاد الجمعة في حق كل واحد منهم وشرط جواز صلاة كل واحد منهم ينبغي أن يكون سواه فيحصل هذا الشرط ثم يصلي ولا يحصل هذا الشرط إلا إذا كان سوى الإمام ثلاثة إذ لو كان مع الإمام ثلاثة لا يوجد في حق كل واحد منهم إلا اثنان والمثنى ليس بجمع مطلق وهذا بخلاف سائر الصلوات لأن الجماعة هناك ليست بشرط للجواز حتى يجب على كل واحد تحصيل هذا الشرط غير أنهما يصطفان خلف الإمام لأن المقتدي تابع لإمامه فكان ينبغي أن يقوم خلفه لإظهار معنى التبعية غير إنه إن كان واحدا لا يقوم خلفه لئلا يصير منتبذا خلف الصفوف فيصير مرتكبا للنهي فإذا صار اثنين زال هذا المعنى فقاما خلفه والله تعالى أعلم .
وأما صفة القوم الذين تنعقد بهم الجمعة فعندنا أن كل من يصلح إماما للرجال في الصلوات المكتوبات تنعقد بهم الجمعة فيشترط صفة الذكورة والعقل والبلوغ لا غير ولا تشترط الحرية والإقامة حتى تنعقد الجمعة بقوم عبيد أو مسافرين ولا تنعقد بالصبيان والمجانين والنساء على الانفراد .
وقال الشافعي : يشترط الحرية والإقامة في صفة القوم فلا تنعقد بالعبيد والمسافرين وجه قوله : أنه .
لا جمعة عليهم فلا تنعقد بهم كالنسوان والصبيان .
ولنا : إن درجة الإمام أعلى ثم صفة الحرية والإقامة ليست بشرط في الإمام لما مر فلأن لا تشترط في القوم أولى وإنما لا تجب الجمعة على العبيد والمسافرين إذا لم يحضروا فأما إذا حضروا تجب لأن المانع من الوجوب قد زال بخلاف الصبيان والنسوان على ما ذكرنا فيما تقدم والله أعلم .
وأما الوقت : فمن شرائط الجمعة وهو وقت الظهر حتى لا يجوز تقديمها على زوال الشمس لما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لما بعث مصعب بن عمير إلى المدينة قال له : إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة ] وروي : [ أنه كتب إلى أسعد بن زرارة إذا زالت الشمس من اليوم الذي تتجهز فيه اليهود لسبتها فازدلف إلى الله تعالى بركعتين ] وما روي أن ابن مسعود أقام الجمعة ضحى - يعني بالقرب منه - ومراد الراوي أنه ما أخرها بعد الزوال فإن لم يؤدها حتى دخل وقت العصر تسقط الجمعة لأنها لا تقضي لما نذكر .
وقال مالك : تجوز إقامة الجمعة في وقت العصر - وهو فاسد - لأنها أقيمت مقام الظهر بالنص فيصير وقت الظهر وقتا للجمعة وما أقيمت مقام غير الظهر من الصلوات فلم تكن مشروعة في غير وقته والله أعلم .
هذا الذي ذكرنا من الشرائط مذكورة في ظاهر الرواية وذكر في النوادر شرطا آخر لم يذكره في ظاهر الرواية وهو أداء الجمعة بطريق الاشتهار حتى إن أميرا لو جمع جيشه في الحصن وأغلق الأبواب وصلى بهم الجمعة لا تجزئهم كذا ذكر في النوادر فإنه قال السلطان إذا صلى في فهندرة والقوم مع أمراء السلطان في المسجد الجامع قال : إن فتح باب داره وأذن للعامة بالدخول في فهندرة جاز وتكون الصلاة في موضعين ولو لم يأذن للعامة وصلى مع جيشه لا تجوز صلاة السلطان وتجوز صلاة العامة وإنما كان هذا شرطا لأن الله تعالى شرع النداء لصلاة الجمعة بقوله : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } والنداء للاشتهار ولذا يسمى جمعة لاجتماع الجماعات فيها فاقتضى أن تكون الجماعات كلها مأذونين بالحضور إذنا عاما تحقيقا لمعنى الاسم والله أعلم