المجلس السادس في وداع رمضان .
في الصحيحين [ من حديث أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و فيهما أيضا [ من حديث أبي هريرة أيضا Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] و للنسائي في رواية : [ من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر ] و قد سبق في قيام ليلة القدر مثل ذلك من رواية عبادة بن الصامت و التكفير بصيامه قد ورد مشروطا بالتحفظ مما ينبغي أن يتحفظ منه ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام رمضان فعرف حدوده و تحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ منه كفر ذلك ما قبله ] و الجمهور على أن ذلك إنما يكفر الصغائر و يدل عليه ما خرجه مسلم [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الصلوات الخمس الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ] و في تأويله قولان : أحدهما : أن تكفير هذه الأعمال مشروط باجتناب الكبائر فمن لم يجتنب الكبائر لم تكفر له الأعمال كبيرة و لا صغيرة و الثاني : أن المراد أن هذه الفرائض تكفر الصغائر خاصة بكل حال و سواء اجتنبت الكبائر أو لم تجتنب و أنها لا تكفر الكبائر بحال و قد قال ابن المنذر في قيام ليلة القدر : إنه يرجى به مغفرة الذنوب كبائرها و صغائرها و قال غيره مثل ذلك في الصوم أيضا و الجمهور على : أن الكبائر لا بد لها من توبة نصوح و هذه المسائل قد ذكرناها مستوفاة في مواضع أخر فدل حديث أبي هريرة Bه على : أن هذه الأسباب الثلاثة كل واحد منها مكفر لما سلف من الذنوب و هي : صيام رمضان و قيامه و قيام ليلة القدر .
فقيام ليلة القدر بمجرده يكفر الذنوب لمن وقعت له كما في حديث عبادة بن الصامت و قد سبق ذكره و سواء كانت أول العشر أو أوسطه أو آخره و سواء شعر بها أو لم يشعر و لا يتأخر تكفير الذنوب بها إلى انقضاء الشهر و أما صيام رمضان و قيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان و قيامه فيترتب له على ذلك مغفرة ما تقد من ذنبه بتمام السببين و هما صيامه و قيامه و قد يقال : إنه يغفر لهم عند استكمال القيام في آخر ليلة من رمضان بقيام رمضان قبل تمام نهارها و تتأخر المغفرة بالصيام إلى إكمال النهار بالصوم فيغفر لهم بالصوم في ليلة الفطر و يدل على ذلك ما خرجه الإمام أحمد [ من حديث أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم يعطها أمة غيرهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك و تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا و يزين الله كل يوم جنته و يقول : يوشك عبادي أن يكفوا عنهم المؤنة و الأذى و يصيروا إليك و يصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره و يغفر لهم في آخر ليلة فيه فقيل له : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا و لكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله ] .
و قد روي : أن الصائمين يرجعون يوم الفطر مغفورا لهم و إن يوم الفطر يسمى يوم الجوائز و فيه أحاديث ضعيفة و قال الزهري [ إذا كان يوم الفطر خرج الناس إلى الجبار اطلع عليهم قال : عبادي لي صمتم و لي قمتم ارجعوا مغفورا لكم ] قال مورق العجلي لبعض إخوانه في المصلى يوم الفطر : يرجع هذا اليوم قوم كما ولدتهم أمهاتهم و في حديث أبي جعفر الباقر المرسل : [ من أتى عليه رمضان فصام نهاره و صلى وردا من ليله و غض بصره و حفظ فرجه و لسانه و يده و حافظ على صلاته في الجماعة و بكر إلى الجمعة فقد صام الشهر و استكمل الأجر و أدرك ليلة القدر و فاز بجائزة الرب ] قال أبو جعفر : جائزة لا تشبه جوائز الأمراء إذا أكمل الصائمون صيام رمضان و قيامه فقد وفوا ما عليهم من العمل و بقي ما لهم من الأجر و هو المغفرة فإذا خرجوا يوم عيد الفطر إلى الصلاة قسمت عليهم أجورهم فرجعوا إلى منازلهم و قد استوفوا الأجر و استكملوه كما في [ حديث ابن عباس Bهما المرفوع : إذا كان يوم الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك ينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن و الإنس يقولون : يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل و يغفر الذنب العظيم فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله عز و جل لملائكته : يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله ؟ فيقولون : إلهنا و سيدنا أن توفيه أجره فيقول : إني أشهدكم أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم و قيامهم رضائي و مغفرتي انصرفوا مغفورا لكم ] خرجه سلمة بن شبيب في كتاب فضائل رمضان و غيره و في إسناده مقال و قد روي من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس Bهما موقوفا بعضه و قد روي معناه مرفوعا من وجوه أخر فيها ضعف : من وفى ما عليه من العمل كاملا وفى له الأجر كاملا و من سلم ما عليه وفرا تسلم ماله نقدا لا مؤخرا .
( ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... و لا أسلمها إلا يدا بيد ) .
( فإن وفيتم بما قلتم وفيت أنا ... و إن أبيتم يكون الرهن تحت يدي ) .
و من نقص من العمل الذي عليه نقص من الأجر بحسب نقصه فلا يلم إلا نفسه قال سلمان : الصلاة مكيال فمن وفى وفي له و من طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين فالصيام و سائر الأعمال على هذا المنوال من وفاها فهو من خيار عباد الله الموفين و من طفف فيها فويل للمطففين أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته و يطفف في مكيال صيامه و صلاته إلا بعد المدين في الحديث : [ أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته ] إذا كان الويل لمن طفف مكيال الدنيا فكيف حال من طفف مكيال الدين : { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } .
( غدا توفى النفوس ما كسبت ... و يحصد الزارعون ما زرعوا ) .
( إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ... و إن أسؤا فبئس ما صنعوا ) .
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل و إكماله و إتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله و يخافون من رده و هؤلاء الذين : { يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة } روي عن علي Bه قال : كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز و جل يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين } و عن فضالة بن عبيد قال : لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا و ما فيها لأن الله يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين } قال ابن دينار : الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل و قال عطاء السلمي : الحذر الاتقاء على العمل أن لا يكون لله و قال عبد العزيز بن أبي رواد : أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا قال بعض السلف كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم خرج عمر بن عبد العزيز C في يوم عيد فطر فقال في خطبته : أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يوما و قمتم ثلاثين ليلة و خرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له : إنه يوم فرح و سرور فيقول : صدقتم و لكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا فلا أدري أيقبله مني أم لا ؟ رأى وهب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد فقال : إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين و إن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين و عن الحسن قال : إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا و تخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون و يخسر فيه المبطلون .
( لعلك غضبان و قلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا ) .
روي عن علي Bه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان : يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه و من هذا المحروم فنعزيه و عن ابن مسعود أنه كان يقول : من هذا المقبول منا فنهنيه و من هذا المحروم منا فنعزيه أيها المقبول هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك .
( ليت شعري من فيه يقبل منا ... فيهنا يا خيبة المردود ) .
( من تولى عنه بغير قبول ... أرغم الله أنفه بخزي شديد ) .
ماذا فات من فاته خير رمضان و أي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان كم بين من حظه فيه القبول و الغفران و من كان حظه فيه الخيبة و الخسران رب قائم حظه من قيامه السهر و صائم حظه من صيامه الجوع و العطش .
( ما أصنع هكذا جرى المقدور ... الجبر لغيري و أنا المكسور ) .
( أسير ذنب مقيد مهجور ... هل يمكن أن يغير المقدور ) .
غيره .
( سار القوم و الشفاء يقعدني ... حازوا القرب و الجفا يبعدني ) .
( حسبي حسبي إلى متى تطردني ... أعداي داني و كلهم يقصدني ) .
غيره .
( أسباب هواك أوهنت أسبابي ... من بعد جفاك فالضنى أولى بي ) .
( ضاقت حيلي و أنت تدري ما بي ... فارحم فالعبد واقف بالباب ) .
شهر رمضان تكثر فيه أسباب الغفران فمن أسباب المغفرة فيه صيامه و قيامه و قيام ليلة القدر فيه كما سبق و منها : تفطير الصوام و التخفيف عن المملوك و هما مذكوران في حديث سلمان المرفوع و منها : الذكر و في حديث مرفوع : [ ذاكر الله في رمضان مغفور له ] و منها : الإستغفار و الإستغفار طلب المغفرة و دعاء الصائم مستجاب في صيامه و عند فطره و لهذا كان ابن عمر إذا أفطر يقول : اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي و في حديث أبي هريرة Bه المرفوع في فضل شهر رمضان و يغفر فيه إلا لمن أبى قالوا : يا أبا هريرة و من يأبى ؟ قال : يأبى أن يستغفر الله و منها : استغفار الملائكة للصائمين حتى يفطروا و قد تقدم ذكره فلما كثرت أسباب المغفرة في رمضان كان الذي تفوته المغفرة فيه محروما غاية الحرمان و في صحيح ابن حبان [ عن أبي هريرة Bه أن النبي صلى الله عليه و سلم صعد المنبر فقال : آمين آمين آمين قيل : يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت : آمين آمين آمين ؟ فقال : إن جبريل أتاني فقال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين و من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين و من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين ] و خرجه الإمام أحمد و الترمذي و ابن حبان أيضا من وجه آخر [ عن أبي هريرة Bه مرفوعا بلفظ : رغم أنفه ] و حسنه الترمذي و قال سعيد عن قتادة : كان يقال : من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما سواه و في حديث آخر : إذا لم يغفر له في رمضان فمتى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر من يقبل من رد في ليلة القدر متى يصلح من لا يصلح في رمضان حتى يصلح من كان به فيه من داء الجهالة و الغفلة مرضان كل مالا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع ثم يوقد في النار من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير الندم و الخسارة .
