المجلس الرابع في ختام العام .
خرج الإمام أحمد [ من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد و إن من السعادة أن يطول عمر العبد و يرزقه الله الإنابة ] فتمني الموت يقع على وجوه : منها : تمنيه لضر دنيوي ينزل بالعبد فينهى حينئذ عن تمني الموت و في الصحيحين [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد فاعلا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي و توفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ] و وجه كراهيته في هذا الحال أن المتمني للموت لضر نزل به إنما يتمناه تعجيلا للإستراحة من ضره و هو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت فلعله يصير إلى ضر أعظم من ضره فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما يستريح من غفر له ] فلهذا لا ينبغي له أن يدعو بالموت إلا أن يشترط أن يكون خيرا له عند الله عز و جل فكذلك كل ما يعلم العبد فيه الخيرة له كالغنى و الفقر و غيرهما كما يشرع له استخارة الله تعالى فيما يريد أن يعمله مما لا يعلم وجه الخيرة فيه و إنما يسأل الله عز و جل على وجه الجزم و القطع مما يعلم أنه خير محض كالمغفرة و الرحمة و العفو و العافية و التقى و الهدى و نحو ذلك و منها : تمنيه خوف الفتنة في الدين فيجوز حينئذ و قد تمناه و دعا به خشية فتنة الدين خلق من الصحابة و أئمة الإسلام و في حديث المنام : [ و إذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ] و منها : تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة اغتناما لحضورها فيجوز ذلك أيضا و سؤال الصحابة الشهادة و تعرضهم لها عند حضور الجهاد كثير مشهور و كذلك سؤال معاذ لنفسه و أهل بيته الطاعون لما وقع بالشام و منها : تمني الموت لمن وثق بعمله شوقا إلى لقاء الله عز و جل فهذا يجوز أيضا و قد فعله كثير من السلف قال أبو الدرداء : أحب الموت اشتياقا إلى ربي و قال أبو عنبسة الخولاني : كان من قبلكم لقاء الله أحب إليه من الشهد .
و قال بعضهم : طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك و قال بعضهم : لا تطيب نفسي بالموت إلا إذا ذكرت لقاء الله عز و جل فإنني حينئذ أشتاق إلى الموت كشوق الظمآن الشديد ظمؤه في اليوم الحار الشديد حره إلى الماء البارد الشديد برده و في هذا يقول بعضهم : .
( أشتاق إليك يا قريبا نائي ... شوق ظأم إلى الزلال الماء ) .
و قد دل على جواز ذلك قول الله عز و جل : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت } و قوله : { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت } فدل ذلك على أن أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنوه ثم أخبر أنهم : { و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } فدل على : أنه يكره الموت من له ذنوب يخاف القدوم عليها كما قال بعض السلف : ما يكره الموت إلا مريب و في [ حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه و سلم أسألك لذة النظر إلى وجهك و شوقا إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة ] فالشوق إلى لقاء الله تعالى إنما يكون بمحبة الموت و ذلك لا يقع غالبا إلا عند خوف ضراء مضرة في الدنيا أو فتنة مضلة في الدين فأما إذا خلا عن ذلك كان شوقا إلى لقاء الله عز و جل و هو المسؤول في هذا الحديث و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين الموت إلا من وثق بعمله ] فالمطيع لله مستأنس بربه فهو يحب لقاء الله و الله يحب لقاءه و العاصي مستوحش بينه و بين مولاه وحشة الذنوب فهو يكره لقاء ربه و لا بد له منه قال ذو النون : كل مطيع مستأنس و كل عاص مستوحش و في هذا يقول بعضهم : .
( أمستوحش أنت مما جنيت ... فاحسن إذا شئت و استأنس ) .
قال أبو بكر الصديق لعمر Bهما في وصيته له عند الموت : أن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت و لا بد لك منه و إن ضيعتها لم يكن غائب أكره إليك من الموت و لن تعجزه قال أبو حازم : كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مت العاصي يفر من الموت لكراهية لقاء الله و أين يفر من هو في قبضة من يطلبه .
( أين المفر و الإله الطالب ... و المجرم المغلوب ليس الغالب ) .
سئل أبو حازم : كيف القدوم على الله ؟ قال : أما المطيع فقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه و أما العاصي فكقدوم الآبق على سيده الغضبان .
رؤي بعض الصالحين في النوم فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : خيرا لم ير مثل الكريم إذا حل به مطيع الدنيا كلها شهر صيام المتقين و عيد فطرهم يوم لقاء ربهم كما قيل : .
