الحلف على الكلام .
فصل : و أما الحلف على الكلام فالمحلوف عليه و هو الكلام قد يكون مؤبدا و قد يكون مطلقا و قد يكون مؤقتا أما المؤبد فهو أن يحلف أن لا يكلم فلانا أبدا فهو على الأبد لا شك فيه لأنه نص عليه .
و أما المطلق فهو أن يحلف أن يكلم فلانا و لا يذكر الأبد و هذا أيضا على الأبد حتى لو كلمه في أي وقت كلمه في ليل أو نهار و في أي مكان كان و على أي حال حنث لأنه منع نفسه من كلام فلان ليبقى الكلام من قبله على العدم و لا يتحقق العدم إلا بالامتناع من الكلام في جميع العمر فإن نوى شيئا دون شيء بأن نوى يوما أو وقتا أو بلدا أو منزلا لا يدين في القضاء و لا فيما بينه و بين الله عز و جل لأنه نوى تخصيص ما ليس بملفوظ فلا يصدق رأسا ولا يحنث حتى يكون منه كلام مستأنف بعد اليمين فينقطع عنها فإن كان موصولا لم يحنث بأن قال إن كلمتك فأنت طالق فاذهبي أو فقومي فلا يحنث بقوله فاذهبي أو فقومي كذا قال أبو يوسف لأنه متصل باليمين و هذا لأن قوله : لا أكلم أو إن كلمتك يقع على الكلام المقصود اليمين و هو ما يستأنف بعد تمام الكلام الأول و قوله : فاذهبي أو فقومي و إن كان كلاما حقيقية فليس بمقصود باليمين فلا يحنث به و لأنه لما ذكره بحرف العطف دل أنه ليس بكلام مبتدأ وكذا إذا قال و اذهبي لما قلنا فإذا أراد به كلاما مستأنفا يصدق لأنه كلام حقيقة و فيه تشديد على نفسه و أن أراد بقوله : فاذهبي الطلاق فإنها تطلق بقوله : فاذهبي لأنه من كنايات الطلاق و يقع عليها تطليقة أخرى باليمين لأنه لما نوى به الطلاق فقد صار كلاما مبتدأ فيحنث به و إن كان في الحال التي حلف ما يدل على تخصيص اليمين كانت خاصة بأن قال له رجل كلم لي زيدا اليوم في كذا فيقول : و الله لا أكلمه يقع هذا على اليوم دون غيره بدلالة الحال .
و على هذا قالوا لو قال ائتني اليوم فقال امرأتي طالق إن أتيتك فهذا على اليوم و كذا إذا قال ائتني في منزلي فحلف بالطلاق لا يأتيه فهو على المنزل وهذا إذا لم يطل الكلام بين دلالة التخصيص و بين اليمين فإن طال كانت اليمين على الأبد .
فإن قال : لم لا تلقني في المنزل وقد أسأت في تركك لقائي وقد أتيتك غير مرة فلم ألقك فقال الآخر امرأته طالق إن أتاك فهذا على الأبد و على كل منزل لأن الكلام كثير فيما بين ابتدائه بذكر المنزل و بين المنزل و بين الحلف فانقطعت اليمين عنه وصارت يمينا مبتدأة فإن نوى هذا الاتيان في المنزل دين فيما بينه و بين الله تعالى و لم يدين في القضاء لأنه يحتمله كلامه لكنه خلاف الظاهر و لو صلى الحالف خلف المحلوف عليها فسها الإمام فسبح به أو فتح عليه بالقراءة لم يحنث لأن هذا لا يسمى كلاما في العرف و إن كان كلاما في الحقيقة ألا ترى أن الكلام العرفي يبطل الصلاة و هذا لا يبطلها .
وقد قالوا فيمن حلف : لا يتكلم فصلى أن القياس أن يحنث لأن التكبير والقراءة كلام حقيقة و في الاستحسان : لا يحنث لأنه لا يسمى كلاما عرفا ألا ترى أنهم يقولون فلان لا يتكلم في صلاته و إن كان قد قرأ فيها و لو قرأ القرآن خارج الصلاة يحنث لأنه تكلم حقيقة .
و قيل هذا إذا كان الحالف من العرب فإن كان الحالف من العجم أو كان لسانه غير لسان العرب لا يحنث سواء قرأ في الصلاة أو خارج الصلاة لأنه لا يعد متكلما و لو سبح تسبيحة أو كبر أو هلل خارج الصلاة يحنث عندنا وعند الشافعي : لا يحنث والصحيح قولنا لأنه وجد الكلام حقيقة إلا أنا تركنا الحقيقة حالة الصلاة بالعرف ولا عرف خارج الصلاة .
