فصل : و منها عدم جواز كون المهر مجهولا .
و منها : أن لا يكون مجهولا جهالة تزيد على جهالة مهر المثل و جملة الكلام فيه أن المهر في الأصل لا يخلو إما أن تكون معينا مشارا إليه و إما أن يكون مسمى غير معين مشارا إليه و أما أن يكون مسمى غير معين مشارا إليه فإن كان معينا مشارا إليه صحت تسميته سواء كان مما يتعين بالتعيين في عقود المعاوضات من العروض و العقار و الحيوان و سائر المكيلات و الموزونات سوى الدراهم و الدنانير أو كان مما لا يتعين بالتعيين في عقود المعاوضات كالدراهم لأنه مال لا جهالة فيه إلا أنه كان مما يتعين بالتعيين ليس للزوج أن يحبس العين و يدفع غيرها من غير رضا المرأة لأن المشار إليه قد تعين فتعلق حقها بالعين فوجب عليه تسليم عينه .
و إن كان مما لا يتعين له أن يحبسه و يدفع مثله جنسا و نوعا و قدرا و صفة لأن التعيين إذا لم يصح صار مجازا عوضا من الجنس و النوع و القدر و الصفة و إن كان تبرا مجهولا أو نقرة ذهبا و فضة يجبر على تسليم عينه في رواية لأنه يتعين بالتعين كالعروض ولا يجبر في رواية لأنه لا يتعين بالتعيين كالمضروب .
و إن كان المسمى غير عين فالمسمى لا يخلو إما أن يكون مجهول الجنس و النوع و القدر و الصفة و إما أن يكون معلوم الجنس و النوع و القدر و الصفة فإن كان مجهولا كالحيوان و الدابة و الثوب و الدار بأن تزوج امرأة على حيوان أو دابة أو ثوب أو دار و لم يعين لم تصح التسمية و للمرأة مهر مثلها بالغا ما بلغ لأن جهالة الجنس متفاحشة لأن الحيوان اسم جنس تحته أنواع مختلفة و تحت كل نوع أشخاص مختلفة .
و كذا الدابة و كذا الثوب لأن اسم الثوب يقع على ثوب القطن و الكتان و الحرير و الخز و البز و تحت كل واحد من ذلك أنواع كثير مختلفة و كذا الدار لأنها تختلف في الصغر و الكبر و الهيئة و التقطيع و تختلف قيمتها باختلاف البلاد و المحال و السكك اختلافا فاحشا فتفاحشت الجهالة فالتحقت بجهالة الجنس .
و الأصل أن الجهالة العوض تمنع صحة تسميته كما في البيع و الإجازة لكونها مفضية إلى المنازعة إلا أنه يتحمل ضرب من الجهالة في المهر بالإجماع فإن مهر المثل قد يجب في النكاح الصحيح .
و معلوم أن مهر المثل مجهول ضربا من الجهالة فكل جهالة في المسمى مهرا مثل جهالة مهر المثل أو أقل من ذلك يتحمل و لا يمنع صحة التسمية استدلالا بمهر المثل و كل جهالة تزيد على جهالة مهر المثل يبقى الأمر فيها على الأصل فيمنع صحة التسمية كما في سائر الأعواض .
إذا ثبت هذا : فنقول : لا شك أن جهالة الحيوان و الدابة و الثوب و الدار أكثر من جهالة مهر المثل لأن بعد اعتبار تساوي المرأتين في المال و الجمال و السن و العقل و الدين و البلد و العفة يقل التفاوت بينهما فتقل الجهالة فأما جهالة الجنس و النوع فجهالة متفاحشة فكانت أكثر جهالة من مهر المثل فتمنع صحة التسمية و إن كان المسمى معلوم الجنس و النوع مجهول الصفة و القدر كما إذا تزوجها على عبد أو أمة أو فرس أو جمل أو حمار أو ثوب مروي أو هروي صحت التسمية و لها أوسط من ذلك و للزوج الخيار إن شاء أعطاها الوسط و إن شاء أعطاها قيمته و هذا عندنا و قال الشافعي : لا تصح التسمية .
وجه قوله : أن المسمى مجهول الوصف فلا تصح تسميته كما في البيع و هذا لأن جهالة الوصف تقتضي إلى المنازعة كجهالة الجنس ثم جهالة الجنس تمنع صحة التمسية فكذا جهالة الوصف .