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقائكم ذاك فطر صيامي ) .
و منها : تمني الموت على غير الوجوه المتقدمة فقد اختلف العلماء في كراهيته و استحبابه و قد رخص فيه جماعة من السلف و كرهه آخرون و حكى بعض أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين و لا يصح فإن أحمد إنما نص على كراهة تمني الموت لضرر الدنيا و على جواز تمنيه خشية الفتنة في الدين و ربما أدخل بعضهم في هذا الإختلاف القسم الذي قبله و في ذلك نظر و استدل من كرهه بعموم النهي عنه كما في حديث جابر الذي ذكرناه و في معناه أحاديث أخر يأتي بعضها إن شاء الله تعالى و قد علل النهي عن تمني الموت في حديث جابر بعلتين : إحداهما : أن هول المطلع شديد و هول المطلع : هو ما يكشف للميت عند حضور الموت من الأهوال التي عهد له بشيء منها في الدنيا من رؤية الملائكة و رؤية أعماله من خير أو شر و ما يبشر به عند ذلك من الجنة و النار هذا مع ما يلقاه من شدة الموت و كربه و غصصه و في الحديث الصحيح : [ إذا حملت الجنازة و كانت صالحة قالت : قدموني قدموني و إن كانت غير ذلك قالت : يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان و لو سمعها الإنسان لصعق ] قال الحسن : لو أعلم ابن آدم أن له في الموت راحة و فرحا لشق عليه أن يأتيه الموت لما يعلم من فظاعته و شدته و هوله فكيف و هو لا يعلم ما له في الموت نعيم دائم أو عذب مقيم بكى النخعي عند احتضاره و قال : انتظر ملك الموت لا أدري يبشرني بالجنة أو النار فالمتمني للموت كأنه يستعجل حلول البلاء و إنما أمرنا بسؤال العافية و سمع ابن عمر رجلا يتمنى الموت فقال : لا تتمنى الموت فإنك ميت و لكن سل الله العافية قال إبراهيم بن أدهم : إن للموت كأسا لا يقوى عليها إلا خائف وجل مطيع لله كان يتوقعها و قال أبو العتاهية : .
( ألا للموت كأس أي كأس ... و أنت لكأسه لا بد حاسي ) .
( إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي ) .
جزع الحسن بن علي Bهما عند موته و قال : إني أريد أن أشرف على ما لم أشرف عليه قط و بكى الحسن البصري عند موته و قال : نفيسة ضعيفة و أمر مهول عظيم و إنا لله و إنا إليه راجعون و كان حبيب العجمي عند موته يبكي و يقول : أريد أن أسافر سفرا ما سافرته قط و أسلك طريقا ما سلكته قط و أزور سيدي و مولاي و ما رأيته قط و أشرف على أهوال ما شاهدتها قط فهذا كله من هول المطلع الذي قطع قلوب الخائفين حتى قال عمر عند موته : لو أن لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطلع و من هول المطلع ما يكشف للميت عند نزوله قبره من فينة القبر فإن الموتى يفتنون بالمسألة في قبورهم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال و ما يكشف لهم في قبورهم عن منازلهم من الجنة و النار و ما يلقون من ضمة القبر و ضيقته و هوله و عذابه إن لم يعاف الله من ذلك رؤي بعض الصالحين في المنام بعد موته فسئل عن حاله فأنشد : .
( و ليس يعلم ما في القبر داخله ... إلا الإله و ساكن الأجداث ) .