وقيل هذا في عرفهم فأما في عرفنا فلا يحنث خارج الصلاة أيضا لأنه لا يسمى كلاما في الحالين جميعا .
و لو فتح عليه في غير الصلاة حنث لأنه كلام حقيقة إلا أنه ترك الحقيقة في الصلاة للعرف فإن كان الإمام هو الحالف و المحلوف عليه خلفه فسلم لم يحنث بالتسليمة الأولى و إن كان على يمينه و نواه لأنه في الصلاة و سلام الصلاة لا يعد كلاما كتكبيرها و القراءة فيها .
ألا ترى أنه لا يفسد الصلاة و لو كان من كلام الناس لكان مفسدا و إن كان على يساره فنواه اختلف المشايخ فيه قد قال بعضهم يحنث وقال بعضهم لا يحنث و إن كان المقتضى هو الحالف فكذلك في قول أبي حنيفة و أبي يوسف بناء على أن المقتدى لا يصير خارجا عن الصلاة بسلام الإمام عندهما وعند محمد يحنث لأنه خارج عن صلاته بسلام الإمام عنده فقد تكلم كلاما خارج الصلاة فيحنث و لو مر الحالف على جماعة فيهم المحلوف عليه فسلم عليهم حنث لأنه كلم جماعتهم بالسلام فإن نوى القوم دونه لم يحنث فيما بينه و بين الله تعالى لأن ذكر الكل على إرادة البعض جائز و لا يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر و لو نبه الحالف المحلوف عليه من النوم حنث و إن لم ينتبه لأن الصوت يصل إلى سمع النائم لكنه لا يفهم فصار كما لو كلمه و هو غافل و لأن مثل هذا يسمى كلاما في العرف كتكلم الغافل فيحنث و لو دق عليه الباب فقال من هذا أو من أنت حنث لأنه كلمه بالاستفهام .
و لو كان في مكانين فدعاه أو كلمه فإن كان ذلك بحيث يسمع مثله لو أصغى إليه فإنه يحنث و إن لم يسمعه و إن كان في موضع لا يسمع في مثله عادة فإن أصغى إليه لبعد ما بينهما لم يحنث لأن الموضع إذا كان قريبا بحيث يسمع مثله عادة يسمى مكلما إياه لما ذكرناه و إن لم يسمع لعارض و ليس كذلك إذا كان بعيدا و لأنه إذا كان قريبا يحمل على أنه وصل الصوت إلى سمعه لكنه لم يفهمه فأشبه الغافل و إذا كان بعيدا لا يصل إليه رأسا .
و قالوا : فيمن حلف لا يكلم إنسانا فكلم غيره و هو يقصد أن يسمعه لم يحنث لأن مثل هذا لا يسمى مكلما إياه إذا لم يقصده بالكلام و لو حلف لا يكلم امرأته فدخل داره و ليس فيها غيرها فقال من وضع هذا أو أين هذا حنث لأنه كلمها حيث استفهم و ليس هناك غيرها لئلا يكون لاغيا فإن كان في الدار غيرها لم يحنث لجواز أنه استفهم غيرها .
فإن قال : ليت شعري من وضع هذا لم يحنث لأنه لم يكلمها و إنما كلم نفسه و لو حلف لا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا فانتهى الكتاب إليه أو أرسل إليه رسولا فبلغ الرسالة إليه لا يحنث لأن الكتابة لا تسمى كلاما و كذا الرسالة .
و أما الموقت فنوعان معين و مبهم : .
أما المعين فنحو أن يحلف الرجل بالليل لا يكلم فلانا يوما فيحنث بكلامه من حين حلف إلى أن تغيب الشمس من الغد فيدخل في يمينه بقية الليل حتى لو كلمه فيما بقي من الليل أو في الغد يحنث لأن قوله لا أكلم فلانا يقع على الأبد و يقتضي منع نفسه عن كلام فلان أبدا لولا قوله : يوما فكان قوله : يوما لإخراج ما وراءه عن اليمين فيبقى زمان ما بعد اليمين بلا فصل داخلا تحتها فيدخل فيها بقية تلك الليلة .
و كذلك لو حلف بالنهار لا يكلمه ليلة أنه يحنث بكلامه من حين حلف إلى طلوع الفجر لما قلنا .
و لو حلف في بعض النهار لا يكلمه يوما فاليمين على بقية اليوم و الليلة المستقبلة إلى مثل تلك الساعة التي حلف فيها من الغد لأنه حلف على يوم منكر فلا بد من استيفائه و لا يمكن استيفائه إلا بتمامه من اليوم الثاني فيدخل الليل من طريق التبع .