و لنا : أن النكاح معاوضة بما ليس بمال و الحيوان الذي هو معلوم الجنس و النوع مجهول الصفة يجوز أن يثبت دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال كما في الذمة قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ في نفس المؤمنة مائة من الإبل ] و البضع ليس بمال فجاز أن يثبت الحيوان دينا في الذمة بدلا عنه و لأن جهالة الوسط من هذه الأصناف مثل جهالة مهر المثل أو أقل فتلك الجهالة لما لم تمنع صحة تسمية البدل فكذا هذه إلا أنه لا تصح تسميته ثمنا في البيع لأن البيع لا يحتمل جهالة البدل أصلا قلت أو كثرت و النكاح يحتمل جهالة اليسيرة مثل جهالة مهر المثل إنما كان كذلك لأن مبنى البيع على المضايقة و المماكسة فالجهالة فيه و إن قلت تفضي إلى المنازعة و مبنى النكاح على المسامحة و المروءة فجهالة مهر المثل فيه لا تفضي إلى المنازعة فهو الفرق .
و أما و جوب الوسط فلأن الوسط هو العدل لما فيه من مراعاة الجانبين لأن الزوج يتضرر بإيجاب الجيد و المرأة تتضرر بإيجاب الرديء فكان العدل في إيجاب الوسط و هذا معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خير الأمور أوساطها ] .
و الأصل في اعتبار الوسط في هذا الباب ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ] فإن دخل بها فلها مهر مثل نسائها لا وكس ولا شطط و كذلك قال عبد الله بن مسعود Bه في المفوضة : أرى لها مهر مثل نسائها لا وكس و لاشطط والمعنى ما ذكرنا .
و أما ثبوت الخيار بين الوسط و بين قيمته فلأن الحيوان لا يثبت في الذمة ثبوتا مطلقا ألا ترى أنه لا يثبت دينا في الذمة في معاوضة المال ولا يثبت في الذمة في ضمان الإتلاف حتى لا يكون مضمونا بالمثل في الاستهلاك بل بالقيمة فمن حيث أنه يثبت في الذمة في الجملة قلنا بوجوب الوسط منه و من حيث أنه لا يثبت ثبوتا مطلقا قلنا يثبت الخيار بين تسليم قيمته عملا بالشبهين جميعا و لأن الوسط لا يعرف إلا بواسطة القيمة فكانت القيمة أصلا في الاستحقاق فكانت أصلا في التسليم .
و أما ثبوت الخيار للزوج لا للمرأة فلأنه المستحق عليه فكان الخيار له و كذلك إن تزوجها على بيت و خادم فلها بيت و سط مما يجهز به النساء و هو بيت الثوب لا المبني فينصرف إلى فرش البيت في أهل الأمصار و في أهل البادية إلى بيت الشعر و لها خادم وسط لأن المطلق من هذه الأصناف ينصرف إلى الوسط لأن الوسط منها معلوم بالعادة و جهالته مثل جهالة مهر المثل أو أقل فلا تمنع صحة التسمية كما لو نص على الوسط و لو وصف شيئا من ذلك بأن قال جيد أو وسط أو رديء فلها الموصوف و لو جاء بالقيمة تجبر على القبول لأن القيمة هي الأصل .
ألا ترى أنه لا يعرف الجيد و الوسط و الرديء إلا باعتبار القيمة فكانت القيمة هي المعرفة بهذه الصفات فكانت أصلا في الوجوب فكانت أصلا في التسليم فإذا جاء بها تجبر على قبولها .
و لو تزوجها على وصيف التسمية و لها الوسط من ذلك و لو تزوجها على وصيف أبيض لا شك أنه تصح التسمية لأنها تصح بدون الوصف فإذا وصف أولى و لها الوصيف الجيد لأن الأبيض عندهم اسم للجيد ثم الجيد عندهم هو الرومي و الوسط السندي و الردئ الهندي .
و أما عندنا فالجيد هو التركي و الوسط الرومي و الردئ الهندي و قد قال أبو حنيفة : قيمة الخادم الجيد خمسون دينارا و قيمة الوسط أربعون و قيمة الرديء ثلاثون و قيمة البيت الوسط أربعون دينارا .
