186 - ـ فصل : استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان .
رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به .
فواعجبا كيف ضاقوا بحبسه ذرعا ثم لاموا من أفشاه .
و في الحديث : [ استعينوا على قضاء أموركم بالكتمان ] .
و لعمري إن النفس يصعب عليها كتم الشيء و ترى بإفشائه راحة خصوصا إذا كان مرضا أو هما أو عشقا .
و هذه الأشياء في إفشائها قريبة إنما اللازم كتمانه احتيال المحتال فيما يريد أن يحصل به غرضا .
فإن من سوء التدبير إفشاء ذلك قبل تمامه فإنه إذ ظهر بطل ما يراد أن يفعل و لا عذر لمن أفشى هذا النوع .
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أراد سفرا ورى بغيره .
فإن قال قائل : إنما أحدث من أثق به .
قيل له : و كل حديث جاوز الاثنين شائع و ربما لك يكتم صديقك .
و كم قد سمعنا من يحدث عن الملوك بالقبض على صاحب فنم الحديث إلى الصاحب و هرب ففات السلطان مراده .
وإنما الرجل الحازم الذي لا يتعداه سره و لا يفشيه إلى أحد .
و من العجز إفشاء السر إلى الولد و الزوجة .
و المال من جملة السر فاطلاعهم عليه إن كان كثيرا فربما تمنوا هلاك الموروث .
و إن كان قليلا تبرموا بوجوده .
و ربما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته فأتلفته النفقات .
و ستر المصائب من جملة كتمان السر لأن إظهارها يسر الشامت و يؤلم المحب .
و كذلك ينبغي أن يكتم مقدار السن لأنه إن كان كبيرا استهرموه و إن كان صغيرا احتقروه .
و مما قد انهال فيه كثير من المفرطين أنهم يذكرون بين أصدقائهم أميرا أو سلطانا فيقولون فيه فيبلغ ذلك إليه فيكون سبب الهلاك .
و ربما رأى الرجل من صديقه إخلاصا وافيا فأشاع سره و قد قيل : .
( إحذر عدوك مرة ... و احذر صديقك ألف مرة ) .
( فلربما انقلب الصديق فكان أدرى بالمضرة ) .
و رب مفش سره إلى زوجة أو صديق فيصير بذلك رهينا عنده و لا يتجاسر أن يطلق الزوجة و لا أن يهجر الصديق مخافة أن يظهر سره القبيح .
فالحازم من عامل الناس بالظاهر فلا يضيق صدره بسره فإن فارقته امرأة أو صديق أو خادم لم يقدر أحد منهم أن يقول ما يكره .
و من أعظم الأسرار الخلوات فليحذر الحازم فيها من الإنبساط بمرأى من مخلوق و من خلق له عقل ثاقب دله على الصواب قبل الوصايا