و كذلك إذا حلف ليلا لا يكلمه ليلة فاليمين من تلك الساعة إلى أن يجيء مثلها من الليلة المقبلة و يدخل النهار الذي بينهما في ذلك لأنه حلف على ليلة منكرة فلا بد من الاستيفاء منها و ذلك فيما قلنا .
فإن قال في بعض اليوم : و الله لا أكلمك اليوم فاليمين على باقي اليوم فإذا غربت الشمس سقطت اليمين و كذلك إذا قال بالليل : و الله لا أكلمك الليلة فإذا طلع الفجر سقطت لأنه حلف على زمان معين لأنه أدخل لام التعريف على اليوم و الليلة فلا يتناول غير المعرف بخلاف قوله يوما لأنه ذكر اليوم منكرا فلا بد من استيفائه و ذلك من اليوم الثاني .
و لو حلف لا يكلمه شهرا يقع على ثلاثين يوما و لو قال الشهر يقع على بقية الشهر و لو حلف لا يكلمه السنة يقع على بقية السنة و لو قال و الله لا أكلمك اليوم و لا غدا فاليمين على بقية اليوم و على غد و لا تدخل الليلة التي بينها في اليمين روى ذلك ابن سماعة عن أبي يوسف و محمد لأنه أفراد كل واحد من الوقتين بحرف النفي فيصير كل واحد منهما منفيا على الانفراد أصله قوله تعالى : { فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج } فلا تدخل الليلة المتخللة بين الوقتين و لو قال و الله لا أكلمك اليوم و غدا دخلت الليلة التي بين اليوم و الغد في يمينه لأن ههنا جمع بين الوقت الثاني و بين الأول بحرف الجمع و هو الواو فصار وقتا واحدا فدخلت الليلة المتخللة .
و روى بشر عن أبي يوسف : أن الليلة لا تدخل لأنه عقد اليمين على النهار و لا ضرورة توجب إدخال الليل فلا يدخل و لو حلف لا يكلمه يومين تدخل فيه الليلة سواء كان قبل طلوع الفجر أو بعده و كذلك الجواب في الليل و لو قال و الله لا أكلمك يوما و لا يومين فهو مثل قوله و الله لا أكلمك ثلاثة أيام في قول أبي حنيفة و محمد حتى لو كلمه في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث يحنث و كذلك روى بشر عن أبي يوسف هكذا ذكر الكرخي في مختصره .
و ذكر محمد في الجامع أنه على يومين حتى لو كلمه في اليوم الأول أو الثاني يحنث و إن كلمه في اليوم الثالث لا يحنث وجه ما ذكره الكرخي ظاهر لأنه عطف اليومين على اليوم و المعطوف غير المعطوف عليه فاقتضى يومين آخرين غير الأول فصار كأنه قال و الله لا أكلم فلانا يوما و يومين أو قال ثلاثة أيام وجه ما ذكره محمد في الجامع أن كل واحد منهما يمين مفردة لانفراد كل واحد منهما بكلمة النفي و الواو للجمع بين اليمينين و صار تقديره لا أكلم فلانا يوما و لا أكلمه يومين لئلا تلغو كلمة النفي فصار لكل يمين مدة على حدة فصار على اليوم الأول يمينان وعلى اليوم الثاني يمين واحد بخلاف ما إذا قال : و الله لا أكلم فلانا يوما و يومين فكلمه في اليوم الثالث أنه يحنث لأنه لما لم يعد كلمة النفي فلم يوجد ما يدل على أنه أرد نفي الكلام في كل مرة على حدة ليكون يمينين فبقي يمينا واحدة و الواو للجمع بين المدتين كما لو جمع بين المدتين بكلمة الجمع فقال : و الله لا أكلم فلانا ثلاثة أيام و الدليل على التفرقة بينهما أنه لو قال : و الله لا أكلم زيدا و لا عمرا فكلم أحدهما يحنث .
و لو قال : و الله لا أكلم زيدا و عمرا فما لو يكلمهما لا يحنث و قال بشر عن أبي يوسف لو قال و الله لا أدخل الدار يوما و يوما فهو مثل خلفه على يومين قال أبو يوسف : و لا يشبه هذا قوله و لا أدخلها اليوم و غدا لأن قوله يوما و يوما عطف زمان منكر على منكر فصار كقوله : يومين فيدخل الليل و قوله اليوم و غدا عطف زمان معين على زمان معين و لا ضرورة إلى إدخال الليل فيه فلا يدخل .
