24 - ـ فصل : التعليم عبادة .
ما زالت نفسي تنازعني بما يوجبه مجلس الوعظ و توبة التائبين و رؤية الزاهدين إلى الزهد و الانقطاع عن الخلق و الانفراد بالآخرة .
فتأملت ذلك فوجدت عمومه من الشيطان فإن الشيطان يرى أنه لا يخلو لي مجلس من خلق لا يحصون يبكون و يندبون على ذنوبهم و يقوم في الغالب جماعة يتوبون و يقطعون شعور الصبا .
و ربما اتفق خمسون و مائة و لقد تاب عندي في بعض الأيام أكثر من مائة .
و عمومهم صبيان قد أنشأوا على اللعب و الانهماك في المعاصي فكأن الشيطان لبعد غوره في الشر رآني أجتذب منه فأراد أن يشغلني عن ذلك بما يزخرفه ليخلو هو بمن أجتذبهم من يده .
و لقد حسن إلى الإنقطاع عن المجالس و قال : لا يخلو من تصنع للخلق .
فقلت : أما زخرفة الألفاظ و تزويقها و أخراج المعنى من مستحسن العبارة ففضيلة لا رذيلة .
و أما أن أقصد الناس بما لا يجوز في الشرع فمعاذ الله .
ثم رأيته يريني في التزهد قطع أسباب ـ ظاهرة الإباحة ـ من الاكتساب .
فقلت له : فإن طاب لي في الزهد و تمكنت من العزلة فنفذ ما بيدي أو احتاج بعض عائلتي ألست أعود القهقرى ؟ .
فدعني أجمع ما يسد خلتي و يصونني عن مسألة الناس فإن مد عمري كان نعم السبب و إلا كان للعائلة و لا أكون كراكب أراق ماءه لرؤية سراب فلما ندم وقت الفوات لم ينتفع بالندم .
و إنما الصواب توطئة المضجع قبل النوم و جمع المال الساد للخلة قبل الكبر أخذا بالحزم .
و قد قال الرسول صلى الله عليه و سلم : [ لأن تترك ورثتك أغنياء خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس ] .
و قال : [ نعم المال الصالح للرجل الصالح ] .
و أما الانقطاع فينبغي أن تكون العزلة عن البشر لا عن الخير و العزلة عن البشر واجبة على كل حال و أما تعليم الطالبين و هداية المرتدين فإنه عبادة العالم .
و إن من تفضيل بعض العلماء إيثاره للتنفل بالصلاة و الصوم عن تصنيف كتاب أو تعليم علم ينفع لأن ذلك بذر يكثر ريعه و يمتد زمان نفعه .
و أنما تميل النفس إلى ما يزخرفه الشيطان من ذلك لمعنيين : .
أحدهما : حب البطالة لأن الانقطاع عندها أسهل .
الثاني : لحب المدحة فإنها إذا توسمت بالزهد كان ميل العوام إليها أكثر .
فعليك بالنظر في الشرب الأول فكن مع الشرب المقدم و هم الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه رضي الله تعالى عنهم .
فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جهلة المتزهدين و المتصوفة من الانقطاع عن العلم ؟ .
و الانفراد عن الخلق ؟ .
و هل كان شغل الأنبياء إلا معانات الخلق و حثهم على الخير و نهيهم عن الشر ؟ .
إلا أن ينقطع من ليس بعالم يقصد الكف عن الشر فذاك في مرتبة المحتمي يخاف شر التخليط .
فأما الطبيب العالم بما يتناول فأنه ينتفع بما يناله