54 - ـ فصل : الصبر و الرضى .
ليس في التكاليف أصعب من الصبر على القضاء و لا فيه أفضل من الرضى به فأما الصبر : فهو فرض و أما الرضى فهو فضل .
و إنما الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس و ليس مكروه النفس يقف على المرض و الأذى في البدن بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر .
فمن ذلك أنك إذا رأيت مغمورا بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما يصنع بالمال فهو يصوغه أواني يستعملها و معلوم أن البلور و العقيق و الشبة قد يكون أحسن منها صورة غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه و يلبس الحرير و يظلم الناس و الدنيا منصبة عليه .
ثم يرى خلقا من أهل الدين و طلاب العلم مغمورين بالفقر و البلاء مقهورين تحت ولاية ذلك الظالم فحينئذ يجد الشيطان طريقا للوسواس و يبتدئ بالقدح في حكمة القدر .
فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا و على جدال إبليس في ذلك .
و كذلك في تسليط الكفار على المسلمين و الفساق على أهل الدين .
و أبلغ من هذا إيلام الحيوان و تعذيب الأطفال ففي مثل هذه المواطن يتمحض الإيمان و مما يقوي الصبر على الحالتين النقل و العقل .
أما النقل فالقرآن و السنة أما القرآن فمنقسم إلى قسمين : .
أحدهما : بيان سبب إعطاء الكافر و العاصي فمن ذلك قوله تعالى : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } .
{ و لولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة } .
{ و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } .
و في القرآن من هذا كثير .
و القسم الثاني : ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } .
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء و الضراء و زلزلوا } .
{ أم حسبتم أن تتركوا و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } .
و في القرآن من هذا كثير .
و أما السنة فمنقسمة إلى قول و حال .
أما الحال : فإنه صلى الله عليه و سلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه فبكى عمر Bه و قال : كسرى و قيصر في الحرير و الديباج فقال له صلى الله عليه و سلم : [ أفي شك أنت يا عمر ؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة و لهم الدنيا ] .
أما القول فقوله عليه الصلاة و السلام : [ لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ] .
و أما العقل : فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها أن يقول : قد ثبت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللا .
و منها أن يقول : ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى و ما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى لأن ذلك البسط يوجب عقابا طويلا و هذا القبض يؤثر انبساطا في الأجر جزيلا فزمان الرجلين ينقضي عن قريب و المراحل تطوى و الركبان في الحثيث .
و منها أن يقول : قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير و أن زمن التكليف كبياض نهار و لا ينبغي للمستعمل في الطين أن يلبس نظيف الثياب بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل فإذا فرغ تنظف و لبس أجود ثيابه فمن ترفه وقت العمل ندم وقت تفريق الأجرة و عوقب على التواني فيما كلف فهذه النبذة تقوي أزر الصبر .
و أزيدها بسطا فأقول : أترى إذا أريد اتخاذ شهداء فكيف لا يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة ؟ و بعلي مثل ابن ملجم : أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا إلا جبار كافر و لو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا لرأيت المسبب لا الأسباب و المقدر لا الأقدار فصبرت على بلائه إيثارا لما يريد و من ههنا ينشأ الرضى .
كما قيل لبعض أهل البلاء : ادع الله بالعافية فقال : أحبه إلي أحبه إلى الله D .
( إن كان رضاكم في سهري ... فسلام الله على وسني )