و لو قال : و الله لا أكلم زيدا يوما و الله لا أكلمه يومين و الله لا أكلمه ثلاثة أيام فاليوم الأول من حين فرغ من اليمين الثالثة عليه ثلاثة أيمان و اليوم الثاني عليه يمينان الثانية و الثالثة و اليوم الثالث عليه يمين واحدة و هي الثالثة لأن كل يمين ذكرها تختص بما يعقبها فانعقدت اليمين الأولى على الكلام في يوم عقيب اليمين و الثانية في يومين عقيب اليمين و الثالثة في ثلاثة أيام عقيب اليمين فانعقدت على الكلام في اليوم الأول ثلاثة أيمان و على الثاني يمينان و على الثالث واحدة و نظير هذه المسائل ما روى داود بن رشيد عن محمد : فيمن قال و الله لا أكلمك اليوم سنة أو لا أكلمك اليوم شهرا فعليه أن يدع كلامه في ذلك اليوم شهرا و في ذلك اليوم سنة حتى يكمل كلما دار ذلك اليوم في ذلك الشهر أو في تلك السنة لأن اليوم الواحد يستحيل أن يكون شهرا أو سنة فلم يكن ذلك مراد الحلف فكان مراده أن لا يكلمه في مثله شهرا أو سنة .
فإن قال : لا أكلمك اليوم عشرة أيام و هو في يوم السبت فهذا على سبتين لأن اليوم لا يكون عشرة أيام فلم يكن ذلك مرادا فيقع على عشرة أيام لأنه لا يدور في عشرة أيام أكثر من سبت واحد .
و كذلك لو قال : و الله لا أكلمك السبت مرتين كان على سبتين لأن السبت لا يكون يومين فكان المراد منه مرتين و كذلك لو قال لا أكلمك يوم السبت ثلاثة أيام كان كلها يوم السبت لما بينا .
و لو قال : لا أكلمك يوما ما أو لا أكلمك يوم السبت يوما فله أن يجعله أي يوم شاء لأنه عقد يمينه على يوم شائع في أيام فكان التعين إليه قال ابن سماعة عن محمد فيمن قال : لا أكلمك يوما بين يومين و لا نية له قال فكل يوم بين يومين و هو عندي بمنزلة قوله : لا أكلمك يوما فيكون على يوم من ساعة حلف و الله عز و جل أعلم .
و أما المبهم فنحو أن يحلف أن لا يكلم فلانا زمنا أو حينا أو الزمان أو الحين فإن لم يكن له نية يقع على ستة أشهر لأن الحين يذكر و يراد به الوقت القصير قال الله تعالى : [ فسبحان الله حين تمسون و حين تصبحون ] قيل حين تمسون صلاة المغرب و العشاء و حين تصبحون صلاة الفجر و يذكر و يراد به الوقت الطويل قال الله تعالى [ هل أتى على الإنسان حين من الدهر ] قيل المراد منه أربعون سنة و يذكر و يراد به الوسط قال الله تعالى : [ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ] قيل أي ستة أشهر من وقت طلوعها إلى وقت إدراكها .
قال ابن عباس Bهما : هي النخلة ثم عند الإطلاق لا يحمل على الوقت القصير لأن اليمين تعقد للمنع و لا حاجة إلى اليمين في مثل هذه المدة لأنه يمنع بدون اليمين و لا يحمل على الطويل لأنه لا يراد ذلك عادة و من أراد ذلك بلفظة الأبد فتعين الوسط .
و كذا روي عن ابن عباس Bهما أنه حمله على ذلك و لأن كل واحد من الطرفين في غاية البعد عن صاحبه و الوسط قريب منهما فيحمل عليه و إذا ثبت هذا في الحين ثبت في الزمان لكونهما من الأسماء المترادفة و عن ثعلب أن الزمان في كلام العرب ستة أشهر و أن نوى الحالف شيئا مما ذكرنا فهو على ما نوى لأنه نوى ما يحتمله كلامه و لفظه لما بينا .
و منهم من قال : يصدق في الوقت اليسير في الحين و لا يصدق في الزمان لأنه قد ثبت استعمال اللفظ في اليسير في الحين كما في قوله تعالى : { فسبحان الله حين تمسون و حين تصبحون } و لم يثبت في الزمان .
و ذكر الكرخي في الجامع عن أبي حنيفة أنه يدين في الزمان و الحين في كل ما نوى من قليل أو كثير و هو الصحيح .
و روي عن أبي يوسف أنه لا يدين فيما دون ستة أشهر في القضاء و لو قال لا أكلمه دهرا أو الدهر فقال أبو حنيفة أن كانت له نية فهو على ما نوى و إن لم تكن له نية فلا أدري ما الدهر .
