بيان معنى لا هامة .
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ لاهامه ] فهو : نفي لما كانت الجاهلية تعتقده أن الميت إذا مات صارت روحه أو عظامه هامة : و هو طائر يطير و هو شبيه باعتقاد أهل التناسخ : أن أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات من غير بعث و لا نشور و كل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها و تكذيبها و لكن الذي جاءت بها الشريعة : أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة و ترد من أنهار الجنة إلى أن يردها الله إلى أجسادها و روي أيضا أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى أجسادها يوم القيامة .
و أما قوله صلى الله عليه و سلم : [ و لاصفر ] فاختلف في تفسيره فقال كثير من المتقدمين : الصفر : داء في البطن يقال : إنه دود فيه كبار كالحيات و كانوا يعتقدون أنه يعدي فنفى ذلك النبي صلى الله عليه و سلم و ممن قال هذا من العلماء : ابن عيينة و الإمام أحمد و غيرهما و لكن لو كان كذلك لكان هذا داخلا في قوله : [ لا عدوى ] و قد يقال : هو من باب عطف الخاص على العام و خصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى و قالت طائفة : بل المراد بصفر شهر ثم اختلفوا في تفسيره على قولين : .
أحدهما : أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء فكانوا يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه و هذا قول مالك .
و الثاني : أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يستيشمون بصفر و يقولون : إنه شهر مشئوم فأبطل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك و هذا حكاه أبو داود عن محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك و لعل هذا القول أشبه الأقوال و كثير من الجهال يتشاءم بصفر و ربما ينهى عن السفر فيه و التشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهى عنها و كذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء و قد روي أنه : [ يوم نحس مستمر ] في حديث لا يصح بل في المسند [ عن جابر Bه أن النبي صلى الله عليه و سلم : دعا على الأحزاب يوم الإثنين و الثلاثاء و الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر و العصر ] قال جابر : فما نزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت ذلك الوقت فدعوت الله فيه الإجابة أو كما قال .
و كذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة و قد قيل : إن أصله أن طاعونا وقع في شوال في سنة من السنين فمات فيه كثير من العرائس فتشائم بذلك أهل الجاهلية و قد ورد الشرع بإبطاله [ قالت عائشة Bها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم في شوال و بنى بي في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني ] و كانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال و تزوج النبي صلى الله عليه و سلم أم سلمة في شوال أيضا .
فأما قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا عدوى و لا طيرة و الشؤم في ثلاث في المرأة و الدار و الدابة ] خرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم فقد اختلف الناس في معناه أيضا فروي عن عائشة Bها أنها أنكرت هذا الحديث أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه و سلم و قالت : إنما قال : كان أهل الجاهلية يقولون ذلك خرجه الإمام أحمد و قال معمر سمعت من يفسر هذا الحديث يقول : شؤم المرأة : إذا كانت غير ولود و شؤم الفرس : إذا لم يكن يغزى عليه في سبيل الله و شؤم الدار : جار السوء و روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه لا تصح و منهم من قال قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا شؤم و إن يكن اليمن في شيء ففي ثلاثة ] فذكر هذه الثلاثة و قال هذه الرواية أشبه بأصول الشرع كذا قاله ابن عبد البر و لكن إسناد هذه الرواية لا يقاوم ذلك الإسناد .
