فصل : و أما شرط التقدم فشيئان .
أحدهما : العصوبة عند أبي حنيفة فتقدم العصبة على ذوي الرحم سواء كانت العصبة أقرب أو أبعد و عندهما هي شرط ثبوت أصل الولاية على ما مر .
و الثاني : قرب القرابة يتقدم الأقرب على الأبعد سواء كان في العصبات أو في غيرها على أصل أبي حنيفة و على أصلهما هذا شرط التقدم لكن في العصبات خاصة بناء على أن العصبات شرط ثبوت أصل الولاية عندهما و عنده هي شرط التقدم على غيرهم من القرابات فما دام ثمة عصبة فالولاية لهم يتقدم الأقرب منهم على الأبعد و عند عدم العصبات تثبت الولاية لذوي الرحم الأقرب منهم على الأبعد و عند العصبات تثبت الولاية لذوي الرحم الأقرب منهم يتقدم على الأبعد و إنما اعتبر الأقرب فالأقرب في الولاية لأن هذه ولاية نظر و تصرف الأقرب انظر في حق المولى عليه لأنه أشفق فكان هو أولى من الأبعد و لأن القرابة إن كانت استحقاقها بالتعصيب كما قالا : فالأبعد لا يكون عصبة مع الأقرب فلا يلي معه و لئن كان استحقاقها بالوراثة كما قال أبو حنيفة فالأبعد لا يرث مع الأقرب فلا يكون وليا معه و إذا عرف هذا فنقول : إذا اجتمع الأب و الجد في الصغير و الصغيرة و المجنون الكبير و المجنون الكبيرة فالأب أولى من الجد أب الأب لوجود العصوبة و القرب و الجد أب الأب و إن علا أولى من الأخ لأب و أم و الأخ أولى من العم هكذا و عند أبي يوسف و محمد الجد و الأخ سواء كما في الميراث فإن الأخ لا يرث مع الجد عنده فكان بمنزلة الأجنبي و عندهما يشتركان في الميراث فكانا كالآخوين و إن اجتمع الأب و الابن في المجنونة فالابن أولى عند أبي يوسف .
و ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف و روى المعلى عن أبي يوسف أنه قال : أيهما زوج جاز و إن اجتمعا قلت للأب زوج .
و قال محمد : الأب أولى به .
وجه قوله : أن هذه الولاية تثبت نظرا للمولى عليه و تصرف الأب انظر لها لأنه أشفق عليها من الابن و لهذا كان هو أولى بالتصرف في مالها و لأن الأب من قومها و الابن ليس منهم ألا ترى أنه ينسب إلى أبيه فكان إثبات الولاية عليها لقرابتها أولى .
وجه قول أبي يوسف : أن ولاية التزويج مبنية على العصوبة و الأب مع الابن إذا اجتمعا فالابن هو العصبة و الأب صاحب فرض فكان كالأخ لأم مع الأخ لأب و أم .
وجه رواية المعلى : أنه وجد في كل واحد منهما ما هو سبب التقدم أما الأب فلأنه من قومها و هو أشفق عليها و أما الابن فلأنه يرثها بالتعصيب و كل واحد من هذين سبب التقدم فأيهما زوج جاز و عند الاجتماع يقدم الأب تعظيما و احتراما له و كذلك إذا اجتمع الأب و ابن الابن و إن سفل فهو على هذا الخلاف و الأفضل في المسألين أن يفوض الابن الإنكاح إلى الأب احتراما للأب و احترازا عن موضع الخلاف .
و على هذا الخلاف إذا اجتمع الجد و الابن .
قال أبو يوسف : الابن أولى و قال محمد : الجد أولى و الوجه من الجانبين على نحو ما ذكرنا فأما الأخ و الجد فهو على الخلاف الذي ذكرنا بين أبي حنيفة و صاحبيه .
و أما من غير العصبات فكل من يرث يزوج عند أبي حنيفة و من لا فلا و بيان من يرث منهم و من لا يرث يعرف في كتاب الفرائض ثم إنما يتقدم الأقرب على الأبعد إذا كان الأقرب حاضرا أو غائبا غيبة غير منقطعة فأما إذا كان غائبا غيبة منقطعة فللأبعد أن يزوج في قول أصحابنا الثلاثة و عند زفر : لا ولاية للأبعد مع قيام الأقرب بحال .
و قال الشافعي : يزوجها السلطان .
و اختلف مشايخنا في ولاية الأقرب أنها تزول بالغيبة أو تبقى .
قال بعضهم : إنها باقية إلا أنها حدثت للأبعد ولاية لغيبة الأقرب فيصير كأن لها وليين مستويين في الدرجة كالأخوين و العمين .
و قال بعضهم : تزول ولايته و تنتقل إلى الأبعد و هو الأصح .
وجه قول زفر : أن ولاية الأقرب قائمة لقيام سبب ثبوت الولاية و هو القرابة و لهذا لو زوجها حيث هو يجوز فقيام ولايته تمنع الانتقال إلى غيره و الشافعي قال : إن ولاية الأقرب باقية كما قال زفر : إلا أنه امتنع دفع حاجتها من قبل الأقرب مع قيام ولايته عليها بسب الغيبة فتثبت الولاية للسلطان كما إذا خطبها كفء و امتنع الولي من تزويجها منه إن للقاضي أن يزوجها و الجامع بينهما دفع الضرر عن الصغيرة .
و لنا : أن ثبوت الولاية للأبعد زيادة نظر في حق العاجز فتثبت له الولاية كما في الأب مع الجد إذا كانا حاضرين و دلالة ما قلنا إن الأبعد أقدر على تحصيل النظر للعاجز لأن مصالح النكاح مضمنة تحت الكفاءة و المهر و لاشك أن الأبعد متمكن من إحراز الكفء الحاضر بحيث لا يفوته غالبا و الأقرب الغائب غيبة منقطعة لا يقدر على إحرازه غالبا لأن الكفء الحاضر لا ينتظر حضوره و استطلاع رأيه غالبا .
