207 - ـ فصل : عزة العلم تضع أصحابها فوق الملوك .
بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة .
و قد صرح بهذا ابن عمر Bهما فقال : و الله لا ينال أحد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله و إن كان عنده كريما .
فالسعيد من اقتنع بالبلغة فإن أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا .
اللهم إلا أن يكون متورعا في كسبه معينا لنفسه عن الطمع قاصدا إعانة أهل الخير و الصدقة على المحتاجين فكسب هذا أصلح من بطالته .
فأما الصعود الذي سببه مخالطة السلاطين فبعيد أن يسلم معه الدين فإن وقعت سلامته ظاهرا فالعاقبة خطرة .
قال أبو محمد التميمي : ما غبطت أحدا إلا الشريف أبا جعفر يوم مات القائم بأمر الله فإنه غسله و خرج ينفض أكمامه فقعد في مسجده لا يبالي بأحد و نحن منزعجون لا ندري ما يجري علينا .
و ذاك أن التميمي كان متعلقا على السلطان يمضي له في الرسائل فخاف مغبة القرب .
و قد رأينا جماعة من العلماء خالطوا السلطان فكانت مغبتهم سيئة .
و لعمري إنهم طلبوا الراحة فأخطئوا طريقها لأن غموم القلب لا توازيها لذة مال و لا لذة مطعم هذا في الدنيا قبل الآخرة .
و من أشرف و أطيب عيشا من منفرد في زاوية لا يخالط السلاطين و لا يبالي أطاب مطعمه أم لم يطب .
فإنه لا يخلو من كسرة و قعب ماء ثم هو سليم من أن تقال له كلمة تؤذيه أو يعيبه الشرع حين دخوله عليهم أو الخلق .
و من تأمل حال أحمد بن حنبل في انقطاعه و حال ابن أبي داؤد و يحيى بن أكثم عرف الفرق في طيب العيش في الدنيا و السلامة في الآخرة .
و ما أحسن ما قال ابن أدهم : لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه من لذيذ العيش لجالدونا عليه بالسيوف .
و لقد صدق ابن أدهم فإن السلطان إن أكل شيئا خاف أن يكون قد طرح له فيه سم و إن نام خاف أن يغتال و هو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة فإن خرج كان منزعجا من أقرب الخلق إليه و اللذة التي ينالها تبرد عنده و لا يبقى له لذة مطعم و لا منكح .
و كلما استظرف المطاعم أكثر منها ففسدت معدته و كلما استجد الجواري أكثر منهن فذهبت قوته و لا يكاد يبعد ما بين الوطء و الوطء فلا يجد في الوطء كبيرة لذة لأن لذة الوطء بقدر بعد ما بين الزمانين و كذلك لذة الأكل فإن من أكل على شبع و وطئ من غير صدق شهوة و قلق لم يجد اللذة التامة التي يجدها الفقير إذا جاع و العزب إذا وجد امرأة .
ثم إن الفقير يرمي نفسه على الطريق في الليل فينام و لذة الأمن قد حرمها الأمراء فلذتهم ناقصة و حسابهم زائد .
و الله ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغا من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا العلماء المخلصين كالحسن و سفيان و أحمد و العباد المحققين كمعروف فإن لذة العلم تزيد على كل لذة .
و أما ضرهم إذا جاعوا أو ابتلوا بأذى فإن ذلك يزيد في رفعتهم .
و كذلك لذة الخلوة و التعبد فهذا معروف كان منفردا بربه طيب العيش معه لذيذ الخلوة به .
ثم قد مات منذ نحو أربعمائة سنة فما يخلو أن يهدي إليه كل يوم ما تقدير مجموعة أجزاء من القرآن .
و أقله من يقف على قبره فيقرأ : { قل هو الله أحد } و يهديها له و السلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة .
هذا بعد الموت و يوم الحشر تنشر الكرامات التي لا توصف و كذلك قبور العلماء المحققين .
و لما بليت أقوام بمخالطة الأمراء أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها .
فقال سفيان بن عتبة : منذ أخذت من مال فلان الأمير منعت ما كان وهب لي من فهم القرآن .
و هذا أبو يوسف القاضي لا يزور قبره اثنان .
فالصبر عن مخالطة الأمراء و إن أوجب ضيق العيش من وجه يحصل طيب العيش من جهات .
و مع التخليط لا يحصل مقصود فمن عزم جزم .
كان أبو الحسن القزويني لا يخرج من بيته إلا وقت الصلاة فربما جاء السلطان فيقعد لانتظاره ليسلم عليه .
و مد النفس في هذا ربما أضجر السامع و من ذاق عرف