الحلف على الدخول .
فصل : أما الحلف على الدخول فالدخول اسم للانفصال من العورة إلى الحصن فإن حلف لا يدخل هذه الدار و هو فيها فمكث بعد يمينه لا يحنث استحسانا و القياس : أن يحنث ذكر القياس و الاستحسان في الأصل .
وجه القياس : أن المداومة على الفعل حكم إنشائه كما في الركوب و اللبس بأن حلف لا يركب و لا يلبس و هو راكب و لابس فمكث ساعة أنه يحنث لما قلنا كذا هذا .
وجه الاستحسان : الفرق بين الفصلين و هو أن الدوام على الفعل لا يتصور حقيقة لأن الدوام هو البقاء و الفعل المحدث عرض و العرض مستحيل البقاء فيستحيل دوامه و إنما يراد بالدوام تجدد أمثاله وهذا يوجد في الركوب و اللبس و لا يوجد في الدخول لأنه اسم للانتقال من العورة إلى الحصن والمكث قرار فيستحيل أن يكون انتقالا يحققه أن الانتقال حركة و المكث سكون و هما ضدان .
و الدليل على التفرقة بين الفصلين أنه يقال : ركبت أمس و اليوم و لبست أمس و اليوم من غير ركوب و لبس مبتدأ و لا يقال دخلت أمس و اليوم إلا لدخول مبتدأ و كذا من دخل دارا يوم الخميس و مكث فيها إلى يوم الجمعة بر في يمينه لذلك افترقا و لو حلف لا يركب أو لا يلبس و هو راكب أو لابس فنزل من ساعته أو نزع من ساعته لا يحنث عندنا خلافا لزفر .
وجه قوله : أن شرط حنثه الركوب و اللبس و قد وجد منه بعد يمينه و إن قل .
و لنا : أن ما لا يقدر الحالف على الامتناع من يمينه فهو مستثنى منه دلالة لأن قصد الحالف من الحلف البر و البر لا يحصل إلا باستثناء ذلك القدر وسواء دخل تلك الدار ماشيا أو راكبا لأن اسم الدخول ينطلق على الكل .
ألا ترى أنه يقال دخلت الدار ماشيا و دخلتها راكبا و لو أمر غيره فحمله فأدخله حنث لأن الدخول فعل لا حقوق له فكان فعل المأمور مضافا إليه كالذبح و الضرب و نحو ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه و إن احتمله غير فأدخله بغير أمره لم يحنث لأن هذا يسمى إدخالا لا دخولا لما ذكرنا أن الدخول انتقال و الإدخال نقل ولم يوجد ما يوجب الإضافة إليه و هو الأمر و سواء كان راضيا بنقله أو ساخطا لأن الرضا لا يجعل الفعل مضافا إليه فلم يوجد منه الشرط و هو الدخول و سواء كان قادرا على الامتناع أو لم يكن قادرا عليه عند عامة مشايخنا .
و قال بعضهم : إن كان يقدر على الامتناع فلم يمتنع يحنث لأنه لما لم يمتنع مع القدرة كان الدخول مضافا إليه و الصحيح قول العامة لأنه لم يوجد منه الدخول حقيقة و امتناعه مع القدرة إن جاز أن يستدل به على رضاه بالدخول لكن الرضا يكون بالأمر و بدون الأمر لا يكفي لإضافة الفعل إليه فانعدم الدخول حقيقة و تقديرا و سواء دخلها من بابه أو من غيره لأنه جعل شرط الحنث مطلق الدخول و قد وجد و لو نزل على سطحها حنث لأن سطح الدار من الدار إذ الدار اسم لما أحاط به الدائرة و الدائرة أحاطت بالسطح .
وكذا لو قام على حائط من حيطانها لأن الحائط مما تدور عليه الدائرة فكان كسطحها و لو قام على ظلة لها شارعة أو كنيف شارع فإن كان مفتح ذلك إلى الدار يحنث و إلا فلا لأنه إذا كان مفتحه إلى الدار يكون منسوب إلى الدار فيكون من جملة الدار و إلا فلا .
و إن قام على أسكفة الباب فإن كان الباب إذا أغلق كانت الاسكفة خارجة عن الباب لم يحنث لأنه خارج و إن كان أغلق الباب كانت الأسكفة داخلة الباب حنث لأنه داخل لأن الباب يغلق على ما في داخل الدار لا على ما في الخارج و إن أدخل الحالف إحدى رجليه ولم يدخل الأخرى لم يحنث لأنه لم ينتقل كله بل بعضه .