( ترحل شهر الصبر و الهفاه و انصرما ... و اختص بالفوز في الجنات من خدما ) .
( و أصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما ) .
( من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهم و الندما ) .
[ شهر رمضان شهر أوله رحمه و أوسطه مغفرة و آخره عتق من النار ] روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث سلمان الفارسي خرجه ابن خزيمة في صحيحه و روي عنه أيضا من حديث أبي هريرة Bه خرجه ابن أبي الدنيا و غيره و الشهر كله شهر رحمة و مغفرة و عتق و لهذا في الحديث الصحيح : [ إنه تفتح فيه أبواب الرحمة ] و في الترمذي و غيره : [ إن لله عتقاء من النار و ذلك كل ليلة ] و لكن الأغلب على أوله الرحمة و هي للمحسنين المتقين قال الله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } و قال الله تعالى : { و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون } فيفاض على المتقين في أول الشهر خلع الرحمة و الرضوان و يعامل أهل الإحسان بالفضل و الإحسان و أما أوسط الشهر فالأغلب عليه المغفرة فيغفر فيه للصائمين و إن ارتكبوا بعض الذنوب الصغائر فلا يمنعهم من المغفرة كما قال الله تعالى : { و إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } و أما آخر الشهر فيعتق من النار من أوبقته الأوزار و استوجب النار بالذنوب الكبار و في [ حديث ابن عباس المرفوع : لله في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره ] و خرجه سلمة بن شبيب و غيره و إنما كان يوم الفطر من رمضان عيدا لجميع الأمة لأنه تعتق فيه أهل الكبائر من الصائمين من النار فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار كما أن يوم النحر هو العيد الكبر لأن قبله يوم عرفة و هو اليوم الذي لا يرى في يوم من الدنيا أكثر عتقا من النار منه فمن أعتق من النار في اليومين فله يوم عيد و من فاته العتق في اليومين فله يوم و عيد .
( ليس عيد المحب قصد المصلى ... و انتظار الأمير و السلطان ) .
( إنما العيد أن تكون لدى الله ... كريما مقربا في أمان ) .
و رؤي بعض العارفين ليلة عيد في فلاة يبكي على نفسه و ينشد .
( بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف على ألا تجود ) .
( سرور العيد قد عم النواحي ... و حزني في ازدياد لا يبيد ) .
( فإن اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود ) .
لما كانت المغفرة و العتق كل منهما مرتبا على صيام رمضان و قيامه أمر الله سبحانه و تعالى عند إكمال العدة بتكبيره و شكره فقال : { و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون } فشكر من أنعم على عباده بتوفيقهم للصيام و إعانتهم عليه و مغفرته لهم و عتقهم من النار أن يذكروه و يشكروه و يتقوه حق تقاته و قد فسر ابن مسعود Bه تقواه حق تقاته بأن يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر فيا أرباب الذنوب العظيمة الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة فما منها عوض و لا لها قيمة فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة و المنحة الجسيمة يا من أعتقه مولاه من النار إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق الأوزار أيبعدك مولاك من النار و تتقرب منها و ينقذك منها و أنت توقع نفسك فيها و لا تحيد عنها .
( و إن امرءا ينجو من النار بعدما ... تزود من أعمالها لسعيد ) .
إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها و إن تكن المغفرة مكتوبة للمتقين فالظالم لنفسه غير محجوب عنها غيره .
( إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ ... فمن يجود على العاصين بالكرم ) .
غيره .
( إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو و يدعو المذنب ) .
لم لا يرجى العفو من ربنا و كيف لا يطمع في حلمه و في الصحيح : أنه بعبده أرحم من أمه : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } .
فيا أيها العاصي و كلنا ذلك لا تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك فأحسن الظن بمولاك و تب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك .
( إذا أوجعتك الذنوب فداوها ... برفع يد بالليل و الليل مظلم ) .