و التحقيق أن يقال في إثبات الشؤم في هذه الثلاث : ما ذكرناه في النهي عن إيراد المريض على الصحيح و الفرار من المجذوم و من أرض الطاعون إن هذه الثلاث أسباب قدر الله تعالى بها الشؤم و اليمن و يقرنه و لهذا يشرع لمن استعاد زوجة أو أمة أو دابة أن يسأل الله تعالى من خيرها و خير ما جلبت عليه و يستعيذ به تعالى من شرها و شر ما جبلت عليه كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي خرجه أبو داود و غيره و كذا ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل ذلك و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم قوما سكنوا دارا فقل عددهم و قل مالهم أن يتركوها ذميمة فترك ما لا يجد الإنسان فيه بركة من دار أو زوجة أو دابة غير منهي عنه و كذلك من أتجر في شيء فلم يربح فيه ثلاث مرات فإنه يتحول عنه روى ذلك عمر بن الخطاب Bه فإنه قال : من بورك له في شيء فلا يتغير عنه ففي المسند و سنن ابن ماجه [ عن عائشة Bها مرفوعا : إذا كان لأحدكم رزق في شيء فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له ] .
و أما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح و إنما الزمان كله خلق الله تعالى و فيه تقع أفعال بني آدم فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه و كل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤم عليه فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى كما قال ابن مسعود Bه : إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحين ـ يعني اللسان ـ و قال : ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان و قال عدي بن حاتم : أيمن أمر بي و أشأمة بين لحييه يعني لسانه ـ و في مسند أبي داود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ حسن الملكة نماء و سوء الملكة شؤم و البر زيادة في العمر و الصدقة تمنع ميتة السوء ] فجعل سوء الملكة شؤما و في حديث آخر : [ لا يدخل الجنة سيء الملكة ] و هو من يسيء إلى مماليكه و يظلمهم .
و في الحديث : [ إن الصدقة تدفع ميتة السوء ] و روي [ من حديث علي مرفوعا : باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها ] خرجه الطبراني و في حديث آخر : [ إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة ] فالصدقة تمنع وقوع البلاء بعد انعقاد أسبابه و كذلك الدعاء و في الحديث : [ إن البلاء و الدعاء يلتقيان بين السماء و الأرض فيعتلجان إلى يوم القيامة ] خرجه البزار و الحاكم و خرج في الترمذي [ من حديث سلمان : لا يرد القضاء إلا بالدعاء ] و قال ابن عباس : لا ينفع الحذر من القدر و لكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر و عنه قال : الدعاء يدفع القدر و هو إذا دفع القدر فهو من القدر و هذا كقول النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن الأدوية و الرقى هل ترد من قدر الله شيئا ؟ قال : [ هي من قدر الله تعالى ] و كذلك قال عمر Bه لما رجع من الطاعون فقال له أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : نفر من قدر الله إلى قدر الله فإن الله تعالى قدر المقادير و يقدر ما يدفع بعضها قبل وقوعه و كذلك الأذكار المشروعة تدفع البلاء و [ في حديث عثمان Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم من قال حين يصبح و يمسي : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم لم يصبه بلاء ] و في المسند [ عن عائشة Bها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الشؤم سوء الخلق ] و خرجه الخرائطي و لفظه : [ اليمن حسن الخلق ] و في الجملة : فلا شؤم إلا المعاصي و الذنوب فإنها تسخط الله عز و جل فإذا سخط على عبده شقي في الدنيا و الآخرة كما إنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا و الآخرة قال بعض الصالحين و قد شكي بلاء وقع في الناس فقال : ما أرى ما أنتم فيه إلا بشؤم الذنوب و قال أبو حازم : كل ما يشغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو عليك مشؤم و قد قيل : .
( فلا كان ما يلهي عن الله أنه ... يضر و يؤذى إنه لمشؤم ) .
فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله و اليمن هو طاعة الله و تقواه كما قيل : .
( إن رأيا دعا إلى طاعة الله ... لرأى مبارك ميمون ) .
و العدوى التي تهلك من قاربها هي المعاصي فمن قاربها و خالطها و أصر عليها هلك و كذلك مخالطة أهل المعاصي و من يحسن المعصية و يزينها و يدعو إليها من شياطين الإنس و هم أضر من شياطين الجن قال بعض السلف : شيطان الجن نستعيذ بالله منه فينصرف و شيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية و في الحديث : [ يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ] و في حديث آخر : [ لا تصحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي ] و مما يروى لعلي Bه : .