و قد [ روي عن بريدة Bه أنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد فقال لي : إني لأعلم آية لم تنزل على نبي بعد سليمان بن داود عليه الصلاة و السلام إلا علي فقلت و ما هي يا رسول الله فقال لا أخرج من المسجد حتى أعلمكها فلما أخرج إحدى رجليه فقلت في نفسي لعله قد نسي فقال لي بم نفتتح القراءة فقلت بسم الله الرحمن الرحيم فقال صلى الله عليه و سلم : هي هي ] فلو كان هذا القدر خروجا لكان تأخير التعليم إليه خلفا في الوعد و لا يتوهم ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة و السلام و دل الحديث على أن التسمية آية من القرآن لأن النبي صلى الله عليه و سلم سماها آية .
و من أصحابنا من قال موضوع هذه المسألة في دار داخلها وخارجها سطح واحد فأن كانت الدار منهبطة فأدخل إليها إحدى رجليه حنث لأن أكثره حصل فيها و للأكثر حكم الكل فإن أدخل رأسه ولم يدخل قدميه أو تناول منها لم يحنث لأن دلك ليس بدخول .
ألا ترى أن السارق لو فعل ذلك لا يقطع و لو حلف لا يدخل دارا فدخل خرابا قد كان دارا وذهب بناؤها لا يحنث و لو كانت حيطانها قائمة فدخل يحنث و لو عين فقال أدخل هذه الدار فذهب بناؤها لا يحنث و لو كانت حيطانها قائمة و دخل يحنث و لو عين فقال لا أدخل هذه الدار فذهب بناؤها بعد يمينه ثم دخلها يحنث في قولهم لأن قوله دارا و إن ذكر مطلقا لكن المطلق ينصرف إلى المتعارف و هي الدار المبنية فيراعى فيه الاسم و الصفة و هي البناء لأنه جار مجرى الصفة فما لم يوجد لا يحنث .
و قوله هذه الدار إشارة إلى المعين الحاضر فيراعى فيه ذات المعين لا صفته لأن الوصف للتعريف و الإشارة كافية للتعريف و ذات الدار قائمة بعد الانهدام لأن الدار في اللغة اسم للعرصة و العرصة قائمة والدليل على أن الدار اسم للعرصة بدون البناء قول النابغة : .
( يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت فطال عليها سالف الأبد ) .
( ألا أواري لأيا ما أبينها ... و النؤى كالحوض بالمظلومة الجلد ) .
سماها دارا بعدما خلت من أهلها و خرجت و لم يبق فيها الأواري و النؤى و لو أعيد البناء فدخلها يحنث أما في المعين فلا شك فيه لأنه لو دخلها بدون البناء يحنث فمع البناء أولى و أما في المنكر فلوجود الاسم و الصفة و هي البناء و إن بنيت مسجدا أو حماما أو بستانا فدخله لا يحنث لأن اسم الدار قد بطل .
ألا ترى أنه لا يسمى دارا فبطلت اليمين و لو أعادها دارا فدخلها لا يحنث لأنها غير الدار الأولى .
و عن أبي يوسف : إذا قال و الله لا أدخل هذا المسجد فهدم فصار صحراء ثم دخله فأنه يحنث قال هو مسجد و إن لم يكن مبينا و لأن المسجد عبارة عن موضع السجود و ذلك موجود في الخراب و لهذا قال أبو يوسف أن المسجد إذا خرب و استغنى الناس عنه أنه يبقى مسجدا إلى يوم القيام .
و لو حلف لا يدخل هذا البيت أو بيتا فدخله بعدما انهدم و لا بناء فيه لا يحنث لأن البيت اسم مشتق من البيتوتة سمي بيتا لأنه يبات فيه و لا يبات إلا في البناء و لهذا تسمي العرب الأخبية بيوتا فصار البناء فيه في حق استحقاق الاسم ملتحقا بذات المسمى كاسم الطعام للمائدة و الشراب للكأس و العروس للأريكة فيزول الاسم بزواله و لو بنى بيتا آخر فدخله لا يحنث أيضا في المعين لأن المعاد عين أخرى غير الأول فلا حنث بالدخول فيه و في غير المعين يحنث لوجود الشرط و هو دخول البيت و لو انهدم السقف و حيطانه قائمة فدخله يحنث في المعين و لا يحنث في المنكر لأن السقف بمنزلة الصفة فيه و هي في الحاضر لغو و في الغائب معتبرة .
