بيان معنى لا طيرة .
و الطيرة من أعمال أهل الشرك و الكفر و قد حكاها الله تعالى في كتابه عن قوم فرعون و قوم صالح و أصحاب القرية التي جاءها المرسلون و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ لا طيرة ] و في حديث : [ من ردته الطيرة فقد قارف الشرك ] و في حديث ابن مسعود المرفوع : [ الطيرة من الشرك و ما منا إلا و لكن الله يذهبه بالتوكل ] و البحث عن أسباب الشر من النظر في النجوم و نحوها من الطيرة المنهي عنها و الباحثون عن ذلك غالبا لا يشتغلون بما يدفع البلاء من الطاعات بل يأمرون بلزوم المنزل و ترك الحركة و هذا لا يمنع نفوذ القضاء و القدر و منهم من يشتغل بالمعاصي و هذا مما يقوي وقوع البلاء و نفوذه و الذي جاءت به الشريعة هو ترك البحث عن ذلك و الإعراض عنه و الإشتغال بما يدفع البلاء من الدعاء و الذكر و الصدقة و تحقيق التوكل على الله عز و جل و الإيمان بقضائه و قدره و في مسند ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص التقى هو و كعب فقال عبد الله لكعب علم النجوم ؟ فقال كعب : لا خير فيه قال عبد الله : لم قال ترى فيه ما تكره يريد الطيرة فقال كعب : فإن مضى و قال : اللهم لا خير إلا طيرك و لا خير إلا خيرك و لا رب غيرك فقال عبد الله : و لا حول و لا قوة إلا بك فقال كعب : جاء بها عبد الله و الذي نفسي بيده : إنها لرأس التوكل و كنز العبد في الجنة و لا يقولهن عبد عند ذلك ثم يمضي ألا لم يضره شيء قال عبد الله : أرأيت إن لم يمض و قعد ؟ قال : طعم قلبه طعم الإشراك و في مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة فإذا أحس بذلك فليقل : أنا عبد الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا يأتي بالحسنات إلا الله و لا يذهب السيئات إلا الله أشهد أن الله على كل شيء قدير ثم يمضي لوجهه ] و في مسند الإمام أحمد [ عن عبد الله بن عمر مرفوعا : من رجعته الطيرة من حاجته فقد أشرك و كفارة ذلك أن يقول أحدهم : اللهم لا طير إلا طيرك و لا خير إلا خيرك و لا إله غيرك ] و خرج الإمام أحمد و أبو داود [ من حديث عروة بن عامر القرشي قال : ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أحسنها الفال و لا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت و لا يدفع السيئات إلا أنت و لا حول و لا قوة إلا بك ] و خرجه أبو القاسم البغوي و عنده : [ و لا تضر مسلما ] و في صحيح ابن حبان [ عن أنس Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا طيرة و الطيرة على من تطير ] و قال النخعي قال عبد الله بن مسعود : لا تضر الطيرة إلا من تطير .
و معنى هذا أن من تطير تطيرا منهيا عنه و هو أن يعتمد على ما يسمعه أو يراه مما يتطير به حتى يمنعه مما يريد من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه فأما من توكل على الله ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفا و رجاء و قطعه عن الإلتفات إلى هذه الأسباب المخوفة و قال ما أمر به من هذه الكلمات و مضى فإنه لا يضره ذلك و قد روي [ عن ابن عباس Bهما أنه كان إذا سمع نعق الغراب قال : اللهم لا طير إلا طيرك و لا خير إلا خيرك و لذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم عند انعقاد أسباب العذاب السماوية المخوفة كالكسوف بأعمال البر من الصلاة و الدعاء و الصدقة و العتق حتى يكشف ذلك عن الناس ] و هذا كله مما يدل على أن الأسباب المكروهة إذا وجدت فإن المشروع الإشتغال بما يوحي به دفع العذاب المخوف منها من أعمال الطاعات و الدعاء و تحقيق التوكل على الله و الثقة به فإن هذه الأسباب كلها مقتضيات لا موجبات و لها موانع تمنعها .
فأعمال البر و التقوى والدعاء والتوكل من أعظم ما يستدفع به و من كلام بعض الحكماء المتقدمين : ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بأقنان اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات و هذا على زعمهم و اعتقادهم في الأفلاك و أما اعتقاد المسلمين : فإن الله وحده هو الفاعل لما يشاء و لكنه يعقد أسبابا للعذاب و أسبابا للرحمة فأسباب العذاب يخوف الله بها عباده ليتوبوا إليه و يتضرعوا إليه مثل : كسوف الشمس و القمر فإنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده لينظر من يحدث له توبة فدل على أن كسوفهما سبب يخشى منه وقوع عذاب و قد أمرت عائشة Bها : أن تستعيذ من شر القمر و قال : الغاسق إذا وقب و قد أمر الله تعالى بالإستعاذة { من شر غاسق إذا وقب } و هو الليل إذا أظلم فإنه ينتشر فيه شياطين الجن و الإنس و الإستعاذة من القمر لأنه آية الليل و فيه إشارة إلى أن شر الليل المخوف لا يندفع بإشراف القمر فيه و لا يصير بذلك كالنهار بل يستعاذ منه و إن كان مقمرا و خرج الطبراني [ من حديث جابر مرفوعا : لا تسبوا الليل و لا النهار و لا الشمس و لا القمر و لا الريح فإنها رحمة لقوم و عذاب لآخرين ] و مثل اشتداد الرياح فإن الريح كما قاله صلى الله عليه و سلم : [ من روح الله تأتي بالرحمة و تأتي بالعذاب و كان صلى الله عليه و سلم إذا اشتدت الريح أن يسأل الله تعالى خيرها و خير ما أرسلت به و يستعاذ به من شرها و شر ما أرسلت به ] و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا رأى ريحا أو غيما تغير وجهه و أقبل و أدبر فإذا أمطرت سري عنه و يقول : [ قد عذب قوم بالريح ] و رأى قوم السحاب فقالوا هذا عارض ممطرنا و أسباب الرحمة يرجى بها عباده مثل : الغيم الرطب و الريح الطيبة و مثل المطر المعتاد عند الحاجة إليه و لهذا يقال عند نزوله : اللهم سقيا رحمة و لا سقيا عذاب .
و أما من اتقى أسباب الضرر بعد انعقادها بالأسباب المنهي عنها فإنه لا ينفعه ذلك غالبا كمن ردته الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به فإنه كثيرا ما يصاب بما خشي منه كما قال ابن مسعود و دل عليه حديث أنس المتقدم و كمن اتقى الطاعون الواقع في بلده بالفرار منه فإنه قل أن ينجيه ذلك و قد فر كثير من المتقدمين و المتأخرين من الطاعون فأصابهم و لم ينفعهم الفرار و قد قال الله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } و قد ذكر كثير من السلف : أنهم كانوا قد فروا من الطاعون فأصابهم و فر بعض المتقدمين من طاعون وقع فيما بينما هو يسير بالليل على حمار له إذ سمع قائلا يقول : .
( إن يسبق الله على حمار ... و لا على منعة مطار ) .
( أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري ) .
فأصابه الطاعون فمات