55 - ـ فصل : من ذاق طعم المعرفة وجد طعم المحبة .
لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم هتف بي هاتف من باطني : دعني من شرح الصبر على الأقدار فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت .
وصف حال الرضى فإني أجد نسيما من ذكره فيه روح للروح .
فقلت : أيها الهاتف اسمع الجواب و افهم الصواب .
إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة فإذا عرفته رضيت بقضائه و قد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي .
أما العارف فتقل عنده المرارة لقوة حلاوة المعرفة .
فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة صارت مرارة الأقدار حلاوة كما قال القائل : .
( عذابه فيك عذب ... و بعده فيك قرب ) .
( و أنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب ) .
( حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب ) .
و قال بعض المحبين في هذا المعنى : .
( و يقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاكا ) .
فصاح بي الهاتف : حدثني بماذا أرضى ؟ قدر أني أرضى في أقداره بالمرض و الفقر أفأرضى بالكسل عن خدمته و البعد عن أهل محبته ؟ فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضى مما لا يدخل ؟ .
فقلت له : نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع و هو شهيد .
إرض بما كان منه فأما الكسل و التخلف فذاك منسوب إليك فلا ترض به من فعلك .
و كن مستوفيا حقه عليك مناقشا نفسك فيما بقربك منه غير راض منها بالتواني في المجاهدة .
فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها فكن راضيا بها كما قالت رابعة ـ رحمة الله عليها ـ و قد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة فيأكل فقيل : هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا ؟ فقالت : إن الراضي لا يتحيز و من ذاق طعم المعرفة وجد فيه طعم المحبة فوقع الرضى عنده ضرورة .
فينبغي الإجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة لعل ذلك يورث المحبة .
فقد قال سبحانه و تعالى : [ لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به ] .
فذلك الغنى الأكبر و وافقراه ! ! !