و لو حلف لا يدخل في هذا الفسطاط و هو مضروب في موضع فقلع و ضرب في موضع آخر فدخل فيه يحنث و كذلك القبة من العيدان و نحوه و كذلك درج من عيدان بدار أو منبر لأن الاسم في هذه الأشياء لا يزول بنقلها من مكان إلى مكان : و من هذا الجنس من حيث المعنى إذا حلف لا يجلس إلى هذه الأسطوانة أو إلى هذا الحائط فهدما ثم بنيا بنقضهما لم يحنث لأن الحائط إذا هدم زال الاسم عنه و كذا الأسطوانة فبطلت اليمين وكذا إذا حلف لا يكتب بهذا القلم فكسره ثم براه فكتب به لأن غير المبري لا يسمى قلما و إنما يسمى أنبوبا فإذا كسر فقد زال الاسم فبطلت اليمين .
و كذلك إذا حلف على مقص فكسره ثم جعله مقصا غير ذلك لأن الاسم قد زال بالكسر .
و كذلك كل سكين و سيف و قدر كسر ثم صنع مثله و لو نزع مسمار المقص و لم يكسره ثم أعاد فيه مسمارا آخر حنث لأن الاسم لم يزل بزوال المسمار و كذلك إذا نزع نصاب السكين و جعل عليه نصابا آخر لأن السكين اسم للحديد .
و لو حلف على قميص لا يلبسه أو قباء محشوا أو مبطنا أو جبة مبطنة أو محشوة أو قلنسوة أو خفين فنقض ذلك كله ثم أعاده يحنث لأن الاسم بقي بعد النقض يقال قميص منقوض و جبة منقوضة و اليمين المنعقدة على العين لا تبطل بتغير الصفة مع بقاء اسم العين .
و كذلك لو حلف لا يركب هذا السرج ففتقه ثم أعاده و لو حلف لا يركب هذه السفينة فنقضها ثم استأنف بذلك الخشب فركبها لا يحنث لأنها لا تسمى سفينة بعد النقض و زوال الاسم يبطل اليمين .
و لو حلف لا ينام على هذا الفراش ففتقه و غسله ثم حشاه بحشو و خاطه و نام عليه حنث لأن فتق الفراش لا يزيل الاسم عنه .
و لو حلف لا يلبس شقة خز بعينها فنقضها و غزلت و جعلت شقة أخرى لم يحنث لأنها إذا نقضت صارت خيوطا و زال الاسم عن المحلوف عليه .
و لو حلف على قميص لا يلبسه فقطعه جبة محشوة فلبسه لا يحنث لأن الاسم قد زال فزالت اليمين .
و لو حلف لا يقرأ في هذا المصحف فخلعه ثم لف ورقه و غرز دفتيه ثم قرأ فيه يحنث لأن اسم المصحف باق و إن فرق .
و لو حلف على نعل لا يلبسها فقطع شراكها و شركها بغيره ثم لبسها حنث لأن اسم النعل يتناولها بعد قطع الشراك .
و لو حلفت امرأة لا تلبس هذه الملحفة فخيط جانبها فجعلت درعا و جعل لها جيبا ثم لبستها لم تحنث لأنها درع و ليست بملحفة فإن أعيدت ملحفة فلبستها حنثت لأنها عادة ملحفة بغير تأليف و لا زيادة و لا نقصان فهي على ما كانت عليه .
و قال ابن سماعة عن محمد : في رجل حلف لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه فدخلها لم يحنث لأن اليمين وقعت على بقعة معينة فلا يحنث بغيرها و لو قال مسجد بني فلان ثم زيد فيه فدخل ذلك الموضع الذي زيد فيه حنث و كذلك الدار لأنه عقد يمينه على الإضافة و ذلك موجود في الزيادة .
و لو حلف لا يدخل بيتا فدخل مسجدا أو بيعة أو كنيسة أو بيت نار أو دخل الكعبة أو حماما أو دهليزا أو ظلة باب دار لا يحنث لأن هذه الأشياء لا تسمى بيتا على الإطلاق عرفا و عادة و إن سمى الله عز و جل الكعبة بيتا في كتابه في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } و سمى المساجد بيوتا حيث قال تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه } لأن مبنى الإيمان على العرف و العادة لا على نفس إطلاق الاسم .