و قال أبو يوسف و محمد إن زاد السعر أو نقص فيحسب الغلاء و الرخص و هذا ليس باختلاف في الحقيقة ففي زمن أبي حنيفة كانت القيم مسعرة و في زمانهما تغيرت القيمة فأجاب كل على عرف زمانه و المعتبر في ذكر القيمة بلا خلاف و لو تزوجها على بيت و خادم حتى وجب الوسط من كل واحد منهما ثم صالحت من ذلك زوجها على أقل من قيمة الوسط ستين دينارا أو سبعين دينارا جاز الصلح لأنها بهذا الصلح أسقطت بعض حقها لأن الواجب فيهما ثمانون فإذا صالحت على أقل من ذلك فقد أسقطت البعض و من له الحق إذا أسقط بعض حقه و استوفى الباقي جاز و يجوز ذلك بالنقد و النسيئة لما ذكرنا أن الصلح وقع على عين الحق بإسقاط البعض فكان الباقي عين الواجب فجاز فيه التأجيل فإن صالحت على مائة دينار فالفضل باطل لأن المسمى إذا لم يكن مسعرا فالقيمة وادجبة بالعقد و من وجب له حق فصالح على أكثر من حقه لم يجز و إن كان المسمى معلوم الجسن و النوع و القدر و الصفة كما إذا تزوجها على مكيل موصوف أو موزون موصوف سوى الدراهم و الدنانير صحت التسمية لأن المسمى مال معلوم لا جهالة فيه بوجه .
ألا ترى أنه ثبت دينا في الذمة ثبوتا مطلقا فإنه يجوز البيع به و السلم فيه و يضمن بالمثل فيجبر الزوج على دفعه و لا يجوز دفع عوضه إلا برضا المرأة و لو تزوجها على مكيل أو موزون و لم يصف صحت التسمية لأنه مال معلوم الجنس و النوع فتصح تسميته فإن شاء الزوج أعطاها الوسط من ذلك و إن شاء أعطاها قيمته كذا ذكر الكرخي في جامعه و ذكر الحسن عن أبي حنيفة أنه يجبر على تسليم الوسط .
وجه ما ذكره الكرخي : أن القيمة أصل في إيجاب الوسط لأن بها يعرف كونه وسطا فكان أصلا في التسليم كما في العبد .
وجه رواية الحسن أن الشرع لما أوجب الوسط فقد تعين الوسط بتعيين الشرع فصار كما لو عينه بالتسمية و لو سمى الوسط يجبر على تسليمه كذا هذا بخلاف العبد فإن هناك لو سمى الوسط و نص عليه لا يجبر على تسليمه فكذا إذا أوجبه الشرع و الله أعلم .
و أما الثياب قد ذكر في الأصل أنه إذا تزوجها على ثياب موصوفة أنه بالخيار إن شاء سلمها و إن شاء سلم قيمتها و لم يفصل بين ما إذا سمى لها أجلا أو لم يسم و قال أبو يوسف : أن أجلها يجبر على دفعها و إن لم يؤجلها فلها القيمة و روي عن أبي حنيفة أنه يجبر على تسليمها من غير هذا التفصيل و هو قول زفر .
وجه ما ذكر في الأصل أن الثياب لا تثبت في الذمة ثبوتا مطلقا لأنها ليست من ذوات الأمثال ألا ترى أنها مضمونة بالقيمة لا بالمثل في ضمان العدوان و لا تثبت في الذمة بنفسها في عقود المعارضات بل بواسطة الأجل فكانت كالعبيد و هناك لا يجبر على دفع العبد و له أن يسلم القيمة كذا ههنا .
أبو يوسف يقول إذا أجلها فقد صارت بحيث تثبت في الذمة ثبوتا مطلقا ألا ترى أنها تثبت في الذمة في السلم فيجبر على الدفع بل أولى لأن البدل في البيع لايحتمل الجهالة رأسا و المهر في النكاح يحتمل ضربا من الجهالة فلما ثبتت في الذمة في البيع فلأن تثبت في النكاح أولى .
و جه الرواية الأخرة لأبي حنيفة أن امتناع ثبوتها في الذمة لمكان الجهالة فإذا و صفت فقد زالت الجهالة فيصح ثبوتها في الذمة مهرا في النكاح و إنما لا يصح السلم فيها إلا مؤجلا لأن العلم بها يقف على التأجيل بل لأن السلم لم يشرع إلا مؤجلا و الأجل ليس بشرط في المهر فكان ثبوتها في المهر غير مؤجلة كثبوتها في السلم مؤجلة فيجبر على تسليمها .
