335 - ـ فصل : ليس المراد من العلم فهم الألفاظ .
رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته و مقصوده .
فالقارىء مشغول بالروايات عاكف على الشواذ يرى أن المقصود نفس التلاوة و لا يتلمح عظمة المتكلم و لا زجر القرآن و وعده .
و ربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه فتراه يترخص فبالذنوب و لو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ .
و المحدث يجمع الطرق و يحفظ الأسانيد و لا يتأمل مقصود المنقول و يرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث فهو يرجوا بذلك السلامة .
و ربما ترخص في الخطايا ظنا منه أن ما فعل في الشريعة يدفع عنه .
الفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال الذي يقوي به خصامه و المسائل التي قد عرف فيها المذهب قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره و يمحو ذنبه .
ربما هجم على الخطايا ظنا منه أن ذلك يدفع عنه .
و ربما لم يحفظ القرآن و لم يعرف الحديث و أنهما ينهيان عن الفواحش بزجر و رفق .
و ينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة و إيثار الغلبة في الجدل فتزيد قسوة قلبه .
و على هذا أكثر الناس صور العلم عندهم صناعة فهي تكسبهم الكبر و الحماقة .
و قد حكى بعض المعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه و بارز الله به .
و كانت حالة تعطي بمضمونها أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه و لا يبقى له اثر .
و كان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة فلا يرى عنده أثر لخوف و لا ندم على ذنب .
قال : فتغير في آخر عمره و لازمه الفقر فكان يلقي الشدائد و لا ينتهي عن قبح حاله .
إلى أن جمعت له يوما قراريط على وجه الكدية فاستحى من ذلك و قال : يارب إلى هذا الحد ؟ .
قال الحاكي : فتعجبت من غفلته كيف نسي الله D و أراد منه حسن التدبير له و الصيانة و سعة الرزق و كأنه ما سمع قوله تعالى : { و ألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } و لا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق و أن من ضيع أمر الله ضيعه الله .
فلما رأيت علما ما أفاد كعلم هذا لأن العالم إذا زل انكسر و هذا مصر لا تؤلمه معصيته و كأن يجوز له ما يفعل أو كأن له التصرف في الدين تحليلا و تحريما .
فمرض عاجلا و مات على أقبح حال .
قال الحاكي : و رأيت شيخا آخر حصل صور علم فما أفادته .
كان أي فسق أمكنه لم يتحاش منه و أي أمر لم يعجبه من القدر عارضه بالاعتراض على المقدر و اللوم .
فعاش أكدر عيش و على أقبح اعتقاد حتى درج .
و هؤلاء لم يفهموا معنى العلم و ليس العلم صور الألفاظ إنما المقصود فهم المراد منه و ذاك يورث الخشية و الخوف و يرى المنة للمنعم بالعلم و قوة الحجة له على المتعلم .
نسأل الله D يقظة تفهمنا المقصود و تعرفنا المعبود .
و نعوذ بالله من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء لا ينهاهم ما يحملون و يعلمون و لا يعلمون و يتكبرون على الناس بما لا يعلمون .
و يأخذون عرض الأدنى و قد نهوا عما يأخذون .
غلبتهم طباعهم و ما راضتهم علومهم التي يدرسون .
فهم أحسن حالا من العوام الذين يجهلون { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون }