فصل ـ و يلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية ـ وظائف فصول السنة الشمسية و فيه ثلاث مجالس ـ المجلس الأول في ذكر فصل الربيع .
خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل : ما بركات الأرض ؟ قال : زهرة الدنيا فقال له رجل : هل يأتي الخير بالشر ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ظننت أنه سينزل عليه ثم جعل يمسح عن جبينه قال : أين السائل ؟ قال : أنا قال : لا يأتي الخير إلا بالخير إن هذا المال خضرة حلوة و إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت و ثلطت و بالت ثم عادت فأكلت و إن هذا المال خضرة حلوة من أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و إن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل و لا يشبع ] كان النبي صلى الله عليه و سلم يتخوف على أمته من فتح الدنيا عليهم فيخاف عليهم الإفتتان بها .
ففي الصحيحين [ عن عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للأنصار لما جاءه مال من البحرين : أبشروا و أملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم و لكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم ما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ] و كان آخر خطبة خطبها على المنبر حذر فيها من زهرة الدنيا ففي الصحيحين [ عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و سلم صعد المنبر فقال : إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي و لكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم ] قال قال عقبة : فكان آخر ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر و في صحيح مسلم [ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا افتتحت عليكم خزائن فارس و الروم أي قوم أنتم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : نقول كما أمرنا الله عز و جل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ] و في المسند [ عن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة ] قال عمرو : أنا أشفق من ذلك و فيه أيضا [ عن أبي ذر : أن أعرابيا قال : يا رسول الله أكلتنا الضبع يعني السنة و الجدب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : غير ذلك أخوف مني عليكم حين تصب عليكم الدنيا صبا فليت أمتي لا يلبسون الذهب ] و في رواية الديباج و فيه أيضا [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما أخشى عليكم الفقر و لكني أخشى عليكم التكاثر ] .
و يروى [ من حديث عوف بن مالك و أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الفقر تخافون و الذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هي ] و في رواية عوف : [ فإن الله فاتح عليكم فارس و الروم ] و في المعنى أحاديث أخر و في الترمذي أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ لكل أمة فتنة و إن فتنة أمتي المال ] .
فقوله صلى الله عليه و سلم في حديث أبي سعيد الخدري : [ إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض ] ثم فسره بزهرة الدنيا و مراده : ما يفتح على أمته منها من ملك فارس و الروم و غيرهم من الكفار الذين ورثت هذه الأمة ديارهم و أموالهم و أراضيهم التي تخرج منها زروعهم و ثمارهم و أنهارهم و معادنهم و غير ذلك مما يخرج من بركات الأرض و هذا من أعظم المعجزات و هو إخباره بظهور أمته على كنوز فارس و الروم و أموالهم و ديارهم و وقع على ما أخبر به و لكنه لما سمى ذلك ببركات الأرض و أخبر أنه أخوف ما يخافه عليهم أشكل ذلك على بعض من سمعه حيث سماه بركة ثم خاف منه أشد الخوف فإن البركة إنما هي خير و رحمة و قد سمى الله تعالى المال خيرا في مواضع كثيرة من القرآن فقال تعالى : { و إنه لحب الخير لشديد } و قال : { إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين } و قال تعالى عن سليمان عليه السلام : { إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } فلما سأله السائل : هل يأتي الخير بالشر صمت النبي صلى الله عليه و سلم حتى ظنوا أنه أوحي إليه و الظاهر أن الأمر كان كذلك و يدل عليه أنه ورد في رواية لمسلم في هذا الحديث : [ فأفاق يمسح عنه الرحضاء ] ـ و هو العرق ـ و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أوحي إليه يتحدر منه مثل الجمان من العرق من شدة الوحي و ثقله عليه و في هذا دليل على أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا سئل عن شيء لم يكن أوحي إليه فيه شيء انتظر الوحي فيه و لم يتكلم فيه بشيء حتى يوحى إليه فيه فلما نزل عليه جواب ما سئل عنه قال : أين السائل ؟ قال : ها أنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الخير لا يأتي إلا بالخير ] و في رواية لمسلم فقال : [ أو خير هو ؟ ] و في ذلك دليل على : أن المال ليس بخير على الإطلاق بل منه خير و منه شر ثم ضرب مثل المال و مثل من يأخذه بحقه و يصرفه في حقه و من يأخذه من غير حقه و يصرفه في غير حقه فالمال في حق الأول خير و في حق الثاني شر فتبين بهذا أن المال ليس بخير مطلق بل هو خير مقيد فإن استعان به المؤمن على ما ينفعه في آخرته كان خيرا له و إلا كان شرا له فأما المال فقال : [ إنه خضرة حلوة ] .
