172 - ـ فصل : بين الإسراف و الإعتدال .
قوام الآدمي بشيئين : الحرارة و الرطوبة .
و من شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة و تفنيها فلأدمي محتاج إلى تحصيل خلف المتحلل .
فأبدان النشئ تغتدي بأكثر مما يتحلل منها .
و الأبدان المتناهية تغتذي بمقدار ما يتحلل منها و الأبدان التي قد أخذت في الهرم يتحلل منها أكثر مما تغتذي به فينبغي للناشئ البالغ أن يتحفظ في النكاح لأنه يربي قاعدة قوة يجد أثرها في الكبر .
و أما المتوسط و الواقف فينبغي أن يحذر فضول الجماع فإن حصل له مثل ما يخرج منه فأسرف فاللازم أخذ من الحاصل و يوشك أن يسرع النفاد .
و أما الشيخ فترك النكاح كاللازم له خصوصا إذا زاد علو السن لأنه ينفق من الجوهر الذي لا يحصل مثله أبدا .
ثم ينبغي أن ينظر العاقل في ماله فيكتسب أكثر مما ينفق ليكون الفاضل مدخرا لوقت العجز .
و ليحذر السرف فإن العدل هو الأصلح .
ثم ينظر الزوجة و المطلوب منها شيئان : وجود الولد و تدبير المنزل فإذا كانت مبذرة فعيب لا يحتمل فإن إنضمت صفة العقر فلا وجه للإمساك إلا أن تكون مستحسنة الصورة فإن ضم إليها عقل و عفاف حسن الإمساك .
و إن كان مما يحتاج أن تحفظ فتركها لازم .
فأما الخدم فليجتهد في تحصيل خادم لا تستعبده الشهوة فإن عبد الشهوة له مولى غير سيده .
و لينظر المالك في طبع المملوك فمنهم من لا يأتي إلا على الإكرام فليكرمه فإنه يربح محبته .
و منهم من لا يأتي إلا على الإهانة فليداره و ليعرض عن الذنوب .
فإن لم يمكن عاتب بلطف و ليحذر العقوبة ما أمكن و ليجعل للماليك زمن راحة .
و العجب ممن يعنى بدابته و ينسى مداراة جاريته و أجود الممالك الصغار و كذلك الزوجات لأنهم متعودون خلق المشتري .
و ليحفظ نفسه بالهيبة من الانحراف مع الزوجة و لا يطلعها على ماله فإنها سفيهة تطلب كثرة الإنفاق و أما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد و متى كان الصبي ذا أنفة ـ حييا ـ رجي خيره .
و ليحمل على صحبة الأشراف و العلماء و ليحذر من مصاحبته الجهال و السفهاء فإن الطبع لص .
و ليحذر الصبي من الكذب غاية التحذير و من المخالطة للصبيان و ليوصه بزيادة البر للوالدين و ليحفظ من مخالطة النساء .
فإذا بلغ فليزوج بصبيه فينتفعان هذه الإشارة إلى تدبير أمور الدنيا .
فأما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن و الفقه و سماع الحديث .
و ليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة فإذا بلغ تشتت همته فليضرب تارة و يرشي أخرى ليبلغ و قد حصل محفوظات سنية .
و أول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقنا فإنه يثبت و يختلط باللحم و الدم ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن ثم الفقه مذهبا و خلافا و ما أمكن بعد هذا من العلوم فحفظه حسن .
و ليحذر من عادات أصحاب الحديث فإنهم يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي تتكرر فيها الأحاديث فيذهب العمر و ما حصلوا فهم شيء .
فإذا بالغوا سنا طلبوا جواز فتوى أو قراءة جزء من القرآن فعادوا القهقرى .
لأنهم يحفظون بعد كبر السن فلا يحصل مقصودهم فالحفظ في الصبا للمهم من العلم أصل عظيم .
و قد رأينا كثيرا ممن تشاغل بالمسموعات و كتابة الأجزاء و رأى الحفظ صعبا فمال إلى الأسهل فمضى عمره في ذلك .
فلما احتاج إلى نفسه قعد يتحفظ على كبر فلم يحصل مقصوده .
فاليقظة لفهم ما ذكرت و انظر في الإخلاص فما ينفع شيء دونه