و لو قال : تزوجتك على هذا العبد أو على ألف على ألفين فالتسمية فاسدة في قول أبي حنيفة و يحكم مهر مثلها فإن كان مهر مثلها الأدون أو أقل فلها الأدون إلا أن يرضى الزوج بالأرفع و إن كان مهر مثلها مثل الأرفع فلها الأرفع إلا أن ترضى المرأة بالأدون و إن كان مهر مثلها فوق الأدون أو أقل من الأرفع فلها مهر مثلها و قال أبو يوسف و محمد : التسمية صحيحة و لها الأدون على كل حال .
وجه قولهما : أن المصير إلى مهر المثل عند تعذر إيجاب المسمى و لا تعذر ههنا لأنه يمكن إيجاب الأقل لكونه متيقنا و في الزيادة شك فيجب المتيقن به و صار كما إذا أعتق عبده على ألف أو ألفين أو خالع امرأته على ألف أو ألفين أنه تصح التسمية و تجب الألف كذا هذا .
و لأبي حنيفة أنه جعل المهر أحد المذكورين غير عين لأن كلمة أو تتناول أحد المذكورين غير عين و أحدهما غير عين مجهول فكان المسمى مجهولا و هذه الجهالة أكثر من جهالة مهر المثل .
ألا ترى أن كلمة أو تدخل بين أقل الأشياء و أكثرها فتمنع صحة التسمية فيحكم مهر المثل لأنه الموجب الأصلي في هذا الباب فلا يعدل عنه إلا عند صحة التسمية و لا صحة إلا بتعين المسمى و لم يوجد فيجب مهر المثل لأنه لا ينقص عن الأدون لأن الزوج رضي بذلك القدر و لا يزاد على الأرفع لرضا المرأة بذلك القدر و لا يلزم على هذا ما إذا تزوجها على هذا العبد أو على هذا العبد أن الزوج بالخيار في أن يدفع أيهما شاء أو على أن المرأة بالخيار في ذلك تأخذ أيهما شاءت أنه تصح التسمية و إن كان المسمى مجهولا لأن تلك الجهالة يمكن رفعها .
ألا ترى أنها ترتفع باختيار من له الخيار فقلت الجهالة فكانت كجهالة مهر المثل أو أقل من ذلك فلا تمنع صحة التسمية ههنا لا سبيل إلى إزالة هذه الجهالة لأنه إذا لم يكن فيه خيار كان لكل واحد منهما أن يختار غير ما يختاره صاحبه ففحشت الجهالة فمنعت صحة التسمية بخلاف الإعتاق و الخلع لأنه ليس لهما موجب أصلي يصار إليه عند وقوع الشك في المسمى فوجب المتيقن من المسمى لأن إيجابه أولى من الإيقاع مجانا بلا عوض أصلا لعدم رضا المولى و الزوج بذلك و فيما نحن فيه له موجب أصلي فلا يعدل عنه إلا عند تعين المسمى و لا تعين مع الشك بإدخال كلمة الشك فالتحقت التسمية بالعدم فبقي الموجب الأصلي واجب المصير إليه .
و لو تزوج امرأة على ألف إن لم يكن له امرأة و على ألفين إن كانت له امرأة أو تزوجها على ألف إن لم يخرجها من بلدها و على ألفين إن أخرجها من بلدها أو تزوجها على ألف إن كانت مولاة و على ألفين إن كانت عربية و ما أشبه ذلك فلا شك أن النكاح جائز لأن النكاح المؤيد الذي لا توقيت فيه لا تبطله الشروط الفاسدة لما قلنا أن الشروط لو أثرت لأثرت في المهر بفساد التسمية و فساد التسمية لا يكون فوق العدم ثم عدم التسمية رأسا لا يوجب فساد النكاح ففسادها أولى .
و أما المهر فالشرط الأول جائز بلا خلاف فإن وقع الوفاء به فلها ما سمى على ذلك الشرط و إن لم يقع الوفاء به فإن كان على خلاف ذلك أو فعل خلاف ما شرط لها فلها مهر مثلها لا ينقص من الأصل و لا يزاد على الأكثر و هذا قول أبي حنيفة .