( و لا تقنطن من رحمة الله إنما ... قنوطك منها من ذنوبك أعظم ) .
( فرحمته للمحسنين كرامة ... و رحمته للمذنبين تكرم ) .
ينبغي لمن يرجو العتق في شهر رمضان من النار أن يأتي بأسباب توجب العتق من النار و هي متيسرة في هذا الشهر و كان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية حسناء مزينة يرجو بعتقها العتق من النار و في حديث سلمان الفارسي المرفوع الذي في صحيح ابن خزيمة : [ من فطر صائما كان عتقا له من النار و من خفف فيه عن مملوكه كان له عتقا من النار ] و فيه أيضا : [ فاستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين : ترضون بها ربكم و خصلتين : لا غناء لكم عنهما فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : شهادة أن لا إله إلا الله و الإستغفار و أما اللتان لا غناء لكم عنهما : فتسألون الله الجنة و تستعيذون به من النار ] فهذه الخصال الأربعة المذكورة في الحديث كل منها سبب العتق و المغفرة : فأما كلمة التوحيد : فإنها تهدم الذنوب و تمحوها محوا و لا تبقي ذنبا و لا يسبقها عمل و هي تعدل عتق الرقاب الذي يوجب العتق من النار و من أتى بها أربع مرار حين يصبح و حين يمسي أعتقه الله من النار و من قالها مخلصا من قلبه حرمه الله على النار و أما كلمة الإستغفار : فمن أعظم أسباب المغفرة فإن الإستغفار دعاء بالمغفرة و دعاء الصائم مستجاب في حال صيامه و عند فطره و قد سبق حديث أبي هريرة المرفوع : [ يغفر فيه ـ يعني شهر رمضان ـ إلا لمن أبى قالوا : يا أبا هريرة و من أبى ؟ قال : من أبى أن يستغفر الله عز و جل ] قال الحسن : أكثروا من الإستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة و قال لقمان لابنه : يا بني عود لسانك الإستغفار فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلا و قد جمع الله بين التوحيد و الإستغفار في قوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك } و في بعض الآثار : أن إبليس قال : أهلكت الناس بالذنوب و أهلكوني بلا إله إلا الله و الإستغفار و الإستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها فيختم به الصلاة و الحج و قيام الليل و يختم به المجالس فإن كانت ذكرا كان كالطابع عليها و إن كانت لغوا كان كفارة لها فكذلك ينبغي أن تختم صيام رمضان بالاستغفار و كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار و صدقة الفطر فإن الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث و الإستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو و الرفث و لهذا قال بعض العلماء المتقدمين : إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة و قال عمر بن عبد العزيز في كتابه قولوا كما قال أبوكم آدم : { ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين } و قولوا كما قال نوح عليه السلام : { و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين } و قولوا كما قال موسى عليه السلام : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } و قولوا كما قال ذو النون عليه السلام : { سبحانك إني كنت من الظالمين } و يروى عن أبي هريرة Bه قال : الغيبة تخرق الصيام و الإستغفار يرقعه فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل و عن ابن المنكدر معنى ذلك : الصيام جنة من النار ما لم يخرقها و الكلام السيء يخرق هذه الجنة و الاستغفار يرقع ما تخرق منها فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع و عمل صالح له شافع كم نخرق صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه و قد اتسع الخرق على الراقع كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم ارحموا من حسناته كلها سيئات و طاعاته كلها غفلات .
( أستغفر الله من صيامي ... طول زماني و من صلاتي ) .
( يوم يرى كله خروق ... و صلاته أيما صلاة ) .
( مستيقظ في الدجى و لكن ... أحسن من يقظتي سنأتي ) .
و قريب من هذا أمر النبي عليه السلام لعائشة Bها في ليلة القدر بسؤال العفو فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه و قيامه فإذا قرب فراغه و صادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو كالمسيء المقصر كان صلة بن أشيم يحي الليل ثم يقول في دعائه عند السحر : اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار و مثلي يجترىء أن يسألك الجنة كان مطرف يقول : اللهم ارض عنا فأن لم ترض عنا فاعف عنا قال يحيى بن معاذ : ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو .
( إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنكم عفو عن الذنب ) .
أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة و هي حل عقدة الإصرار فمن استغفر بلسانه و قلبه على المعصية معقود و عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر و يعود فصومه عليه مردود و باب القبول عنه مسدود قال كعب : من صام رمضان و هو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة و لا حساب و من صام رمضان و هو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود و خرجه مسلمة بن شبيب .