( فلا تصحب أخا الجهـ ... ل و إياك و إياه ) .
( فكم من جاهل أردى ... حكيما حين آخاه ) .
( يقاس المرء بالمر ... ء إذا ما المرء ماشاه ) .
( و للشيء على الشي ... ء مقاييس و أشباه ) .
( و لقلب على القلـ ... ب دليل حين يلقاه ) .
فالعاصي مشؤم على نفسه و على غيره فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم الناس خصوصا من لم ينكر عليه عمله فالبعد عنه متعين فإذا كثر الخبث هلك الناس عموما و كذلك أماكن المعاصي و عقوباتها يتعين البعد عنها و الهرب منها خشية نزول العذاب كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه لما مر على ديار ثمود بالحجر : [ لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم ما أصابهم ] و لما تاب الذي قتل مائة نفس من بني إسرائيل و سأل العالم : هل له من توبة ؟ قال له : نعم فأمره أن ينتقل من قرية السوء إلى القرية الصالحة فأدركه الموت بينهما فاختصم فيه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب فأوحى الله إليهم أن قيسوا بينهما فإلى أيهما كان أقرب فألحقوه بها فوجدوه إلى القرية الصالحة أقرب برمية حجر فغفر له هجران أماكن المعاصي و أخواتها من جملة الهجرة المأمور بها فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه قال إبراهيم بن أدهم : من أراد التوبة فليخرج من المظالم و ليدع مخالطة من كان يخالطه و إلا لم ينل ما يريد احذروا الذنوب فإنها مشؤمة عواقبها ذميمة و عقوباتها أليمة و القلوب المحبة لها سقيمة السلامة منها غنيمة و العافية منها ليس لها قيمة و البليه بها لا سيما بعد نزول الشيب داهية عظيمة .
( طاعة الله خير ما اكتسب العبـ ... د فكن طائعا لله لا تعصينه ) .
( ما هلاك النفوس إلا المعاصي ... فاجتنب ما نهاك لا تقربنه ) .
( إن شيئا هلاك نفسك فيه ... ينبغي أن تصون نفسك عنه ) .
يا من ضاع قلبه أنشده في مجالس الذكر عسى أن تجده يا من مرض قلبه احمله إلى مجلس الذكر لعله أن يعافى مجالس الذكر مارستان الذنوب تداوي فيها أمراض القلوب كما تداوي أمراض الأبدان في مارستان الذكر نزه لقلوب المؤمنين يتنزه فيها بسماع كلام الحكمة كما يتنزه أبصار أهل الدنيا في رياضها و بساتينها مجلسنا هذا خضرة في روضة الخشوع طعامنا فيه الجوع و شرابنا فيه الدموع و نقلنا هذا الكلام المسموع نداوي فيه أمراضا أعيت جالينوس و يختيشوع نسقي فيه ترياق الذنوب و فاروق المعاصي فمن شرب لم يكن له إلى المعصية رجوع كم أفاق فيه من المعصية مصروع و برىء فيه من الهوى ملسوع و وصل فيه إلى الله مقطوع ما عيبه إلا أن الطبيب الذي له لو كان يستعمل ما يصف للناس لكان إليه المرجوع يا ضيعة العمران نجا السامع و هلك المسموع يا خيبة المسعى إن وصل التابع و انقطع المتبوع .
( و غير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس و هو سقيم ) .
( يا أيها الرجل المقوم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التقويم ) .
( ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ) .
( فهناك يقبل ما تقول و يقتدى ... بالقول منك و ينفع التعليم ) .
( لا تنه عن خلق و تأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ) .
* * * .
( كم ذا التمادي فها قد جاءنا صفر ... شهر به الفوز و التوفيق و الظفر ) .
( فابدأ بما شئت من فعل تسر به ... يوم المعاد ففيه الخير ينتظر ) .
( توبوا إلى الله فيه من ذنوبكم ... من قبل يبلغ فيكم حده العمر )