و قال أبو يوسف و محمد : الشرطان جائزان و قال زفر الشرطان فاسدان و هذه فريعة مسألة مشهورة في الإجارات و هو أن يدفع رجل ثوبا إلى الخياط فيقول إن خطته اليوم فلك درهم و إن خيطته غدا فلك نصف درهم .
وجه قول زفر : أن كل واحد من الشرطين يخالف الآخر فأوجب ذلك جهالة التسمية فتصح التسميتان كما إذا قال للخياط إن خيطته روميا فبدرهم و إن خيطته فارسيا فبنصف درهم .
و لأبي حنيفة أن الشرط الأول وقع صحيحا بالإجماع و موجبه رد مهر المثل إن لم يقع الوفاء به فكانت التسمية الأولى صحيحة فلو صح الشرط الثاني لكان نافيا موجب الشرط الأول و التسمية الأولى و التسمية بعدما صحت لا يجوز نفي موجبها فبطل الشرط الثاني ضرورة و قال : إن ما شرط الزوج من طلاق المرأة و ترك الخروج من البلد لا يلزمه في الحكم لأن ذلك وعد وعد لها فلا يكلف به و على هذا يخرج ما إذا تزوجها على حكمه أو حكم أجنبي أن التسمية فاسدة لأن المحكوم به مجهول و جهالته أكثر من جهالة مهر المثل فيمنع صحة التسليم ثم إن كان التزوج على حكم الزوج ينظر إن حكم بمهر مثلها او أكثر فلها ذلك لأنه رضى ببذل الزيادة و إن حكم بأقل من مهر مثلها فلها مهر مثلها إلا أن ترضى بالأقل و إن كان التزوج على حكمها فإن حكمت بمهر مثلها أو أقل فلها ذلك لأنها رضيت بإسقاط حقها و إن حكمت بأكثر من مهر مثلها لم تجز الزيادة لأن المستحق هو مهر المثل إلا إذا رضي الزوج بالزيادة و إن كان التزوج على حكم أجنبي فإن حكم بمهر المثل جاز و إن حكم بأكثر من مهر المثل يتوقف على رضا الزوج و إن حكم بأقل من مهر المثل يتوقف على رضا المرأة لأن المستحق هو مهر المثل و الزوج لا يرضى بالزيادة و المرأة لا ترضى بالنقصان فلذلك توقف الأمر في الزيادة و النقصان على رضاهما فإن تزوجها على ما يكسب العام أو يرث فهذه تسمية فاسدة لأن جهالة هذا أكثر من جهالة مهر المثل و قد انضم إلى الجهالة الخطر لأنه قد يكسب و قد لا يكسب ثم الجهالة بنفسها تمنع صحة التسمية فمنع الخطر أولى .
ولو تزوج امرأتين على صداق واحد يجوز إلا أن يقول تزوجتكما على ألف درهم فقبلتا فالنكاح جائز لا شك فيه و يقسم الألف بينهما على قدر مهر مثليهما لأن جعل الألف بدلا عن بعضيهما و البدل يقسم على قدر قيمة المبدل و المبدل هو البضع فيقسم البدل على قدر قيمته و قيمته مهر المثل كما لو اشترى عبدين بألف درهم أنه يقسم الثمن على قدر قيمتهما كذا هذا .
فإن قبلت إحداهما دون الأخرى جاز النكاح في التي قبلت بخلاف البيع فإنه إذا قال بعت هذا العبد منكما فقبل أحدهما و لم يقبل أحدهما و لم يقبل الآخر لم يجز البيع أصلا و الفرق أنه لما قال تزوجتكما فقد جعل قبول كل واحدة منهما شرطا لقبول الأخرى و النكاح لا يحتمل التعليق بالشرط فكان إدخال الشرط فيه فاسدا و النكاح لا يفسد بالشرط الفاسد و البيع يفسد به .
و إذا جاز النكاح تقسم الألف على قدر مهر مثلهما لما قلنا فما أصاب حصة التي قبلت فلها ذلك القدر و الباقي يعود إلى الزوج و إن كانت إحداهما ذات زوج أو في عدة من زوج أو كانت ممن لا يحل له نكاحها فإن جميع الألف التي يصح نكاحها في قول أبي حنيفة و عندهما تقسم الألف على قدر مهر مثليهما فما أصاب حصة التي تصح نكاحها فلها ذلك و الباقي يعود إلى الزوج .
