61 - ـ فصل : إحذر من مزالق علم الكلام .
من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين و النفاة للصفات و الإضافات فإن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بالغوا في الإثبات ليتقرر في أنفس العوام وجود الخالق فإن النفوس تأنس بالإثبات فإذا سمع العامي ما يوجب النفي طرد عن قلبه الإثبات فكأن أعظم ضرر عليه و كان هذا المنزه من العلماء على زعمه مقاما لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بالمحو و شارعا في إبطال ما يفتون به .
و بيان هذا أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش فأنست النفوس إلى إثبات الإله و وجوده قال تعالى : { و يبقى وجه ربك } و قال تعالى : { بل يداه مبسوطتان } و قال { غضب الله عليهم } { Bهم } و أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا و قال : [ قلوب العباد بين أصبعين ] و قال : كتب التوراة بيده و كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إلى غير ذلك مما يطول ذكره .
فإذا امتلأ العامي و الصبي من الإثبات و كاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس قيل له : { ليس كمثله شيء } فمحا من قلبه ما نقشه الخيال و تبقى ألفاظ الإثبات متمكنة .
و لهذا أقر الشرع مثل هذا فسمع منشدا يقول : و فوق العرش رب العالمين فضحك .
و قال له آخر : أو يضحك ربنا ؟ فقال : نعم و قال : إنه على عرشه هكذا كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس .
و أكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد فيقنع منهم بذلك إلى أن يفهموا التنزيه .
فأما إذا ابتدئ بالعامي الفارغ من فهم الإثبات فقلنا : ليس في السماء و لا على العرش و لا يوصف بيد و كلامه صفة قائمة بذاته و ليس عندنا منه شيء و لا يتصور نزوله انمحى من قلبه تعظيم المصحف و لم يتحقق في سره إثبات إله .
هذه جناية عظيمة على الأنبياء توجب نقض ما تعبوا في بيانه و لا يجوز لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها فإنه يفسده و يصعب صلاحه .
فأما العالم فإنا قد أمناه لأنه لا يخفي عليه استحالة تجدد صفة الله تعالى و أنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم و لا يجوز أن يكون محمولا و لا يوصف بملاصقة و مس و لا أن ينتقل .
لا يخفي عليه أن المراد بتقليب القلوب بين أصبعين الإعلام بالتحكم في القلوب فإن ما يديره الإنسان بين أصبعين هو متحكم فيه إلى الغاية .
و لا يحتاج إلى تأويل من قال : الإصبع الأثر الحسن فالقلوب بين أثرين من آثار الربوبية و هما : الإقامة و الإزاغة .
و لا إلى تأويل من قال : يداه نعمتاه لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات و قد حدثنا بما نعقل و ضربت لنا الأمثال بما نعلم و قد ثبت عندنا بالأصل المقطوع به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس علمنا المقصود بذكر ذلك .
و أصلح ما نقول للعوام : أمروا هذه الأشياء كما جاءت و لا تتعرضوا لتأويلها بل ذلك يقصد به حفظ الإثبات و هذا الذي قصده السلف .
و كان أحمد يمنع من أن يقال : لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق كل ذلك ليحمل على الأتباع و تبقى ألفاظ الإثبات على حالها .
و أجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه و سلم تعظيمه فأضعف في النفوس قوى التعظيم .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ] ـ يشير إلى المصحف ـ .
و منع الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته تعظيما له .
فإذا جاء متحذلق فقال : الكلام صفة قائمة بذات المتكلم فمعنى قوله هذا أن ما ههنا شيء يحترم فهذا قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع ينبغي أنم يفهم أوضاع الشعر و مقاصد الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و قد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الكلام في القدر و نهى عن الإختلاف لأن هذه الأشياء تخرج إلى ما يؤذي فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول : قضى و عاقب تزلزل إيمانه بالعدل .
و إن قال : لم يقدر و لم يقض تزلزل بالقدرة و الملك فكان الأولى ترك الخوض في هذه الأشياء .
و لعل قائلا يقول : هذا منع لنا عن الإطلاع على الحقائق و أمر بالوقوف مع التقليد .
فأقول : لا إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالجمل و ما أمرت بالتنقير مع أن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق .
فإن الخليل عليه الصلاة و السلام قال : أرني كيف تحي فأراه ميتا حي و لم يره كيف أحياه لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك .
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم و هو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم يقنع من الناس بنفس الإقرار و اعتقاد الجمل .
كذلك كانت الصحابة فما نقل عنهم إنهم تكلموا في تلاوة و متلو و قراءة و مقروء و لا إنهم قالوا استوى بمعنى استولى و يتنزل بمعنى يرحم .
بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس و كفوا كف الخيال بقوله : { ليس كمثله شيء } .
ثم هذا منكر و نكير إنما يسألان عن الأصول المجملة فيقولان : من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ .
و من فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة و تعطيل العطلة و وقف علىجادة السلف الأول و الله الموفق