( و لولا التقى ثم النهى خشية الردى ... لعاصيت في وقت الصبا كل واجب ) .
( قضى ما قضى فيما مضى ثم لا يرى ... له عودة أخرى لليالي الغوائب ) .
و في سنن أبي داود و غيره [ عن أبي بكرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يقولن أحدكم : صمت رمضان كله و لا قمت رمضان كله ] قال أبو بكرة : فلا أدري أكره التزكية أم لا بد من غفلة أين من كان إذا صام صان الصيام و إذا قام استقام في القيام أحسنوا الإسلام ثم ارحلوا بسلام ما بقي إلا من إذا صام افتخر بصيامه و صال و إذا قام عجب بقيامه و قال : كم بين خلى و شجى و واجد و فاقد و كاتم و مبدي و أما سؤال الجنة و الاستعاذة من النار فمن أهم الدعاء و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ حولها ندندن ] فالصائم يرجى استجابة دعائه فينبغي أن لا يدعو إلا بأهم الأمور قال أبو مسلم : ما عرضت لي دعوة إلا صرفتها إلى الاستعاذة من النار و قال : { لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } في الحديث : [ تعرضوا لنفحات رحمة بكم فإن لله نفحات من رحمته ] : { يصيب به من يشاء من عباده } فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها بدا فإن أعظم نفحاته مصادفة دعوة الإجابة يسأل العبد فيها الجنة و النجاة من النار فيجاب سؤاله فيفوز بسعادة الأبد قال الله تعالى : { فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز } و قال : { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق } إلى قوله : { و أما الذين سعدوا ففي الجنة } .
( ليس السعيد الذي دنياه تسعده ... إن السعيد الذي ينجى من النار ) .
عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل و لم يبق منه إلا القليل فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام و من فرط فليختمه بالحسنى و العمل بالختام فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة و الأيام و استودعوه عملا صالحا يشهد لكم به عند الملك العلام و ودعوه عند فراقه بأزكى تحية و سلام .
( سلام من الرحمن كل أوان ... على خير شهر قد مضى و زمان ) .
( سلام على الصيام فإنه ... أمان من الرحمن كل أمان ) .
( لئن فنيت أيامك الغر بغتة ... فما الحزن من قلبي عليك بفان ) .
لقد ذهبت أيامه و ما أطعتم و كتبت عليكم فيه آثامه و ما أضعتم و كأنكم بالمشمرين فيه و قد وصلوا و انقطعتم أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم .
( ما ضاع من أيامنا هل يعزم ... هيهات و الأزمان كيف تقوم ) .
( يوم بأرواح تباع و تشترى ... و أخوه ليس يسام فيه درهم ) .
قلوب المتقنين إلى هذا الشهر تحن و من ألم فراقه تئن .
( دهاك الفراق فما تصنع ... أتصبر للبين أم تجزع ) .
( إذا كنت تبكي وهم جيرة ... فكيف تكون إذا ودعوا ) .
كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع و هو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع .
( تذكرت أياما مضت و لياليا ... خلت فجرت من ذكرهن دموع ) .
( ألا هل لها يوما من الدهر عودة ... و هل لي إلى يوم الوصال رجوع ) .
( و هل بعد إعاض الحبيب تواصل ... و هل لبدور قد أفلن طلوع ) .
أين حرق المجتهدين في نهاره أين قلق المجتهدين في أسحاره فكيف حال من خسر في أيامه و لياليه ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه و قد عظمت فيه مصيبته و جل عزاؤه كم نصح المسكين فما قبل النصح كم دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح كم شاهد الواصلين فيه و هو متباعد كم مرت به زمر السائرين و هو قاعد حتى إذا ضاق به الوقت و خاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم و طلب الإستدراك في وقت العدم .
( أتترك من تحب و أنت جار ... و تطلبهم و قد بعد المزار ) .
( و تبكي بعد نأيهم اشتياقا ... و تسأل في المنازل أين ساروا ) .
( تركت سؤالهم و هم حضور ... و ترجو أن تخبرك الديار ) .
( فنفسك لم و لا تلم المطايا ... و مت كمدا فليس لك اعتذار ) .
يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تدفق قلوبهم من ألم الفراق تشقق عسى وقفة للوداع تطفىء من نار الشوق ما أحرق عسى ساعة توبة و إقلاع ترفو من الصيام كلما تخرق عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق عسى أسير الأوزار يطلق عسى من استوجب النار يعتق .
( عسى و عسى من قبل وقت التفرق ... إلى كل ما ترجو من الخير تلتقى ) .
( فيجبر مكسور و يقبل تائب ... و يعتق خطاء و يسعد من شقى )