94 - ـ فصل : في فضل العالم و العامل .
لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة في مقادير في العلم .
و كان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه و إن كان غيره أعلم منه .
و لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون و يعرفون و لكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح و تعديل و يأخذون على قراءة الحديث أجرة و يسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه و إن وقع خطأ .
و لقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة و لا كان يطلب أجرا على سماع الحديث و كنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى و اتصل بكاؤه .
فكان ـ و أنا صغير السن حينئذ ـ يعمل بكاؤه في قلبي و يبني قواعد .
و كان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل .
و لقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي فكان كثير الصمت شديد التحري فيما يقول متقنا محققا .
و ربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن .
و كان كثير الصوم و الصمت فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما .
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول .
و رأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط و مزاح فراحوا عن القلوب و بدد تفريطهم ما جمعوا من العلم فقل الانتفاع بهم في حياتهم و نسوا بعد مماتهم فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم .
فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر .
و المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ففاته لذات الدنيا و خيرات الآخرة فقدم مفلسا على قوة الحجة عليه