63 - ـ فصل : العشق الإلهي .
نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق و أسبابه و أدويته و صنفت في ذلك كتابا سميته بذم الهوى .
و ذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا : سبب العشق حركة نفس فارغة و أنهم اختلفوا .
فقال قوم منهم : لا يعرض العشق إلا لظراف الناس .
و قال آخرون : بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق .
إلا أنه خطر لي بعد ذلك معنى عجيب أشرحهه ههنا : .
و هو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد فأما أرباب صعود الهمم فإنها كلما تخايلت ما توجبه المحبة فلاحت عيوبه لها إما بالفكر فيه أو بالمخالطة له تسلت أنفسهم و تعلقت بمطلوب آخر .
فلا يقف على درجة العشق الموجب للتمسك بتلك الصورة العامي عن عيوبها إلا جامدا واقفا .
و أما أرباب الأنفة من النقائص فإنهم أبدا في الترقي لا يصدهم صاد فإذا علقت الطباع محبة شخص لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر بل ربما مالوا ميلا شديدا إما في البداية لقلة التفكر أو لقلة المخالطة و الاطلاع على العيوب و إما لتشتت بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين كالظريف مع الظريف و الفطن مع الفطن فيوجب ذلك المحبة .
فأما العشق فلا فهم أبدا في السير فلا يوقف وابل الطبع تتبع حادي الفهم فإن للطبع متعلقا لا تجده في الدنيا لأنه يروم مالا يصح وجوده من الكمال في الأشخاص فإذا تلمح عيوبها نفر .
و أما متعلق القلوب من محبة الخالق البارئ فهو مانع لها من الوقوف مع سواء و إن كانت محبة لا تجانس محبة المخلوقين غير أن أرباب المعرفة ولهى قد شغلهم حبه عن حب غيره .
و صارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب و محبتها كما قالت رابعة : .
( أحب حبيبا لا أعاب بحبه ... و أحببيهم من في هواه عيوب ) .
و لقد روي عن بعض فقراء الزهاد أنه مر بإمرأة فأعجبته فخطبها إلى أبيها فزوجه و جاء به إلى المنزل و ألبسه غير خلقانه .
فلما جن الليل صاح الفقير : ثيابي ثيابي فقدت ما كنت أجده فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة .
و إنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله D و أهل الأنفة من الرذائل .
و قد قال ابن مسعود : [ إذا أعجبت أحدكم إمرأة فليتذكر مثانتها ] .
و مثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكر في تقلبه في الفم و بلعه .
و يذهل عند الجماع عن ملاقات القاذورات لقوة غلبة الشهوة و ينسى عند بلع الرضاب إستحالته عن الغذاء و في تغطية تلك الأحوال مصالح .
إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم من غير طلب له في غالب أحوالهم فينغض لذيذ العيش و يوجب الأنفة من رذالة الهوى .
و على قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق و على قدر جمود الذهن يقوى القلق قال المتنبي : .
( لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسببه لم يسبه ) .
و مجموع ما أرادت شرحه أن طباع المتيقظين تترقى فلا تقف مع شخص مستحسن .
و سبب ترقيها التفكر في نقص ذلك الشخص و عيوبه أو في طلب ما هو أهم منه .
و قلوب العارفين تترقى إلى معروفها فتعبر في معبر الإعتبار .
فأما أهل الغفلة فجمودهم في الحالتين و غفلتهم عن المقامين يوجب أسرهم و قسرهم و حيرتهم