و العلة الثانية : أن المؤمن لا يزيد عمره إلا خيرا فمن سعادته أن يطول عمره و يرزقه الله الإنابة إليه و التوبة من ذنوبه السالفة و الإجتهاد في العمل الصالح فإذا تمنى الموت فقد تمنى إقطاع عمله الصالح فلا ينبغي له ذلك و [ روى إبراهيم الحربي من رواية ابن لهيعة عن ابن الهاد عن ابن المطلب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : السعادة طول العمر في طاعة الله عز و جل ] و قد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة ففي صحيح البخاري [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت أما محسنا فلعله أن يزداد خيرا و إما مسيئا فلعله أن يستعتب ] و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ] و في مسند الإمام أحمد [ عن أبي هريرة Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله فإنه إن مات أحدكم انقطع عنه عمله و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ] و فيه [ عن أم الفضل Bها أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع العباس و هو يشتكي فتمنى الموت فقال : لا تتمنى الموت فإنك إن كنت محسنا تزداد إحسانا و إن كنت مسيئا فإن تؤخر تستعب من إساءتك خير لك ] و فيه أيضا [ عن أبي أمامة Bه قال : جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرنا و رققنا فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء و قال : يا ليتني مت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك و حسن من عملك فهو خير لك ] و في المعنى أحاديث أخر كثيرة و كلها تدل على النهي عن تمني الموت بكل حال و أن طول عمر المؤمن خير له فإنه يزداد فيه خيرا و هذا قد قيل إنه يدخل فيه تمنيه للشوق إلى لقاء الله و فيه نظر فإن النبي صلى الله عليه و سلم قد تمناه في تلك الحال و اختلف السالكون أيما أفضل من تمنى الموت شوقا إلى لقاء الله أو من تمنى الحياة رغبة في طاعة الله أو من فوض الأمر إلى الله و رضي باختياره له و لم يختر لنفسه شيئا و استدل طائفة من الصحابة على تفضيل الموت على الحياة بقول الله عز و جل : { و ما عند الله خير للأبرار } و لكن الأحاديث الصحيحة تدل على أن عمر المؤمن كلما طال ازداد بذلك ما له عند الله من الخير فلا ينبغي له أن يتمنى انقطاع ذلك اللهم إلا أن يخشى الفتنة على دينه فإنه إذا خشي الفتنة على دينه فقد خشي أن يفوته ما عند الله من خير و يتبدل ذلك بالشر عياذا بالله من ذلك و الموت خير من الحياة على هذه الحال قال ميمون بن مهران : لا خير في الحياة إلا لتائب أو رجل يعمل في الدرجات يعني أن التائب يمحو بالتوبة ما سلف من السيئات و العامل يجتهد في علو الدرجات و من عداهما فهو خاسر كما قال تعالى : { و العصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر } فأقسم الله تعالى أن كل إنسان خاسر إلا من اتصف بهذه الأوصاف الأربعة : الإيمان و العمل الصالح و التواصي بالحق و التواصي بالصبر على الحق فهذه السورة ميزان للأعمال يزين المؤمن بها نفسه فيبين له بها ربحه من خسرانه و لهذا قال الشافعي Bه : لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم رأى بعض المتقدمين النبي صلى الله عليه و سلم في منامه فقال له أوصني ؟ فقال له : من استوى يوماه فهو مغبون و كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون و من لم يتفقد الزيادة في عمله فهو في نقصان و من كان في نقصان فالموت خير له قال بعضهم : كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير و يستحيون من فقد ذلك و يعدونه خسرانا كما قيل : .
( أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا نفع و تحسب من عمري ) .
فالمؤمن القائم بشروط الإيمان لا يزداد بطول عمره إلا خيرا و من كان كذلك فالحياة خير له من الموت و في دعاء النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و الموت راحة لي من كل شر ] خرجه مسلم و في الترمذي [ عنه صلى الله عليه و سلم أنه سئل : أي الناس خير ؟ قال : من طال عمره و حسن عمله قيل : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره و ساء عمله ] و في المسند و غيره : [ أن نفرا ثلاثة قدموا النبي صلى الله عليه و سلم فأسلموا فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه و سلم بعثا فخرج فيهم أحدهم فاستشهد ثم بعث بعثا آخر فخرج منهم فاستشهد ثم مات الثالث على فراشه قال طلحة : فرأيتهم في الجنة فرأيت الميت على فراشه أمامهم و رأيت الذي استشهد آخرا يليه ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : و ما أنكرت من ذلك ليس أفضل عند الله عز و جل من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه و تكبيره و تهليله ] و في رواية قال [ أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ قالوا : بلى قال : و أدرك رمضان فصامه ؟ قالوا : بلى قال : و صلى كذا و كذا سجدة في السنة ؟ قالوا : بلى قال : فلما بينهما أبعد ما بين السماء و الأرض ] قيل لبعض السلف طاب الموت قل : لا تفعل لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدهر و قيل لشيخ كبير منه : تحب الموت ؟ قال : لا قيل : و لم ؟ قال : ذهب الشباب و شره و جاء الكبر و خيره فإذا قمت قلت : بسم الله و إذا قعدت قلت : الحمد لله فأنا أحب أن يبقى لي هذا و قيل لشيخ آخر منهم : ما بقي مما تحب له الحياة قال : البكاء على الذنوب و لهذا كان السلف الصالح يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم عنهم بالموت و بكى معاذ عند موته و قال : إنما أبكي على ظمأ الهواجر و قيام ليل الشتاء و مزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر و بكى عبد لرحمن بن الأسود عند موته و قال : وا أسفاه على الصوم و الصلاة و لم يزل يتلو القرآن حتى مات و بكى يزيد الرقاشي عند موته و قال : أبكي على ما يفوتني من قيام الليل و صيام النهار ثم بكى و قال : من يصلي لك يا يزيد بعدك و من يصوم و من يتقرب لك بالأعمال الصالحة و من يتوب لك من الذنوب السالفة و جزع بعضهم عند موته و قال : إنما أبكي على أن يصوم الصائمون لله و لست فيهم و يصلي المصلون و لست فيهم و يذكر الذاكرون و لست فيهم فذلك الذي أبكاني .