و قال أبو يوسف و محمد : إذا قال دهرا فهو ستة أشهر و إذا قال الدهر فهو على الأبد و من مشايخنا من قال لا خلاف في الدهر المعروف أنه الأبد و إنما توقف أبو حنيفة Bه في الدهر المنكر فإنه قال : إذا قال دهرا لا أدري ما هو .
و ذكر في الجامع الكبير أن قوله الدهر ينصرف إلى جميع العمر و لم يذكر فيه الخلاف و قوله دهرا لا يدري تفسيره و في الجامع الصغير أشار إلى التوقف في الدهر المعرف أيضا فإنه قال و الدهر لا أدري ما هو .
و روى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في قوله دهرا و الدهر أنهما سواء فهما جعلا قوله : دهرا كالحين و الزمان لأنه يستعمل استعمال الحين و الزمان يقال ما رأيتك من دهر و ما رأيتك من حين على السواء فإذا أدخل عليه الألف و اللام صار عن جميع الزمان .
و روي عن أبي يوسف أن قوله : الدهر يقع على ستة أشهر لكنه خلاف ظاهر الرواية عنهما و أبو حنيفة كأنه رأى الاستعمال مختلفا فلم يعرف مراد المتكلم عند إطلاق الاسم فتوقف و قال : لا أدري أي لا أدري بماذا يقدر إذ لا نص فيه عن أحد من أرباب اللسان بخلاف الحين و الزمان فإن فيهما نصا عن ابن عباس Bهما فانه فسر قوله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } بستة أشهر و الزمان والحين ينبآن عن معنى واحد و هذا على قول من قال من مشايخنا أنه توقف في المنكر لا في المعرف أو لم يعرف حقيقة معناه لغة فتوقف فيه و التوقف فيما لا يعرف لعدم دليل المعرفة و لتعارض الأدلة و انعدام ترجيح البعض على البعض أمارة كمال العلم و تمام الورع فقد روي أن ابن عمر Bهما سئل شيء فقال لا أدري .
و روي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن أفضل البقاع فقال : لا أدري : فلما نزل جبريل عليه الصلاة و السلام سأله فعرج إلى السماء ثم هبط فقال سألت ربي عز و جل عن أفضل البقاع فقال المساجد و أفضل أهلها من جاءها أولا و انصرف آخرا و شر أهلها من جاءها آخرا و انصرف أولا ] .
و لو قال يوم أكلم فلانا فامرأته طالق و لا نية له فكلمه ليلا أو نهارا يحنث و كذا إذا قال يوم أدخل هذه الدار لأن اليوم إذا قرن بفعل غير ممتد يراد به مطلق الوقت في متعارف أهل اللسان قال الله عز و جل : { و من يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } الآية و من ولى دبره بالليل يلحقه الوعيد كما لو ولى بالنهار فإن نوى به الليل خاصة دين في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه .
و روي عن أبي يوسف : أنه لا يدين لأن اللفظ جعل عبارة عن مطلق الوقت في عرف الاستعمال فلا يصدق في الصرف عنه و إن قال ليلة أكلم فلانا أو ليلة يقدم فلان فأنت طالق فكلمه نهارا أو قدم نهارا لا تطلق لأن الليلة في اللغة اسم لسواد الليل يقال لليلة ليلاء و ليل أليل و لا عرف ههنا يصرف اللفظ عن مقتضاه لغة حتى لو ذكر الليالي حملت على الوقت المطلق لأنهم تعارفوا استعمالها في الوقت المطلق معروف ذلك في أشعارهم كما قالوا : .
( ليالي لاقتنا جذام و حميرا ) .
و لو قال لامرأته يوم يقدم فلان فأمرك بيدك فقدم فلان ليلا لا يكون لها من الأمر شيء : لأن ذكر اليوم في حال ذكر الأمر يراد به الوقت المعين لأن ذكر الأمر يقتضي الوقت لا محالة و هو المجلس لأن الصحابة Bهم جعلوا للمخيرة الخيار ما دامت في مجلسها فقد وقتوا للأمر وقتا فإن كان كذلك استغنى عن الوقت فيقع ذكر اليوم على بياض النهار فإذا قدم نهارا صار الأمر بيدها علمت أو لم تعلم و يبطل بمضي الوقت لأن هذا أمر موقت فيبطل بمضي الوقت و العلم ليس بشرط كما إذا قال أمرك بيدك اليوم فمضى اليوم أنه يخرج الأمر من يدها .