و كذا الكفء المطلق لأن المرأة تخطب حيث هي عادة فكان الأبعد أقدر على إحراز الكفء من الأقرب فكان أقدر على إحراز النظر فكان أولى بثبوت الولاية له إذ المرجوح في مقابة الراجح ملحق بالعدم في الأحكام كما في الأب مع الجد .
و أما قوله : إن ولاية الأقرب قائمة فممنوع و لا نسلم أنه يجوز انكاحه بل لا يجوز فولايته منقطعة بواحدة .
و قد روي عن أصحابنا ما يدل على هذا فإنهم قالوا : إن الأقرب إذا كتب كتابا إلى الأبعد ليقدم رجلا في الصلاة على جنازة الصغير فإن للأبعد أن يمتنع عن ذلك و لو كانت ولاية الأقرب قائمة لما كان له الامتناع كما إذا كان الأقرب حاضرا فقدم رجلا ليس للأبعد ولاية المنع و المعقول يدل عليه و هو أن ثبوت الولاية لحاجة المولى عليه و لا مدفع لحاجته برأي الأقرب لخروجه من أن يكون منتفعا به بالغيبة فكان ملحقا بالعدم فصار كأنه جن أو مات إذ الموجود الذي لا ينتفع به و العدم و الأصلي سواء و لأن القول بثبوت الولاية للأبعد مع ولاية الأقرب يؤدي إلى الفساد لأن الأقرب ربما يزوجها من إنسان حيث هو و لا يعلم الأبعد بذلك فيزوجها من غيره فيطؤها الزوج الثاني ويجيء بالأولاد ثم يظهر أنها زوجة الأول و فيه من الفساد ما لا يخفى .
ثم إن سلمنا على قول بعض المشايخ فلا تنافي بين الولايتين فأيهما زوج كما إذا كان لها إخوان أو عمان في درجة واحدة و فيه كمال النظر في حق العاجز لأن الكفء إن اتفق حيث الأبعد زوجها منه و إن اتفق حيث الأقرب زوجها منه فيكمل النظر إلا أن في حال الحضرة يرجح الأقرب باعتبار زيادة الشفقة لزيادة القرابة و به تبين أن نقل الولاية إلى االسلطان باطل لأن السلطان ولي من لا ولي له و ههنا لها ولي أو وليان فلا تثبت الولاية للسلطان إلا عند العضل من الولي و لم يوجد و الله الموفق .
و اختفلت الأقاويل في تحديد الغيبة المنقطعة .
و عن أبي يوسف روايتان : في رواية قال : ما بين بغداد و الري و في رواية مسيرة شهر فصاعدا و ما دونه ليس بغيبة منقطعة .
و عن محمد روايتان أيضا : روى عنه ما بين الكوفة إلى الري و روي عنه من الرقة إلى البصرة و ذكر ابن شجاع إذا كان غائبا في موضع لا تصل إليه القوافل و الرسل في السنة إلا مرة واحدة فهو غيبة منقطعة و إذا كانت القوافل التي تصل إليه في السنة غير مرة فليست بمنقطعة .
و عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه قال : إن كان الأقرب في موضع يفوت الكفء الخاطب باستطلاع رأية فهو غيبة منقطعة و إن كان لا يفوت فليست بمنقطعة و هذا أقرب إلى الفقه لأن التعويل في الولاية على تحصيل النظر للمولى عليه و دفع الضرر عنه و ذلك فيما قاله هذا إذا اجتمع في الصغير و الصغيرة و المجنون الكبير و المجنونة الكبيرة وليان : .
أحدهما : أقرب و الآخر أبعد فأما إذا كانا في الدرجة سواء كالأخوين و العمين و نحو ذلك فلكل واحد منهما على حياله يزوج رضي الآخر أو سخط بعد أن كان التزويج من كفء بمهر وافر وهذا قول عامة العلماء .
و قال مالك : ليس لأحد الأولياء ولاية النكاح ما لم يجتمعوا بناء على أن هذه الولاية ولاية شركة عنده و عندنا العامة ولاية استبداد .
وجه قوله : أن سبب هذه الولاية هو القرابة و إنها مشتركة بينهم فكانت الولاية مشتركة لن الحكم يثبت على وفق العلة و صار كولاية الملك فإن الجارية بين اثنين إذا زوجها أحدهما لا يجوز من غير رضا الآخر لما قلنا كذا هذا .
و لنا : أن الولاية لا تتجزأ لأنها ثبتت بسبب لا يتجزأ و هو القرابة و ما لا يتجزأ إذا ثبت بجماعة سبب لا يتجزأ يثبت لكل واحد منهم على الكمال كأنه ليس معه غيره كولاية الأمان بخلاف ولاية الملك لأن سببها الملك و أنه متجزئ فيتقدر بقدر الملك فإن زوجها كل واحد من الوليين رجلا على حدة فإن وقع العقدان معا بطلا جميعا لأنه لا سبيل إلى الجمع بينهما و ليس أحدهما أولى من الآخر و إن وقعا مرتبا فإن كان لا يدري السابق فكذلك لما قلنا و لأنه لو جاز لجاز بالتجزئ و لا يجوز العمل بالتجزئ في الفروج و إن علم السابق منهما من اللاحق جاز الأول و لم يجزأ الآخر .
و قد روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا نكح الوليان فالأول أحق ] .
و أما إذا زوج أحد الأولياء الحرة البالغة العاقلة برضاها من غير كفء بغير رضا الباقين فحكمه يذكر إن شاء الله تعالى في شرائط اللزوم