ألا ترى أن من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث و إن سماه الله تعالى لحما في كتابه الكريم بقوله عز و جل : { لتأكلوا منه لحما طريا } لما لم يسم لحما في عرف الناس و عاداتهم كذا هذا .
و قيل : الجواب المذكور في مثل الدهليز في دهليز يكون خارج باب الدار لأنه لا يبات فيه فإن كان داخل البيت و تمكن فيه البيتوتة يحنث و الصحيح ما أطلق في الكتاب لأن الدهليز لا يبات فيه عادة سواء كان خارج الباب أو داخله و لو دخل صفة يحنث كذا ذكر في الكتاب .
و قيل : إنما وضع المسألة على عادة أهل الكوفة لأن صفافهم تغلق عليها الأبواب فكانت بيوتا لوجود معنى البيت و هو ما يبات فيه عادة و لذا سمي ذلك بيتا عرفا و عادة فأما على عادة أهل بلادنا فلا يحنث لانعدام معنى البيت و انعدام العرف و العادة و التسمية أيضا .
و لو حلف لا يدخل من هذه الدار فدخلها من غير الباب لم يحنث لعدم الشرط و هو الدخول من الباب فإن نقب للدار بابا آخر فدخل يحنث لأنه عقد يمينه على الدخول من باب منسوب إلى الدار و قد وجد و الباب الحادث كذلك فيحنث و إن عنى به الباب الأول يدين فيما بينه و بين الله تعالى لأن لفظه يحتمله و لا يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر حيث أراد بالمطلق المقيد و إن عين الباب فقال : لا أدخل من هذا الباب فدخل من باب آخر لا يحنث و هذا مما لا شك فيه لأنه لم يوجد الشرط .
و لو حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا يسكنها فلان بملك أو إجارة أو إعارة فهو سواء يحنث في يمينه ذكر ذلك أبو يوسف و ذكر محمد في الأصل وضع المسألة في المستأجر و هذا قول أصحابنا .
و قال الشافعي : لا يحنث .
وجه قوله دار فلان إضافة ملك إذ الملك في الدار للآجر و إنما المستأجر ملك المنفعة فلا يتناوله اليمين .
و لنا : أن الدار المسكونة بالإجارة و الإعارة تضاف إلى المستأجر و المستعير عرفا و عادة و الدليل عليه أيضا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنه مر بحائط فأعجبه فقال لمن هذا فقال رافع بن خديج لي يا رسول الله استأجرته ] أضافه إلى نفسه و لم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد ثبتت الإضافة عرفا و شرعا فأما إذا حلف لا يدخل دارا لفلان فدخل دارا له قد آجرها لغيره .
قال محمد : يحنث لأنه حلف على دار يملكها فلان و الملك له سواء كان يسكنها أو لا يسكنها .
و روى هشام عن محمد : أنه لا يحنث لأنها تضاف إلى الساكن بالسكنى فسقط إضافة الملك و الجواب أنه غير ممتنع أن تضاف دار واحدة إلى المالك بجهة المالك و إلى الساكن بجهة السكنى لأنه عند اختلاف الجهة تذهب الاستحالة .
فإن قال : لا أدخل حانوتا لفلان فدخل حانوتا له قد آجره فإن كان فلان ممن له حانوت يسكنه فإنه لا يحنث بدخول هذا الحانوت لأنه يضاف إلى ساكنه و لا يضاف إلى مالكه و إن كان المحلوف عليه لا يعرف بسكنى حانوت يحنث لأنا نعلم أنه أراد به إضافة الملك لا إضافة الملك لا إضافة السكنى كما يقال : حانوت الأمير و إن كان لا يسكنها الأمير .
و إن حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا بين فلان و بين آخر فإن كان فلان فيها ساكنا حنث و إن لم يكن ساكنا لا يحنث لأنه إذا كان ساكنا فيها كانت مضافة إليه بالسكنى و إن لم يملك شيئا منها فإذا ملك نصفها أولى و إذا لم يسكن فيها كانت الإضافة إضافة الملك و الكل غير مضاف إليه و فرق بين هذا و بين ما إذا حلف لا يزرع أرضا لفلان فزرع أرضا بينه و بين غيره أنه يحنث لأن كل جزء من الأرض يسمى أرضا و بعض الدار لا يسمى دارا .
