252 - ـ فصل : الحزم كتمان الحب و البغض .
من أراد اصطفاء محبوب المحبوب نوعان : امرأة يقصد منها حسن الصورة و صديق يقصد منه حسن المعنى .
فإذا أعجبتك صورة إمرأة فتأمل خلالها الباطنة مديدة قبل أن يتعلق القلب بها تعلقا محكما فإن رأيتها كما تحب ـ و أصل ذلك كله الدين كما قال : [ عليك بذات الدين ] ـ فمل إليها و استولدها .
و كن في ميلك معتدلا فإنه من الغلط أن تظهر لمحبوبك المحبة فإنه يشتط عليك و تلقى منه الأذى من التجني و الهجران و الإدلال و طلب الإنفاق الكثير ـ و إن كانت تحبك ـ لأن هذا إنما يجتلبه حب الإدلال و التسلط على المقهور .
و ثم نكتة عجيبة و هو أنك ربما عملت بمقتضى الحال الحاضرة و هي تحكم بكمال الحب ثم إن ذلك لا يثبت إليك فتقع و تبقى مقهورا و يصعب عليك الخلاص .
و ربما تمكنت بمعرفة سرك أو بأخذ كثير من مالك .
و من أحسن ما بلغني في هذا أن جارية لبعض الخلفاء كانت تحبه حبا شديدا و لا تظهر له ذلك فسئلت عن هذا فقالت : لو أظهرت ما عندي فجفاني هلكت قال الشاعر : .
( لا تظهرن مودة لحبيب ... فترى بعينك منه كل عجيب ) .
( أظهرت يوما للحبيب مودتي فأخذت من هجرانه بنصيبي ) .
و هكذا ينبغي أن تكتم بعض حبك للولد لأنه يتسلط عليك و يضيع مالك و يبالغ في الإدلال و يمتنع عن التعلم و التأدب .
و كذلك إذا اصطفيت صديقا و خبرته فلا تخبره بكل ما عندك بل تعاهده بالإحسان كما تتعاهد الشجرة فإنها إذا كانت جيدة الأصل حسنت ثمرتها بالتعاهد ثم كن منه على حذر فقد تتغير الأحوال و قد قيل : .
( إحذر عدوك مرة و احذر ... صديقك ألف مرة ) .
( فلربما انقلب الصديق ... فكان أدرى بالمضرة ) .
و أما إذا أبغضت شخصا لأنه يسوؤك فلا تظهرن ذلك فإنك تنبهه على أخذ الحذر منك و تدعوه إلى المبارزة فيبالغ في حربك و الإحتيال عليك بل ينبغي أن تظهر له الجميل إن قدرت و تبره ما استطعت حتى تنكسر معاداته بالحياء من بغضك فإن لم تطق فهجر الجميل لا تبين فيه ما يؤذي .
و متى سمعت عنه كلمة قذعة فاجعل جوابها كلمة جميلة فهي أقوى في كف لسانه .
و كذلك جميع ما يخاف إظهاره فلا تتكلمن به فربما وقعت كلمة أسقطت بها عز السلطان فنقلت إليه فكانت سبب هلاكك .
أو عن صديق فكانت سبب عداوته أو صرت رهينا لمن سمعها خائفا أن يظهرها .
فالحزم كتمان الحب و البغض .
و كذا ينبغي أن تكتم سنك فإن كنت كبيرا استهرموك و إن كنت صغيرا استحقروك .
و كذلك مقدار مالك فأنه إن كان كثيرا نسبوك في نفقتك إلى البخل و إن كان قليلا طلبوا الراحة منك .
و كذلك المذهب فإنك إن أظهرته لم تأمن أن يسمعه مخالف فيقطع بكفرك .
و قد أنشدنا محمد بن عبد الباقي البزار : .
( احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن و مال ما استطعت و مذهب ) .
( فعلى ثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمموه و مخرف و مكذب )