152 - ـ فصل : ثمرة العقل فهم الخطاب .
مدار الأمر كله على العقل فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على أقوى دليل و ثمرة العقل فهم الخطاب و تلمح المقصود من الأمر .
و من فهم المقصود و عمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق .
و إني رأيت كثيرا من الناس لا يعملون على دليل بل كيف اتفق و ربما كان دليلهم العادات و هذا أقبح شيء يكون .
ثم رأيت خلقا كثيرا لا يتبعون الدليل بطريق إثباته كاليهود و النصارى فإنهم يقلدون الآباء و لا ينظرون فيما جاء من الشرائع هل صحيح أم لا و كذلك يثبتون الإله و لا يعرفون ما يجوز عليه مما لا يجوز فينسبون إليه الولد و يمنعون جواز تغييره ما شرع .
و هؤلاء لم ينظروا حق النظر لا في إثبات الصانع و ما يجوز عليه و لا الدليل على صحة النبوات فتقع أعمالهم ضائعة كالباني على رمل .
و من هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون و يتزهدون و ينصبون أبدانهم في العلم بأحاديث باطلة و لا يسألون عنها من يعلم .
و من الناس من يثبت الدليل و لا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل .
و من هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا فتزهدوا و ما فهموا المقصود فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها و أن النفس تجب عداوتها فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق و عذبوها بكل نوع و منعوها حظوظها جاهلين بقوله صلى الله عليه و سلم [ إن لنفسك عليك حقا ] .
و فيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض و نحول الجسم و ضعف القوى .
و كل ذلك لضعف الفهم للمقصود و التلمح للمراد كما روي عن داود الطائي أنه كان يترك ماء في دن تحت الأرض فيشرب منه و هو شديد البحر .
و قال لسفيان : [ إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب و تشرب الماء البارد المبرد فمتى تحب الموت و القدوم على الله ؟ ] .
و هذا جهل بالمقصود فإن شرب الماء الحار يورث أمراضا في البدن و لا يحصل به الري .
و ما أمرنا بتعذيب أنفسنا على هذه الصورة بل تترك ما تدعو إليه من ما نهى الله عنه .
و في الحديث الصحيح : أنا أبا بكر Bه لما حلب له الراعي في طريق الهجرة صب الماء على القدح حتى برد أسفله ثم سقى رسول الله صلى الله عليه و سلم و فرش له في ظل صخرة .
و كان يستعذب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الماء و قال : [ إن عندكم ماء بات في شن و إلا كرعنا ] .
و لو فهم داوود C أن إصلاح علف الناقة متعين لقطع المسافة لم يفعل هذا .
ألا ترى إلى سفيان الثوري فإنه كان شديد المعرفة و الخوف و كان يأكل اللذيذ و يقول : [ إن الدابة إذا لم يحسن إليها لم تعمل ] .
و لعل بعض من لم يسمع كلامي هذا يقول : هذا ميل على الزهاد .
فأقول : كن مع العلماء و أنظر إلى طريق الحسن و سفيان و مالك و أبي حنيفة و أحمد و الشافعي و هؤلاء أصول الإسلام .
و لا تقلد دينك من قل علمه و إن قوى زهده و احمل أمره على أنه كان يطيق هذا و لا تقتد بهم فيما لا تطيقه فليس أمرنا إلينا و النفس وديعة عندنا فإن أنكرت ما شرحته فأنت ملحق بالقوم الذي نكرت عليهم .
و هذا رمز إلى المقصود و الشرح يطول