و لو حلف لا يدخل بيت فلان و لا نية له فدخل داره و فلان فيها ساكن لا يحنث حتى يدخل البيت لأن البيت اسم لموضع يبات فيه عادة و لا يبات في صحن الدار عادة فإن نواه يصدق لأنه شدد على نفسه .
و قال ابن رستم : قال محمد في رجل حلف لا يدخل دار رجل بعينه مثل دار عمرو بن حريث و غيرها من الدور المشهورة بأربابها فدخل الرجل و قد كان باعها عمرو بن حريث أو غيره ممن تنسب قبل اليمين إليه ثم دخلها الحالف بعد ذلك حنث لأن الدور المشهورة إنما تضاف إلى أربابها على طريق النسبة لا على طريق الملك و زوال الملك لا يوجد بطلان اليمين و إن كانت هذه اليمين على دار من هذه الدور التي ليست لها نسبة تعرف بها لم يحنث في يمينه لأنه يراد بهذه الإضافة الملك لا النسبة فإذا زال الملك زالت الإضافة .
و قال ابن رستم عن محمد : في رجل حلف لا يدخل هذه الحجرة فكسرت الحجرة فدخلها بعدما كسرت لا يحنث و ليست الحجرة كالدار لأن الحجرة اسم لما حجر بالبناء فكان كالبيت فإذا انهدمت فقد زال الاسم و قال ابن رستم عن محمد : في رجل حلف لا يدخل دار فلان فصعد السطح يحنث لأن سطح الدار منها إلا أن يكون نوى صحن الدار فلا يحنث فيما بينه و بين الله لأنهم قد يذكرون الدار و يريدون به الصحن دون غيره فقد نوى ما يحتمله كلامه .
و لو حلف لا يدخل هذا المسجد فصعد فوقه حنث لأن سطح المسجد من المسجد ألا ترى لو انتقل المعتكف إليه لا يبطل اعتكافه فإن كان فوق المسجد مسكن لا يحنث لأن ذلك ليس بمسجد و لو انتقل المعتكف إليه بطل اعتكافه و لو حلف لا يدخل هذه الدار إلا مجتازا .
قال ابن سماعة روى عن أبي يوسف : أنه دخل و هو لا يريد الجلوس فإنه لا يحنث لأنه عقد يمينه على كل دخول و استثنى دخولا بصفة و هو ما يقصد به الاجتياز و قد دخل على الصفة المستثناة فإن دخل يعود مريضا و من رأيه الجلوس عنده حنث لأنه دخل لا على الصفة المستثناة فإن دخل لا يريد الجلوس ثم بدا له بعد ما دخل فجلس لا يحنث لأنه لم يحنث حين دخوله لوجوده على الوصف المستثنى و لم يوجد الدخول بعد ذلك إذ المكث ليس بدخول فلا يحنث و ذكر في الأصل إذا حلف لا يدخل هذه الدار إلا عابر سبيل فدخلها ليعقد فيها أو ليعود مريضا فيها أو ليطعم فيها و لم يكن له نية حين حلف فإنه يحنث و لكن إن دخلها مجتازا ثم بدا له فقعد فيها لم يحنث لأن عابر السبيل هو المجتاز فإذا دخلها لغير اجتياز حنث قال : إلا أن ينوي لا يدخلها يريد النزول فيها فإن نوى ذلك فإنه يسعه لأنه قد يقال دخلت عابر سبيل بمعنى أني لم أدم على الدخول و لم أستقر فقد نوى ما يحتمله كلامه .
و لو حلف لا يطأ هذه الدار بقدمه فدخلها راكبا يحنث لأنه قد يراد به الدخول في العرف لا مباشرة قدمه الأرض ألا ترى أنه لو كان في رجله حذاء نعل يحنث فعلم أن المراد منه الدخول .
و إن حلف لا يضع قدمه في هذه الدار فدخلها راكبا حنث لأن وضع القدم في عرف الاستعمال صار عبارة عن الدخول فإن كان نوى أن لا يضع قدمه ماشيا فهو على ما نوى لأنه نوى حقيقة كلامه فيصدق و كذلك إذا دخلها ماشيا و عليه حذاء أو لا حذاء عليه لما قلنا و روى هشام عن محمد فيمن حلف لا يدخل هذه الدار فدخل حانوتا مشرعا من هذه الدار إلى الطريق و ليس له باب في الدار فإنه يحنث لأنه من جملة ما أحاطت به الدائرة .