وجه قولهما أنه جعل الألف مهرا لهما جميعا و كل واحدة منهما صالح للنكاح حقيقة لكونها قابلة للمقاصد المطلوبة منه حقيقة إلا أن المحرمة منهما لا تزاحم صاحبتها في الاستحقاق لخروجها من أن تكون محلا لذلك شرعا مع قيام المحلية حقيقة فيجب إظهار أثر المحلية الحقيقية في الانقسام .
و لأبي حنيفة : أن المهر يقابل ما يستوفي بالوطء و هو منافع البضع و هذا العقد في حق المحرمة لا يمكن من استيفاء المنافع لخروجها من أن تكون محلا للعقد شرعا و الموجود الذي لا ينتفع به و العدم الأصلي سواء فيجعل ذلك المهر بمقابلة الأجنبية كما إذا جمع بين المراة و الأتان و قال تزوجتكما على ألف درهم فإن دخل الزوج بالتي فسد نكاحها ففي قياس قول أبي حنيفة لها مهر مثلها بالغا ما بلغ لأنه لا تعتبر التسمية حقها فالتحقت التسمية بالعدم .
و في قياس قول أبي يوسف و محمد : لها مهر مثلها لا يجاوز حصتها من الألف لأنهما لا يعتبران التسمية في حق الانقسام و الله عز و جل أعلم .
و على هذا تخرج تسمية لمهر على السمعة و الرياء أنها تصح أو لا تصح و جملة الكلام فيه أن السعة في المهر إما أن تكون في قدر المهر و إما أن تكون في جنسه فإن كانت في قدر المهر بأن تواضعا في السر و الباطن و اتفقا على أن يكون المهر ألف درهم لكنهما يظهران في العقد ألفين لأمر حملهما على ذلك فإن لم يقولا ألف منهما سمعة فالمهر ما ذكراه في العلانية و ذلك ألفان لأن المهر ما يكون مذكورا في العقد و الألفان مذكورتان في العقد فإذا لم يجعلا الألف منهما سمعة صحت تسمية الألفين و إلا قالا الألف منهما سمعة فالمهر ما ذكراه في السر و هو الألف في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة و هو قول أبي يوسف و محمد .
و روى عن أبي حنيفة : أن المهر ما أظهره وهو الألفان .
وجه هذه الرواية : أن المهر هو المذكور في العقد لأنه اسم لما يملك به البضع و الذي يملك به البضع هو المذكور في العقد و أنه يصلح أن يكون مهرا لأنه مال معلوم فتصح تسميته و يصير مهرا و لا تعتبر المواضع السابقة .
وجه ظاهر الرواية : أنهما لما قالا : الألف منهما سمعة فقد هزلا بذلك قدر الألف حيث لم يقصدا به مهرا و المهر مما يدخله الجد و الهزل ففسدت تسميته قدر الألف و التحقت بالعدم فبقي العقد على ألف و إن كانت السمعة من جنس المهريات تواضعا و اتفقا في السر و الباطن على أن يكون المهر ألف درهم و لكنهما يظهران في العقد مائة دينار فإن لم يقولا رياء و سمعة فالمهر ما تعاقدا عليه لما قلنا و إن قالا رياء و سمعة فتعاقدا على ذلك فلها مهر مثلها في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة و رواية عنه أن لها مهر العلانية مائة دينار .
وجه هذه الرواية : على نحو ما ذكرنا أن المائة دينار هي المذكورة في العقد و المهر اسم للمذكور في العقد لما بينا فيعتبر المذكور و لا تعتبر المواضعة السابقة .