و أما في الأمر المطلق فيقتصر على مجلس علمها و لو قال ليلة يقدم فلان فأمرك بيدك فقدم نهارا لم يثبت لها ذلك الأمر لما ذكرنا أن الليلة عبارة عن سواد الليل .
و ذكر في الجامع إذا قال : و الله لا أكلمك الجمعة فله أن يكلمه في غير يوم الجمعة لأن الجمعة اسم ليوم مخصوص فصار كما لو قال لا أكلمك يوم الجمعة و كذلك لو قال جمعا له أن يكلمه في غير يوم الجمعة لأن الجمع جمع جمعة و هي يوم الجمعة فلا يتناول غيره بخلاف ما إذا قال لا أكلمه أياما أنه يدخل فيه الليالي لأنا إنما عرفنا ذلك بعرف الاستعمال قال الله تعالى في قصة زكريا عليه الصلاة و السلام : { ثلاثة أيام إلا رمزا } و قال تعالى في موضع آخر { ثلاث ليال سويا } و القصة واحدة و مثل هذا الاستعمال لم يوجد في مثل قوله : جمعا ثم إذا قال : و الله لا أكلمك جمعا فهو على ثلاث جمع لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة عندنا فيحمل عليه لكونه متيقنا و إذا قال الجمع فهو على عشر جمع في قول أبي حنيفة و كذلك الأيام و الأزمنة و الأحايين و الشهور و السنين إن ذلك يقع على عشرة أيام و عشرة أحايين أو أزمنة و عشرة أشهر و عشرة سنين .
و قال أبو يوسف و محمد : في الجمع و السنين أنه يقع على الأبد و كذا في الأحايين و الأزمنة و في الأيام على سبعة و في الشهور على اثني عشر .
و الأصل عندهما فيما دخل عليه حرف التعريف و هو اللام من أسماء الجمع أن ينظر إن كان هناك معهود ينصرف إليه كالسبعة في الأيام و الاثني عشر في الشهور و إن لم يكن هناك معهود ينصرف إلى جميع الجنس فيستغرق العمر كالسنين و الأحايين و الأزمنة و الأصل عند أبي حنيفة أنه ينصرف ذلك إلى أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد و ذلك عشرة .
وجه قولهما : أن اللفظ المعروف إذا لم يصرف إلى الجنس فإما أن يصرف إلى المعهود و إما أن يصرف إلى بعض الجنس و الصرف إلى المعهود أولى لأنه لا يحتاج فيه إلى الإدراج وفي الصرف إلى البعض يحتاج إلى إدراج لفظة البعض فكان الصرف إلى المعهود أولى و المعهود في الأيام السبعة التي يتركب منها الشهر وهي من السبت إلى الجمعة و في الشهور الاثني عشر التي تركب منها السنة و إذا لم يكن هناك معهود فالصرف إلى الجنس أولى فيصرف إليه .
و لأبي حنيفة : استعمال أرباب أهل اللغة و أهل اللسان في الجموع فإن أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد هو العشرة و يقال ثلاثة رجال و أربعة رجال و عشرة رجال ثم إذا جاوز العشرة يقال : أحد عشر رجلا و عشرون رجلا و مائة رجل و ألف رجل و لأن لفظ الجمع يطلق على كل قدر من هذه الأقدار التي ذكرنا إلى العشرة في حالة الإبهام و التعيين جميعا ويطلق على ما وراءها من الأقدار في حالة الإبهام و لا يطلق في حالة التعيين و الاسم متى كان ثابتا لشيء في حالين كان أثبت مما هو اسم له في حال دون حال بل يكون نازلا من الأول منزلة المجاز من الحقيقة فكان الصرف إلى ما هو اسم له في الحالين أولى فلهذا اقتصر على العشرة .
و لو حلف لا يكلمه أياما فقد ذكر في الأصل .
أنه على عشرة أيام في قول أبي حنيفة و سواء بينه و بين الإمام .
و ذكر في الجامع أنه على ثلاثة أيام و لم يذكر فيها الخلاف و هو الصحيح لأنه ذكر لفظ الجمع منكرا فيقع على أدنى الجمع الصحيح و هو ثلاثة عندنا و لو قال لا أكلمك سنين فهو على ثلاث سنين في قولهم جميعا لما ذكرنا في الأيام و لو حلف لا يكلمه العمر فهو على جميع العمر إذا لم تكن له نية .
و لو قال عمرا فعن أبي يوسف روايتان : في رواية يقع على يوم و في رواية يقع على ستة أشهر كالحين و هو الأظهر .
