بيان معنى لا عدوى .
و الصحيح الذي عليه جمهور العلماء : أنه لا نسخ في ذلك كله و لكن اختلفوا في معنى قوله : [ لا عدوى ] و أظهر ما قبل في ذلك : أنه نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك و يدل على هذا قوله : [ فمن أعدى الأول ؟ ] يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله و قدره فكذلك الثاني و ما بعده خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يعدي شيئا قالها ثلاثا فقال أعرابي : يا رسول الله النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فما أجرب الأول لا عدوى و لا هامة و لا صفر خلق الله كل نفس و كتب حياتها و مصابها و رزقها ] فأخبر أن ذلك كله بقضاء الله و قدره كما دل عليه قوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } فأما نهيه صلى الله عليه و سلم عن إيراد الممرض على المصح و أمره بالفرار من المجذوم و نهيه عن الدخول إلى موضع الطاعون فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى و جعلها أسبابا للهلاك أو الأذى .
و العبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان عافية منها فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو يدخل تحت الهدم و نحوه مما جرت العادة بأنه يهلك أو يؤذى فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم أو القدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض و التلف و الله تعالى هو خالق الأسباب و مسبباتها لا خالق غيره و لا مقدر غيره و قد روي في حديث مرسل خرجه أبو داود في مراسيله أن النبي صلى الله عليه و سلم : مر بحائط مائل فأسرع و قال : [ أخاف موت الفوات ] و روي متصلا و المرسل أصح و هذه الأسباب التي جعلها الله أسبابا يخلق المسببات بها كما دل عليه قوله تعالى : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } و قالت طائفة : إنه يخلق المسببات عندها لا بها .
و أما إذا قوي التوكل على الله تعالى و الإيمان بقضائه و قدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله و رجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما إذا كان مصلحة عامة أو خاصة و على مثل هذا يحمل الحديث الذي خرجه أبو داود و الترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم : أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال : [ كل باسم الله ثقة بالله و توكلا عليه ] و قد أخذ به الإمام أحمد و قد روي نحو ذلك عن عمر و ابنه عبد الله و سلمان Bهم و نظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد Bه : من أكل السم و منه : مشى سعد بن أبي وقاص و أبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر و منه : أمر عمر Bه لتميم حيث خرجت النار من الحرة أن يردها فدخل إليها في الغار التي خرجت منه فهذا كله لا يصلح إلا لخواص من الناس قوي إيمانهم بالله و قضائه و قدره و توكلهم عليه و ثقتهم به و نظير ذلك دخول المغاور بغير زاد لمن قوي يقينه و توكله خاصة و قد نص عليه أحمد و اسحاق و غيرهما من الأئمة و كذلك ترك التكسب و التطبب كل ذلك يجوز عند أحمد لمن قوي توكله فإن التوكل أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع و تدفع بها المضار كما قال الفضيل : لو علم الله إخراج المخلوقين من قلبك و تستدفع لأعطاك كل ما تريد و بذلك فسر الإمام أحمد التوكل فقال : هو قطع الإستشراف باليأس من المخلوقين قيل له : فما الحجة فيه ؟ قال : قول إبراهيم عليه الصلاة و السلام لما ألقي في النار فعرض له جبريل عليه السلام فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا .
فلا يشرع ترك الأسباب الظاهرة إلا لمن تعوض عنها بالسبب الباطن و هو تحقيق التوكل عليه فإنه أقوى من الأسباب الظاهرة لأهله و أنفع منها .
فالتوكل : علم و عمل و العلم : معرفة القلب بتوحيد الله بالنفع و الضر و عامة المؤمنين تعلم ذلك و العمل : هو ثقة القلب بالله و فراغه من كل ما سواه و هذا عزيز و يختص به خواص المؤمنين .
و الأسباب نوعان : أحدهما : أسباب الخير : فالمشروع أنه يفرح بها و يستبشر و لا يسكن إليها بل إلى خالقها و مسببها و ذلك هو تحقيق التوكل على الله و الإيمان به كما قال تعالى في الإمداد بالملائكة : { و ما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر إلا من عند الله } و من هذا الباب الإستبشار بالفال : و هو الكلمة الصالحة يسمعها طالب الحاجة و أكثر الناس يركن بقلبه إلى الأسباب و ينسى المسبب لها و قل من فعل ذلك إلا وكل إليها و خذل فإن جميع النعم من الله و فضله كما قال تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله } { و ما بكم من نعمة فمن الله } : .
( لا نلت خيرا ما بعيت و لا عداني الدهر شر ) .
( إن كنت أعا أن غير الله ينفع أو يضر ) .
و لا تضاف النعم إلى الأسباب بل إلى مسببها و مقدرها كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه صلى بهم الصبح في أثر سماء ثم قال : أتدرون ما قال ربكم الليلة ؟ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر فأما المؤمن فقال : مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب و أما الكافر فقال : مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ] و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا عدوى و لا هامة و لا نوء و لا صفر ] و هذا مما يدل على أن المراد نفي تأثير هذه الأسباب بنفسها من غير اعتقاد أنها بتقدير الله و قضائه فمن أضاف شيئا من النعم إلى غير الله مع اعتقاده أنه ليس من الله فهو مشرك حقيقة و مع اعتقاد أنه من الله فهو نوع شرك خفي .
النوع الثاني : أسباب الشر : فلا تضاف إلا إلى الذنوب لأن جميع المصائب إنما هي بسبب الذنوب كما قال تعالى : { و ما أصابك من سيئة فمن نفسك } و قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } فلا تضاف إلى شيء من الأسباب سوى الذنوب : كالعدوى أو غيرها و المشروع : اجتناب ما ظهر منها و اتقاؤه بقدر ما وردت به الشريعة مثل : اتقاء المجذوم و المريض و القدوم على مكان الطاعون و أما ما خفي منها فلا يشرع اتقاؤه و اجتنابه فإن ذلك من الطيرة المنهي عنها