175 - ـ فصل : شبهة في عدد الأحاديث و الرد عليها .
جرى بيني و بين أحد أصحاب الحديث كلام في قول الإمام أحمد : صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع مائة ألف حديث .
فقلت له : إنما يعني به الطرق فقال : لا بل المتون فقلت : هذا بعيد التصور ثم رأيت لأبي عبد الله الحاكم كلاما ينصر ما قال ذلك الشخص و هو أنه قال في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل : كيف يجوز أن يقال : إن حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يبلغ عشرة آلاف حديث و قد روى عنه من أصحابه أربعة آلاف رجل و امرأة صحبوه نيفا و عشرين سنة بمكة ثم بالمدينة حفظوا أقواله و أفعاله و نومه و يقظته و حركاته و غير ذلك سوى ما حفظوا من أحكام الشريعة .
و احتج بقول أحمد : صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع مائة ألف حديث و كسر و أن إسحاق بن راهوية كان يملي سبعين ألف حديث حفظا و أن أبا العباس بن عقدة قال : أحفظ لأهل البيت ثلاث مائة ألف حديث .
قال ابن عقدة : و ظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث .
قلت : و لا يحسن أن يشار بهذا إلى المتون و قد عجبت كيف خفى هذا على الحاكم و هو يعلم أن أجمع المسانيد الظاهرة مسند أحمد بن حنبل و قد طاف الدنيا مرتين حتى حصله و هو أربعون ألف حديث منها عشرة آلاف مكررة .
قال حنبل بن إسحاق : جمعنا أحمد بن حنبل أنا و صالح و عبد الله و قرأ علينا المسند و قال لنا : هذا كتاب جمعته من أكثر من سبع مائة ألف و خمسين ألفا .
فما إختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فارجعوا إليه فإن وجدتموه و إلا فليس بحجة .
أفترى يخفى على متيقظ أنه أراد بكونه جمعه من سبعمائة ألف أنه أراد الطرق لأن السبع مائة الألف إن كانت من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف أهملها ؟ .
فإن قيل : فقد أخرج في مسنده أشياء ضعيفة ثم أعوذ بالله أن يكون سبع مائة ألف ما تحقق منها سوى ثلاثين ألفا .
و كيف ضاعت هذه الجملة ؟ و لم أهملت و قد وصلت كلها إلى زمن أحمد فانتقى منها و رمى الباقي ؟ .
و أصحاب الحديث قد كتبوا كل شيء من الموضوع و الكذب .
و كذلك قال أبو داود : كتاب السنن من ستمائة ألف حديث و لا يحسن أن يقال : إن الصحابة الذين رووها ماتوا و لم يحدثوا بها التابعين .
فإن الأمر قد وصل إلى أحمد فأحصى سبع مائة ألف حديث و ما كان الأمر ليذهب هكذا عاجلا .
و معلوم أنه لو جمع الصحيح و المحال الموضوع و كل منقول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بلغ خمسين ألفا فأين الباقي ؟ .
و لا يجوز أن يقال تلك الأحاديث كلام التابعين فإن الفقهاء نقلوا مذاهب القوم و دونوها و أخذوا بها و لا وجه لتركها .
ففهم كل ذي لب أن الإشارة إلى الطرق و إن ما توهمه الحاكم فاسد و لو عرض هذا الإعتراض عليه و قيل له : الباقي ؟ لم يكن له جواب .
لكن الفهم عزيز و الله المنعم بالتوفيق .
و مثل هذا تغفيل قوم قالوا : إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده و أن ما أخرج كالأنموذج و إلا فكان يطول .
و قد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسماعيلي و حكى عن البخاري أنه قال : ما تركت من الصحيح أكثر .
و إنما يعني الطرق يدل على ما قلته أن الدار قطني ـ و هو سيد الحفاظ ـ جمع ما يلزم البخاري و مسلم إخراجه فبلغ ما لم يذكراه أحاديث يسيرة و لو كان كما قالوا لأخرج مجلدات .
ثم قوله : [ ما يلزم البخاري ] دليل صريح على ما قلته لأنه من أخرج الأنموذج لا يلزمه شيء .
و كذلك أخرج أبو عبد الله الحاكم كتابا جمع فيه ما يلزم البخاري فذكر حديث الطائر فلم يلتفت الحفاظ إلى ما قال .
فما أقل فهم هؤلاء الذين شغلهم نقل الحديث عن التدقيق الذي لا يلزم في صحة الحديث و إنما وقع لقلة الفقه و الفهم .
إن البخاري و مسلم تركا أحاديث أقوام ثقات لأنهم خولفوا في الحديث فنقص الأكثرون من الحديث و زادوا .
و لو كان ثم فقه لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة و تركوا أحاديث أقوام لأنهم افردوا بالرواية عن شخص و معلوم أن إنفراد الثقة لا عيب فيه و تركوا من ذلك الغرائب و كل ذلك سوء فهم .
و لهذا لم يلتزم الفقهاء هذا و قالوا : الزيادة من الثقة مقبولة و لا يقبل القدح حتى يبين سببه .
و كل من يخالط الفقهاء و جهد مع المحدثين تأذى و ساء فهمه فالحمد لله الذي أنعم علينا بالحالتين