و لو حلف لا يكلمه حقبا فهو على ثمانين سنة لأنه اسم له و لو حلف لا يكلمه أياما كثيرة فهو على عشرة أيام في قياس قول أبي حنيفة و قال أبو يوسف : مثله لأنه أدخل الكثرة على اسم الجمع فصار كما لو ذكر بلام الجنس .
و ذكر في الجامع الصغير أن على قول أبي يوسف و محمد يقع على سبعة أيام و لو قال : لا أكلمك كذا و كذا يوما فهو على أحد و عشرين لأنه أقل عدد يعطف على عدد بحرف العطف .
و لو قال كذا كذا يوما فهو على أحد عشر يوما و لو حلف لا يكلمه بضعة عشر يوما فهو على ثلاثة عشر يوما لأن البضع من ثلاثة إلى تسعة فيحمل على أقلها و لو حلف لا يكلمه إلى بعيد يقع على شهر فصاعدا و لو حلف لا يكلمه إلى قريب و لا نية له فهو على أقل من شهر .
و لو حلف لا يكلمه عاجلا و لا نية له فهو على أقل من شهر لأن الشهر في حكم الكثير لأنه يجعل أجلا في الديون فكان بعيدا وآجلا و ما دونه عاجلا و لو حلف لا يكلمه مليا يقع على شهر كالبعيد سواء إلا أن يعني به غيره .
و ذكر الكرخي إذا قال : و الله لأهجرنك مليا فهو على شهر و أكثر فإن نوى أقل من ذلك لم يدين في القضاء لأنه جاء في تأويل قوله : { و اهجرني مليا } أي طويلا و هذا يقتضي ما زاد على الشهر .
و لو حلف أن لا يكلمه الشتاء فأول ذلك إذا لبس الناس الحشو و الفراء و آخر ذلك إذا ألقوها على البلد الذي حلف فيه و الصيف على ضده و هو من حين إلقاء الحشو إلى لبسه و الربيع آخر الشتاء و مستقبل الصيف إلى أن يبس العشب و الخريف فصل بين الشتاء و الصيف والمرجع في ذلك كله إلى اللغة .
و قال خلف بن أيوب : سألت محمدا عن رجل حلف لا يكلم رجلا إلى الموسم قال يكلمه إذا أصبح يوم النحر لأنه أول الموسم و قال أبو يوسف يكلمه إذا زالت الشمس يوم عرفة لأنه وقت الركن الأصلي و هو الوقوف بعرفة .
و قال عمرو عن محمد : غرة الشهر و رأس الشهر أول ليلة ويومها وأول الشهر إلى ما دون النصف و آخره إلى مضي خمسة عشر يوما .
و قد روي عن أبي يوسف فيمن قال لله علي أن أصوم أول يوم من آخر الشهر وآخر يوم من أول الشهر فعليه صوم اليوم الخامس عشر و السادس عشر لأن الخامس عشر آخر أوله و السادس عشر أول آخره إذا قال و الله لأكلمنك أحد يومين أو لأخرجن أحد يوميين أو قال اليومين أو قال أحد أيامي فهذا كله على أقل من عشرة أيام إن كلمه قبل العشرة أو خرج قبل العشرة لم يحنث و يدخل في ذلك الليل و النهار لأن مثل هذا لا يراد به يومان بأعيانهما و إنما يذكر على طريق التقريب على طريق العشرة و ما دونها في حكم الزمان الحاضر فإن قال : أحد يومي هذين فهذا على يومه ذلك و الغد لأنه أشار إلى اليومين و الإشارة تقع على المعين .
و لو حلف لا يكلم فلانا و فلانا هذه السنة إلا يوما فإن جمع كلامهما في يوم له استثناه لا يحنث لأن اليوم الذي يكلمهما فيه مستثنى من اليمين فإن كلم أحدهما في يوم و الآخر في يوم حنث لأن المستثنى يوم يكلمهما جميعا فيه ولم يوجد فقد كلمهما في غير اليوم المستثنى فيحنث فإن كلم أحدهما ثم كلمهما جميعا في يوم لم يحنث لأن اليوم الذي كلمهما فيه مستثنى و شرط الحنث في غيره كلامهما لا كلام أحدهما و إن كلمهما في يوم آخر لم يحنث لأن الاستثناء وقع على يوم منكر يكلمهما فيه فكأنه قال : إلا يوم أكلمهما فيه و لو استثنى يوما معروفا فكلم أحدهما فيه و الآخر في الغد لم يحنث لأن شرط الحنث في غير اليوم المستثنى كلامهما و لم يوجد فلم يوجد الشرط بل بعضه .
