حكم اليمين المعقودة .
و أما حكم اليمين المعقودة و هي اليمين على المستقبل فاليمين على المستقبل لا يخلو إما أن يكون على فعل واجب و إما أن يكون على ترك المندوب وإما أن يكون على ترك المباح أو فعله فإن كان على فعل واجب بأن قال : و الله لأصلين صلاة الظهر اليوم أو لأصومن رمضان فإنه يجب عليه الوفاء به و لا يجوز له الامتناع عنه لقوله صلى الله عليه و سلم : [ من حلف أن يطيع الله فليطعه ] و لو امتنع يأثم و يحنث و يلزمه كفارة و إن كان على ترك الواجب أو على فعل معصية بأن قال و الله لا أصلي صلاة الفرض أو لا أصوم رمضان أو قال و الله لأشربن الخمر أو لأزنين أو لأقتلن فلا أو لا أكلم والدي و نحو ذلك فإنه يجب عليه للحال الكفارة بالتوبة و الاستغفار ثم يجب عليه أن يحنث نفسه و يكون بالمال لأن عقد هذه اليمين معصبة فيجب تكفيرها بالتوبة و الاستغفار في الحال كسائر الجنايات التي ليس فيها كفارة معهودة .
و على هذا يحمل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليأت الذي هو خير ] أي عليه أن يحنث نفسه لقوله صلى الله عليه و سلم [ من حلف أن يعصي الله تعالى فلا يعصيه ] و ترك المعصية بتحنيث نفسه فيها فيحنث به و يكفر بالمال و هذا قول عامة العلماء .
و قال الشعبي : لا تجب الكفارة المعهودة في اليمين على المعاصي و إن حنث نفسه فيها لما روي عن [ أبي هريرة Bه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا حلف أحدكم على يمين فرأى ما هو خير منها فليأته فإنه لا كفارة بها ] و لأن الكفارة شرعت لرفع الذنب و الحنث في هذه اليمين ليس بذنب لأنه واجب فلا تجب الكفارة لرفع الذنب و لا ذنب .
و لنا : قوله تعالى : { و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } إلى قوله : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } من غير فصل بين اليمين على المعصية و غيرها و الحديث المعروف و هو ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها و ليكفر عن يمينه ] و ما روي عن أبي هريرة Bه فقد روي عن خلافه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا حلف أحدكم بيمين ثم رأى خيرا مما حلف عليه فليكفر عن يمينه و ليفعل الذي هو خير ] فوقع التعارض بين حديثيه فبقي الحديث المعروف لنا بلا تعارض و لأن الأمة أجمعت على أن الكفارة لا يمنع وجوبها لعذر في الحانث بل يتعلق بمطلق الحنث سواء كان الحانث ساهيا أو خاطئا أو نائما أو مغمى عليه أو مجنونا فلا يمتنع وجوبها لأجل المعصية و لأن الكفارة إنما وجبت في اليمين على المباحات إما لأن الحنث فيها يقع خلفا في الوعد و نقضا للعهد لأن الحالف وعد أن يفعل و عاهد الله على ذلك فإذا حنث فقد صار بالحنث محلفا في الوعد ناقضا للعهد فوجبت الكفارة ليصير الحلف مستورا كأنه لم يكن أو لأن الحنث منه يخرج مخرج الاستخفاف بالاستشهاد باسم الله تعالى من حيث الصورة متى قوبل ذلك بعقده السابق لا من حيث الحقيقة إذ المسلم لا يباشر المعصية قصدا لمخالفة الله تعالى و إرادة الاستخفاف بأمره و نهيه فوجب عليه التفكير جبرا لما هتك من حرمة اسم الله تعالى صورة لا حقيقة و سترا و كل واحد من الوجهين موجود ههنا فيجب .
و أما قولهم : الكفارة شرعت لرفع الذنب فنعم لكن لم قلتم أنه لا ذنب و قولهم الحنث واجب قلنا : بلى لكن من حيث أنه ترك المعصية لا من حيث أنه نقض اليمين التي هي عهد مع الله تعالى بل الحنث من هذه الجهة ذنب فيحتاج إلى التفكير بالمال و إن كان على ترك المندوب بأن قال و الله لا أصلي نافلة و لا أصوم تطوعا و لا أعود مريضا و لا أشيع جنازة و نحو ذلك فالأفضل له أن يفعل و يكفر عن يمينه بالحديث الذي روينا .
و إن كان على مباح تركا أو فعلا كدخول الدار و نحوه فالأفضل له البر و له أن يحنث نفسه و يكفر ثم الكفارة تجب في اليمين المعقودة على المستقبل سواء قصد اليمين أو لم يقصد عندنا بأن كانت على أمر في المستقبل .
و عند الشافعي : لا بد من قصد اليمين لتجب الكفارة و احتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ثلاث جدهن جد و هزلهن جد : الطلاق و العتاق و النكاح ] فتخصيص هذه الأشياء بالذكر في التسوية بين الجد و الهزل منها دليل على أن حكم الجد و الهزل يختلف في غيرها ليكون التخصيص مفيدا .
و لنا : قوله تعالى : { و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } أثبت المؤاخذة بالكفارة المعهودة في اليمين المعقودة مطلقا عن شرط القصد إذ العقد هو الشد و الربط و العهد على ما بيننا و قوله عز و جل : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } أي حلفتم و حنثتم جعل أحد الأشياء المذكورة كفارة الأيمان على العموم عند وجود الحلف و الحنث وقد وجد .
و أما الحديث فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ثلاث جدهن جد و هزلهن جد : النكاح و الطلاق و اليمين ] مع ما أن روايته الأخرى مسكوتة عن غير الأشياء المذكورة إذ لا يتعرض لغيرها بالنفي و لا بالإثبات فلا يصح الاحتجاج به و الله عز و جل أعلم