( تحمل أصحابي و لم يجدوا وجدي ... و للناس أشجان و لي شجن وحدي ) .
( أحبكم ما دمت حيا فإن أمت ... فوا أسفى ممن يحبكم بعدي ) .
في الترمذي [ عن أبي هريرة Bه مرفوعا : ما من ميت مات إلا ندم : إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد و إن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب ] إذا كان المحسن يندم على ترك الزيادة فكيف يكون حال المسيء رأى بعض المتقدمين في المنام قائلا يقول له : .
( يا خد إنك إن توسد لينا ... وسدت بعد الموت صم الجندل ) .
( فاعمل لنفسك في حياتك صالحا ... فلتقدمن غدا إذا لم تفعل ) .
و رأى آخر في المنام قائلا يقول له : .
( إن كنت لا ترتاب أنك ميت ... و لست لبعد الموت ما أنت تعمل ) .
( فعمرك ما يفنى و أنت مفرط ... و اسمك في الموتى معد محصل ) .
رؤي بعض الموتى في المنام فقال : ما عندنا أكثر من الندامة و لا عندكم أكثر من الغفلة وجد على قبر مكتوب : .
( ندمت على ما كان مني ندامة ... و من يتبع ما تشتهي النفس يندم ) .
( ألم تعلم أن الحساب أمامكم ... و أن وراءكم طالبا ليس يسأم ) .
( فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم ... ستلقون ربا عادلا ليس يظلم ) .
( فليس لمغرور بدنياه راحة ... سيندم إن زلت له النعل فاعلموا ) .
الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم بتسبيحة و بركعة و مهم من يسأل الرجعة إلى الدنيا لذلك فلا يقدرون على ذلك قد حيل بينهم و بين العمل غلقت منهم الرهون و رؤي بعضهم في المنام فقال : ندمنا على أمر عظيم نعلم و لا نعمل و أنتم تعملون و لا تعلمون و الله لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحب إليه من الدنيا و ما فيها قال بعض السلف : كل يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة و قال بعضهم بقية عمر المؤمن لا قيمة له يعني أنه يمكنه أن يمحو فيه ما سلف منه من الذنوب بالتوبة و أن يجتهد فيه في بلوغ الدرجات العالية بالعمل الصالح فأما من فرط في بقية عمره فإنه خاسر فإن ازداد فيه من الذنوب فذلك هو الخسران المبين الأعمال بالخواتيم من أصلح فيما بقي غفر له ما مضى و من أساء فيما بقي أخذ بما بقي و ما مضى .
( يا بائع عمره مطيعا أمله ... في معصية الله كفعل الجهلة ) .
( إن ساومك الجهل باقيه فقل ... باقي عمر المؤمن لا قيمة له ) .
ما مضى من العمر و إن طالت أوقاته فقد ذهب لذاته و بقيت تبعاته و كأنه لم يكن إذا جاء الموت و ميقاته قال الله عز و جل : { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } تلا بعض السلف هذه الآية و بكى و قال : إذا جاء الموت لم يغن عن المرء ما كان فيه من اللذة و النعيم و في هذا المعنى ما أنشده أبو العتاهية للرشيد حين بنى قصره و استدعى إليه ندماءه .
( عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور ) .
( يسعى عليك بما اشتهيـ ... ت لدى الرواح و في البكور ) .
( فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور ) .
( فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور ) .
و في صحيح البخاري [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر الله إلى من بلغه ستين من عمره ] و في الترمذي [ أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين و أقلهم من يجوز ذلك ] و في رواية : [ حصاد أمتي من بلغ الخمسين فقد تنصف المائة فماذا ينتظر ] .
( لهفي على خمسين عاما قد مضت ... كانت أمامي ثم خلفتها ) .
( لو كان عمر بمائة هدني ... تذكري أني تنصفتها ) .