قال هشام : و سألت أبا يوسف إن دخل بستانا في تلك الدار قال : لا يحنث و هذا محمول على بستان متصل بالدار فإذا كان في وسط الدار يحنث لإحاطة الدائرة به هكذا روي عن محمد .
و قال ابن سماعة في نوادره عن محمد في رجل حلف لا يدخل دار فلان فحفر سربا فبلغ داره و حفر تحت دار فلان حتى جاوزها فدخل الحالف ذلك السرب حتى مضى فيه تحت دار فلان فإنه لا يحنث إلا أن يكون من هذه القناة مكان مكشوف إلى الدار يستقي منه أهل الدار فدخل الحالف القناة فبلغ ذلك المكشوف فيحنث و إن لم يبلغ لم يحنث و إن كان المكشوف شيئا قليلا لا ينتفع به أهل الدار و إنما هو للضوء فمر الحالف بالقناة حتى بلغ الموضع فليس بحانث لأن القناة تحت الدار إذا لم يكن لها منفذ لا تعد من الدار لأن المقصود من دخول داره إما كرامة و إما هتك حرمة و ذلك لا يوجد فيما لا منفذ له و إذا كان لها منفذ يستقي منه الماء فإنه يعد من مرافق الدار بمنزلته بئر الماء فإذا بلغ إليه كان كمن دخل في بئر داره و إذا كان لا ينتفع به إلا للضوء لا يكون من مرافق الدار فلا يصير بدخوله داخلا في الدار فلا يحنث .
و لو دخل فلان سربا تحت داره وجعله بيوتا و جعل له أبوابا إلى الطريق فدخلها رجل حلف لا يدخل دار فلان فهو حانث لأن السرب تحت الدار من بيوت الدار و لو عمد فلان إلى بيت من داره أو بيتين فسد أبوابهما من قبل داره و جعل أبوابها إلى دار الحالف فدخل الحالف هذين البيتين فإنه لا يحنث لأنه لما جعل أبوابهما إلى دار الحالف فقد صارت منسوبة إلى الدار الأخرى .
و قال ابن سماعة في السرب : إذا كان بابه إلى الدار و محتفره في دار أخرى أنه من الدار التي مدخله إليها و بابه إليها لأنه بيت من بيوتها .
و قال ابن سماعة عن أبي يوسف : في رجل حلف لا يدخل بغداد فانحدر من الموصل في سفينة فمر بدجلة لا يحنث فإن خرج فمضى فمشى على الجسر حنث و إن قدم إلى الشط و لم يخرج لم يحنث و لم يكن مقيما إن كان أهله ببغداد و إن خرج إلى الشط حنث .
و قال ابن سماعة عن محمد : إذا انحدر في سفينة من الموصل إلى البصرة فمر في شط الدجلة فهو حانث فصارت المسألة مختلفة بينهما .
وجه قول محمد : أن الدجلة من البلد بدليل أنه لو عقد عليها جسر كانت من البلد فكذا إذا حصل في هذا الموضع في سفينة .
و لأبي يوسف : أن موضع ليس موضع قرار فلا يكون مقصودا بعقد اليمين على الدخول فلا تنصرف اليمين إليه .
قال بشر عن أبي يوسف في رجل قال لامرأته : إن دخلت هذه الدار و لم تعطيني ثوب كذا فأنت طالق فدخلت الدار ثم أعطته الثوب بعد ذلك فإن الطلاق يقع عليها و إن كانت أعطته الثوب قبل أن تدخل لم يقع عليها الطلاق لأنه جعل شرط وقوع الطلاق دخولها الدار لا على صفة الإعطاء و هو أن لا يكون الزوج معطى حال الدخول لأن هذه الواو للحال بمنزلة قوله : إن دخلت الدار و أنت راكبة أنه يعتبر كونها راكبة حال الدخول و لا يعتبر الركوب بعده كذا هذا .
و كذلك لو قال : إن خرجت و لم تأكلي أو خرجت و ليس عليك إزار أو خرجت و لم تتخمري لما قلنا .