و قال محمد : إذا قال لا أكلمهما إلا يوما لم يحنث بكلامهما في يوم واحد و إن كلمهما في يوم آخر حنث لأنه لم يستثن إلا يوما واحدا وقد وجد فصارت اليمين بعده مطلقة .
و روى هشام عن محمد : إذا قال : لا أكلمك شهرا إلا يوما أو قال : غير يوم أنه على ما نوى و إن لم تكن له نية فله أن يتحرى أي يوم شاء لأنه استثنى يوما منكرا و كل يوم من الشهر يصلح للاستثناء فإن قال : نقصان يوم فهذا على تسعة و عشرين يوما لأن نقصان الشهر يكون من آخره و الله عز و جل أعلم .
و لو حلف لا يكلم فلانا أو فلانا فكلم أحدهما حنث لأن كلمة أو إذا ذكرت عقيب كلمة النفي أوجبت انتقاء كل واحد من المذكورين على الانفراد قال الله تعالى : { و لا تطع منهم آثما أو كفورا } أي و لا كفورا .
و كذلك لو قال : و لا فلانا لأن كلمة النفي إذا أعيدت تناولت كل واحد من المذكورين على حياله قال الله تعالى : { فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج } و لو حلف لا يكلم فلانا و فلانا لم يحنث حتى يكلمهما لأن حرف الواو للجمع و الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع فكأنه حلف لا يكلمهما فقد علق الجزاء بشرطين فلا ينزل عند وجود أحدهما دون الآخر .
و لو حلف : لا يكلم فلانا و فلانا أو فلانا فإن كلم أحد الأولين لا يحنث ما لم يكلمها و إن كلم الثالث حنث لأنه جعل شرط الحنث كلام الأولين جميعا أو كلام الثالث فأي ذلك وجد حنث .
و لو قال : لا أكلم هذا أو هذا وهذا فإن كلم الأول حنث وإن كلم أحد الآخرين لم يحنث لأنه جعل شرط الحنث كلام الأول أولا ثم الآخرين فيراعى شرطه و لو حلف لا يكلم الناس أو لا يكلم بني آدم فكلم واحدا منهم يحنث لأنه لا يمكن حمله على الجنس و العموم لأن الحالف إنما يمنع نفسه عما في وسعه و ليس في وسعه تكليم الناس كلهم فلن يكن ذلك مراده و إلى هذا أشار محمد في الجامع فقال : ألا ترى أنه لا يقدر أن يكلم بني آدم كلهم و ليس ههنا معهود يصرف اللفظ إليه فتعين الصرف إلى بعض الجنس و يضمر فيه لفظه البعض و إن عنى به الكل لا يحنث أبدا و يكون مصدقا فيما بينه و بين الله عز و جل و في القضاء أيضا لأنه نوى حقيقة كلامه و هي الجنس .
و روي عن أبي يوسف : أنه لا يدين في القضاء لأنه لا يراد الجنس بهذا الكلام فقد نوى خلاف الظاهر فلا يصدق قضاء و على هذا إذا حلف لا يتزوج النساء أو لا يشتري العبيد .
و لو حلف لا يبتدئ فلانا بكلامه أبدا فالتقيا فسلم كل واحد منهما على صاحبه معا لم يحنث الحالف لعدم شرط الحنث و هو ابتداؤه فلانا بالكلام لأن ذلك بتكليمه قبل تكليم صاحبه و لم يوجد و كذلك لو قال : إن كلمتك قبل أن تكلمني فإنه لما خرج كلاماهما معا فلم يكلم الحالف قبل تكليمه فلم يوجد شرط الحنث و لو قال إن كلمتك حتى تكلميني فتكلما معا لم يحنث في قول أبي يوسف و قال محمد : يحنث .
وجه قوله أن الحالف بقوله : إن كلمتك منع نفسه عن تكليمه مطلقا و جعل تكليم صاحبه إياه غاية لانحلال اليمين فإذا كلمه قبل وجود الغاية حنث و لأبي يوسف أن غرض الحالف من هذا الكلام أن يمنع نفسه عن تكليم المحلوف عليه قبل كلامه و لم يوجد ذلك فصار كأنه قال إن بدأتك .
و على هذا الخلاف إذا قال لا أكلمك إلا أن تكلمني لأن كلمة إلا أن إذا دخلت على ما يتوقت كانت بمعنى حتى قال الله تعالى : { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم } و كذلك لو حلف لا يدخل هذه الدار حتى يدخلها فلان و حلف الآخر على مثل ذلك فدخلا جميعا لم يحنث عند أبي يوسف و يحنث عند محمد و الله عز و جل أعلم