في بعض الكتب السالفة : إن لله مناديا ينادي كل يوم : أبناء الخمسين زرع دنا حصاده أبناء الستين هلموا إلى الحساب أبناء السبعين ماذا قدمتم و ماذا أخرتم أبناء الثمانين لا عذر لكم ليت الخلق لم يخلقوا و ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا و تجالسوا بيهم فتذاكروا ما عملوا ألا أتتكم الساعة فخذوا حذركم و قال وهب : إن لله مناديا ينادي في السماء الرابعة كل صباح : أبناء الأربعين زرع دنا حصاده أبناء الخمسين ماذا قدمتم و ما أخرتم أبناء الستين لا عذر لكم و في حديث : [ إن الله يقول للحفظة ارفقوا بالعبد ما دامت حداثته فإذا بلغ الأربعين حققا و تحفظا ] فكان بعض رواته يبكي عند روايته و يقول : حين كبرت السن و رق العظم وقع التحفظ قال مسروق : إذا أتتك الأربعون فخذ حذرك و قال النخعي : كان يقال لصاحب الأربعين احتفظ بنفسك و كان كثير من السلف إذا بلغ الأربعين تفرغ للعبادة و قال عمر بن عبد العزيز : تمت حجة الله على ابن الأربعين فمات لها و رأى في منامه قائلا يقول له : .
( إذا ما أتتك الأربعون فعندها ... فاخش الإله و كن للموت حذارا ) .
يا أبناء العشرين كم مات من أقرانكم و تخلفتم يا أبناء الثلاثين أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم يا أبناء الأربعين ذهب الصبا و أنتم على اللهو قد عكفتم يا أبناء الخمسين تنصفتم المائة و ما أنصفتم يا أبناء الستين أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم أتلهون و تلعبون لقد أسرفتم .
( و إذا تكامل للفتى من عمره ... خمسون و هو إلى التقى لم يجنح ) .
( عكفت عليه المخزيات فما له ... متأخر عنها و لا متزحزح ) .
( و إذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حيا و قال فديت من لا يفلح ) .
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تصل .
( و إن امرءا قد سار ستين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب ) .
يا من يفرح بكثرة مرور السنين عليه إنما تفرح بنقص عمرك قال أبو الدرداء و الحسن Bهما : إنما أنت أيام كلما مضى منك يوم مضى بعضك .
( إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... و كل يوم مضى يدني من الأجل ) .
( فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا ... فإنما الربح و الخسران في العمل ) .
قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره و شهره يهدم سنته و سنته تهدم عمره ؟ كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله و حياته إلى موته ؟ .
( نجد سرورا بالهلال إذا بدا ... و ما هو إلا السيف للحتف ينتضى ) .
( إذا قيل تم الشهر فهو كناية ... و ترجمة عن شطر عمر قد انقضى ) .
قال الحسن : الموت معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى من ورائكم و هي مراحل .
( نسير إلى الآجال في كل لحظة ... و أعمارنا تطوى و هن مراحل ) .
( ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام و هن قلائل ) .
قال بعض الحكماء : من كانت الليالي و الأيام مطاياه سارتا به و إن لم يسر .
( و ما هذه الأيام إلا مراحل ... يحث بها حاد إلى الموت قاصد ) .
( و أعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوى و المسافر قاعد ) .
يا من كلما طال عمره زاد ذنبه يا من كلما ابيض شعره بمرور الأيام اسود بالآثام قلبه .
( شيخ كبير له ذنوب ... تعجز عن حملها المطايا ) .
( قد بيضت شعره الليالي ... و سودت قلبه الخطايا ) .
يا من تمر عليه سنة بعد سنة و هو مستثقل في نوم الغفلة و السنة يا من يأتي عليه عام بعد عام و قد غرق في بحر الخطايا فعام يا من يشاهد الآيات و العبر كلما توالت عليه الأعوام و الهور و يسمع الآيات و السور و لا ينتفع بما يسمع و لا بما يرى من عظائم الأمور ما الحيلة فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور : { فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور } ـ { و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور } .
( خليلي كم من ميت قد حضرته ... و لكنني لم أنتفع بحضوري ) .
( و كم من ليالي قد أرتني عجائبا ... لهن و أيام خلت و شهور ) .
( و كم من سنين قد طوتني كثيرة ... و كم من أمور قد جرت و أمور ) .
( و من لم يزده السن ما عاش عبرة ... فذاك الذي لا يستنير بنور )