وجه ظاهر الرواية : أن ما تواضعا عليه و هو الألف لم يذكراه في العقد و ما ذكراه و هو المائة دينار ما تواضعا عليه فلم توجد التسمية فيجب مهر المثل كما لو تزوجها و لم يسم لها مهرا هذا الذي ذكرنا إذا لم يتعاقدا في السر و الباطن على أن يكون للمهر قدرا و جنسا ثم يتعاقدا على ما تواضعا و اتفقا عليه فأما إذا تعاقدا في السر على قدر من مهر أو جنس منه ثم اتفقا و تواضعا في السر على أن يظهرا في عقد العلانية أكثر من ذلك جنسا آخر فإن لم يذكرا في المواضعة السابقة أن ذلك سمعة فالمهر ما ذكراه في العلانية في قول أبي حنيفة و محمد و يكون ذلك زيادة على المهر الأول و إن كان من جنسه أو من خلاف جنسه فإن كان من خلاف جنسه فجميعه يكون زيادة على المهر الأول و إن كان من جنسه فقدر الزيادة على المهر الأول يكون زيادة و روي عن أبي يوسف أنه قال : المهر مهر السر .
وجه قوله : أن المهر ما يكون مذكورا في العقد و العقد هو الأول لأن النكاح لا يحتمل الفسخ و الإقالة فالثاني لا يرفع الأول فلم يكن الثاني عقدا في الحقيقة فلا يعتبر المذكور عنده فكان المهر وهو المذكور في العقد الأول .
و جه قولهما : أنهما قصدا شيئين استئناف العقد و الزيادة في المهر و استئناف العقد لا يصح لأن النكاح لا يحتمل الفسخ أو الزيادة صحيحة فصار كأنه زاد ألفاف أخرى أو مائة دينار و إن ذكرا في المواضعة السابقة أن الزيادة أو الجنس الآخر سمعة فالمهر هو المذكور في العقد الأول المذكور في العقد الثاني لغو لأنهما هزلا به حيث جعلاه سمعة و الهزل يعمل في المهر فيبطله و الله أعلم .
فصل : و منها : أن يكون النكاح صحيحا فلا تصح التسمية في النكاح الفاسد حتى لا يلزم المسمى لأن ذلك ليس بنكاح لما نذكر إن شاء الله تعالى إلا أنه إذا وجد الدخول يجب مهر المثل لكن بالوطء لا بالعقد على ما بينه في موضعه إن شاء الله تعالى و لو تزوج امرأة على جارية بعينها و استثنى ما في بطنها فلها الجارية و ما في بطنها ذكره الكرخي و الطحاوي من غير خلاف لأن تسمية الجارية مهرا قد صحت لأنها مال معلوم و استثناء كما في بطنها لم يصح لأن الجنين في حكم جزء من أجزائها فإطلاق العقد على الأم يتناوله فاستثناؤه يكون بمنزلة شرط فاسد و النكاح لا يحتمل شرطا فاسدا فيلغوا الاستثناء و يلتحق بالعدم كأنه لم يستثن رأسا و كذلك إذا وهب جارية و اسثتنى ما في بطنها أو خالع أو صالح من دم العمد لأن هذه التصرفات لا تبطلها الشروط الفاسدة .
و لو تزوج امرأة على جارية فاستحقت و هلكت قبل التسليم فلها قيمتها لأن التسمية قد صحت لكون المسمى مالا متقوما معلوما فالعقد انعقد موجب التسليم بالاستحقاق لأنه عجز عن تسليمها فتجب قيمتها بخلاف البيع إذا هلك المبيع قبل التسليم إلى المشتري أنه لا يغرم البائع قيمته و إنما يسقط الثمن لا غير لأن هلاك المبيع يوجب بطلان البيع و إذا بطل البيع لم يبق وجوب التسليم فلا تجب القيمة ثم تفسير مهر المثل أن يعتبر مهرها مثل نسائها من اخواتها لأبيها و أمها أو لأبيها و عماتها و بنات أعمامها في بلدها و عصرها على مالها و جمالها و سنها و علقها و دينها لأن الصداق يختلف باختلاف البلدان و كذا يختلف باختلاف المال و الجمال و السن و العقل و الدين فيزاداد مهر المرأة لزيادة مالها و جمالها و عقلها و دينها و حداثة سنها فلا بد من المماثلة بين المرأتين في هذه الأشياء ليكون الواجب لها مهر مثل نسائها إذ لا يكون مهر المثل بدون الممائلة بينهم و لا يعتبر مهرها بمهر أمها و لا بمهر خالتها إلا أن تكون من قبيلتها من بنات أعمامها لأن المهر يختلف بشرف النسب و النسب من الآباء لا من الأمهات فإنما يحصل لها شرف النسب من قبيل أبيها أو قبيلته لا من قبل أمها و عشريتها و الله أعلم