و لو قال لها : إن لم تعطني هذا الثوب و دخلت هذه الدار فأنت طالق و لا نية له فإن الطلاق لا يقع عليها حتى يجتمع الأمران جميعا و هو أن لا تعطيه الثوب إلى أن يموت أحدهما أو يهلك الثوب و تدخل الدار فإذا اجتمع هذان وقع الطلاق و إلا فلا لأنه جعل ترك العطية و الدخول جميعا شرطا لوقوع الطلاق لأن قوله : و دخلت الدار شرط معطوف على ترك العطية و ليس بوصف له فيتعلق وقوع الطلاق بوجودهما ثم لا يتحقق الترك إلا بموت أحدهما أو بهلاك الثوب فإذا مات أحدهما أو هلك الثوب و دخلت الدار فقد وجد الشرطان فيحنث .
و لو قال : و الله لا تدخلين هذه الدار و لا تعطيني هذا الثوب فأيهما فعلت حنث لأن كلمة النفي دخلت على كل واحد منهما على الانفراد فيقتضي انتفاء كل واحد منهما على الانفراد كما في قوله تعالى : { فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج } و من هذا الجنس ما روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن قال : و الله لا أشتري بهذا الدرهم غير لحم فاشترى بنصفه لحما و بنصفه خبزا يحنث استحسانا و لا يحنث في القياس .
وجه القياس : أنه جعل شرط حنثه أن يشتري بجميع الدرهم غير اللحم و ما اشترى بجميعه بل ببضعه فلم يوجد شرط الحنث فلا يحنث .
وجه الاستحسان : أن مبنى الأيمان على العادة و عادة الناس أنهم يريدون بمثل هذا الكلام أن يشتري الحالف بجميع الدرهم اللحم ولم يشتر بجميعه اللحم فيحنث فإن كان نوى أن لا يشتري به كله غير اللحم لم يحنث و يدين في القضاء لأنه نوى ظاهر كلامه فيصدق .
و لو قال : و الله لا أشتري بهذا الدرهم إلا لحما فلا يحنث حتى يشتري بالدرهم كله غير لحم و هذا يؤيد وجه القياس في المسألة الأولى لأن [ إلا ] و غير كلاهما من ألفاظ الاستثناء و أنا أقول : قضية القياس هذا في المسألة الأولى ألا يرى أنه نوى أن يشتري به كله غير اللحم صدق في القضاء لأنا تركنا هذا القياس هناك للعرف و العادة و لا عرف ههنا يخالف القياس فعمدنا للقياس فيه .
و لو قال و الله لا أشتري بهذا الدرهم إلا ثلاثة أرطال لحم فاشترى ببعض الدرهم لحما أقل من ثلاثة أرطال و ببقيته غير لحم حنث لأن قوله و الله لا أشتري بهذا الدرهم يقع على كل شراء بهذا الدرهم ثم استثنى من هذه الجملة شراء بصفة و هو أن يشتري به ثلاثة أرطال و لم يوجد فلم يوجد المستثنى فبقي ما شراه داخلا في اليمين فيحنث به و من هذا القبيل ما إذا قال لرجين : و الله لا تبيتان إلا في بيت فبات أحدهما في بيت و الآخر في بيت آخر حنث لأنه جعل شرط حنثه بيتوتتهما جميعا في غير بيت واحد وقد باتا في غير بيت واحد لأنهما باتا في بيتين فوجد شرط الحنث فهو الفرق .
و ذكر محمد في الجامع في رجل قال : إن كنت ضربت هذين الرجلين إلا في دار فلان فعبدي حر و قد ضرب واحدا منهما في دار فلان و واحدا في غيرها فإنه لا يحنث لأنه جعل شرط حنثه ضربهما في غير دار فلان و لم يوجد .
و لو قال : إن لم أكن ضربته هذين السوطين في دار فلان فعبدي حر و المسألة بحالها حنث لأن شرط الحنث أن يجتمع الشرطان في دار فلان و لم يجتمعا فيحنث و لو حلف لا يدخل على فلان فدخل عليه بيته فإن قصده بالدخول يحنث و إن لم يقصده لا يحنث و كذلك إذا دخل عليه بيت غيره و إنما اعتبر القصد ليكون داخلا عليه لأن الإنسان إنما يحلف أن لا يدخل على غيره استخفافا به و تركا لإكرامه عادة و ذا لا يكون إلا مع القصد .
