171 - ـ فصل : مغالطة النفس ليتم العيش .
لما سطرت هذا الفصل المتقدم و رأيت إدكار النفس بما لا بد لها في الطريق منه .
و هو أنه لا بد لها من التلطف فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن .
و إذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها و أخذ الراحة للجد جد و غوص السابح في طلب الدر صعود و دوام السير يحسر الإبل و المفازة صعبة .
و من أراد أن يرى التلطف بالنفس فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه كان يتلطف بنفسه و يمازح و يخالط النساء و يقبل و يمص اللسان و يختار المستحسنات و يستعذب له الماء و يختار الماء البارد و الوفق من المطاعم كلحم الظهر و الذراع و الحلوى و هذا كله رفق بالناقة في طريق السير .
فأما من جرد عليها السيوط فإنه يوشك ألا يقطع الطريق .
و قد قال صلى الله عليه و سلم : [ إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع و لا ظهرا ابقى ] .
و اعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن عوراه فإن فكر المتيقظ قبل مباشرة المرأة إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة و قبل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق و لو أخرجها الإنسان لفظها .
و لو فكرت في قرب الموت و ما يجري عليه بعده لبغض عاجل لذته .
فلا بد من مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشة كما قال لبيد : .
( فأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل ) .
و قال البستي : .
( أفد طبعك المكدود بالهم راحة ... تجم و علله بشيء من المزح ) .
( و لكن إذا أعطيته ذاك فليكن ... بمقدار ما يعطى الطعام من الملح ) .
و قال أبو علي بن الشبل : .
( و إذا هممت فناج نفسك بالمنى ... و عدا فخيرات الجنان عدات ) .
( و اجعل رجاءك دون بأسك جنة ... حتى تزول بهمك الأوقات ) .
( و اسر عن الجلساء بثك إنما ... جلساؤك الحساد و الشمات ) .
( و دع التوقع للحوادث إنه ... للحى ـ من قبل الممات ـ ممات ) .
( فالهم ليس له ثبات مثل ما ... في أهله ما للسرور ثبات ) .
( لولا مغالطة النفوس عقولها ... لم تصف للمتيقظين حياة ) .
و قال أيضا : .
( بحفظ الجسم تبقى النفس فيه ... بقاء النار تحفظ بالوعاء ) .
( فباليأس الممض فلا تمتها ... و لا تمدد لها طول الرجاء ) .
( و عدها في شدائدها رخاء ... و ذكرها الشدائد في الرخاء ) .
( يعد صلاحها هذا و هذا ... و بالتركيب منفعة الدواء ) .
و قد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره .
و إن كان الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك و لكنه نوع مخادعة للنفس .
و ما زالت النفوس ترى الظاهر و إنما الفكر و العقل مع الغائب و لا بد من مغالطة تجري ليتم العيش .
و لو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل ما كتب العلم و لا صنف .
فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه فإن الأول في مقام العزيمة و هذا في مكان الرخصة .
و لا بد للتعب من راحة و إعانة و الله D معك على قدر صدق الطلب و قوة اللجأ و خلع الحول و القوة و هو الموفق