و ذكر الكرخي عن ابن سماعة في نوادره خلاف هذا فقال في رجل قال : و الله لا أدخل على فلان بيتا فدخل بيتا على قوم و فيهم فلان و لم يعلم به الحالف فإنه حانث بدخوله فلم يعتبر القصد للدخول على فلان لاستحالة القصد بدون العلم و وجهه أنه جعل شرط الحنث الدخول على فلان و العلم بشرط الحنث ليس بشرط في الحنث كمن حلف لا يكلم زيدا فكلمه و هو لا يعرف أنه زيد و ظاهر المذهب ما تقدم و لو علم أنه فيهم فدخل ينوي الدخول على القوم لا عليه لا يحنث فيما بينه و بين الله عز و جل لأنه إذا قصد غيره لم يكن داخلا عليه و لا يصدق في القضاء لأن الظاهر دخوله على الجماعة و ما في اعتقاده لا يعرفه القاضي فإن دخل عليه في مسجد أو ظلة أو سقيفة أو دهليز دار لم يحنث لأن ذلك يقع على الدخول المعتاد و هو الذي يدخل الناس بعضهم على بعض و لا يكون ذلك إلا في البيوت فإن دخل عليه في فسطاط أو خيمة أو بيت شعر لم يحنث إلا أن يكون الحالف من أهل البادية لأنهم يسمون ذلك بيتا و التعويل في هذا الباب على العرف و العادة .
و قال ابن سماعة عن محمد : إذا حلف لا يدخل على فلان هذه الدار فدخل الدار و فلان في بيت من الدار لا يحنث و إن كان في صحن الدار يحنث لأنه لا يكون داخلا عليه إلا إذا شاهده .
ألا ترى أن السقا يدخل دار الأمير و لا يقال إنه دخل على الأمير و في الأول شاهده و في الثاني لم يشاهده و كذا لو حلف لا يدخل على فلان هذه القرية أنه لا يكون داخلا عليه إلا إذا دخل في بيته و تخصيص القرية يمنع وقوع الحنث بالدخول في غيرها .
و قال ابن رستم عن محمد : إذا قال و الله لا أدخل على فلان و لم يذكر بيتا و لا غيره فدخل عليه فسطاطا أو دارا حنث و هذا محمول على أن من عادة فلان أن يدخل عليه في الفساطيط و إن دخل عليه في المسجد أو الكعبة أو الحمام لا يحنث لأن المقصود بهذه اليمين الامتناع من الدخول في المواضيع التي يكرم الناس بالدخول عليه فيها و هذا لا يوجد في الحمام و الكعبة و المسجد .
قال محمد : و لو دخل على فلان بيته و هو يريد رجلا غيره يزوره لم يحنث لأنه لم يدخل على فلان لما لم يقصده و إن لم يكن له نية حنث لأنه يكون داخلا على كل من في الدار فيحنث كمن حلف لا يسلم على رجل فسلم على جماعة و هو فيهم و لا نية له .
قال بشر : سمعت أبا يوسف يقول فيمن قال لا مرأته إن دخلت هذه الدار و خرجت منها فأنت طالق فاحتملها إنسان و هي كارهة فأدخلها ثم خرجت من قبل نفسها ثم دخلتها و لم تخرج وقع الطلاق لأن الواو لا تقتضي الترتيب لأنها للجمع المطلق و لا عادة في تقدم أحد الشرطين على الآخر فيتعلق الطلاق بوجودهما من غير مراعاة الترتيب و كذلك القيام و القعود و السكوت و الكلام و الصوم و الإفطار و نحو ذلك لما قلنا .
و لو قال لها : إن حضت و طهرت فأنت طالق فطهرت من هذا الحيض ثم حضت لم يقع الطلاق حتى تطهر و لا يقع الطلاق في هذا المواضيع حتى يتقدم الحيض الطهر .
و كذلك إذا قال لها : إذا حبلت و ولدت و هي حبلى و كذلك إذا قال : إذا زرعت و حصدت لا بد من تقدم الزرع الحصاد و الحمل الولادة و الحيض الطهر لأن أحد الأمرين يتعقب الآخر عادة فلزم مراعاة الترتيب بالعادة .
و لو قال لامرأته إن تزوجتك و طلقتك فعبدي حر و لا نية له فطلقها واحدة بائنة ثم تزوجها عتق عبده لأنها لا تحتمل التزوج للحال لكونها زوجة له و تحتمل الطلاق فيراعى فيه معنى الجمع المطلق لا الترتيب و متى طلقها و تزوجها فقد جمع بينهما فوجد الشرط