و قد وصف المال و الدنيا بهذا الوصف في أحاديث كثيرة : ففي الصحيحين [ عن حكيم بن حزام أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاه ثم سأله فأعطاه ثم سأله فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه و من أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه و كان كالذي يأكل و لا يشبع ] و في صحيح مسلم [ عن أبي سعيد الخدري Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا و اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ] و استخلافهم فيها هو ما أورثهم الله منها مما كان في أيدي الأمم من قبلهم كفارس و الروم و حذرهم من فتنة الدنيا و فتنة النساء خصوصا فإن النساء أول ما ذكره الله من شهوات الدنيا و متاعها في قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا } و في المسند و الترمذي [ عن خولة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن هذا المال خضرة حلوة فمن أصابه بحقه بورك له فيه و رب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله و رسوله ليس له يوم القيامة إلا النار ] و في المسند أيضا [ عن خولة بنت ثامر الأنصارية عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن رجالا سيخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة ] و خرج البخاري من قوله : [ إن رجالا ] إلى آخره و في المسند أيضا [ عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن هذه الدنيا خضرة حلوة فمن آتيناه منها شيئا بطيب نفس أو طيب طعمة و لا إسراف بورك له فيه و من آتيناه منها شيئا بغير طيب نفس منا و غير طعمة و إسراف منه لم يبارك له فيه ] و في المعنى أحاديث أخر .
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا أكلة الخضر ] مثل آخر ضربه صلى الله عليه و سلم لزهرة الدنيا و بهجة منظرها و طيب نعيمها و حلاوته في النفوس فمثله كمثل نبات الربيع و هو المرعى الخضر الذي ينبت في زمان الربيع فإنه يعجب الدواب التي ترعى فيه و تستطيبه و تكثر من الأكل منه أكثر من قدر حاجتها لاستحلائها له فأما أن يقتلها فتهلك و تموت حبطا و الحبط : انتفاخ البطن من كثرة الأكل أو يقارب قتلها و يلم به فتمرض منه مرضا مخوفا مقاربا للموت فهذا مثل من يأخذ من الدنيا بشره و جوع نفس من حيث لاحت له لا بقليل يقنع و لا بكثير يشبع و لا يحلل و لا يحرم بل الحلال عنده ما حل بيده و قدر عليه و الحرام عنده ما منع منه و عجز عنه فهذا هو المتخوض في مال الله و رسوله فيما شاءت نفسه و ليس له إلا النار يوم القيامة كما في حديث خولة المتقدم و المراد بمال الله و مال رسوله : الأموال التي يجب على ولاة الأمور حفظها و صرفها في طاعة الله و رسوله من أموال الفيء و الغنائم و يتبع ذلك مال الخراج و الجزية و كذا أموال الصدقات التي تصرف للفقراء و المساكين كمال الزكاة و الوقف و نحو ذلك و في هذا تنبيه على أن من تخوض من الدنيا في الأموال المحرم أكلها كمال الربا و مال الأيتام الذي من أكله أكل نارا و المغضوب و السرقة و الغش في البيوع و الخداع و المكر و جحد الأمانات و الدعاوى الباطلة و نحوها من الحيل المحرمة أولى أن يتخوض صاحبها في نار جهنم غدا فكل هذه الأموال و ما أشبهها يتوسع بها أهلها في الدنيا و يتلذذون بها و يتوصلون بها إلى لذات الدنيا و شهواتها ثم ينقلب ذلك بعد موتهم فيصير جمرا من جمر جهنم في بطونهم فما تفي لذتها بتبعها كما قيل : .
( تفنى اللذاذة ممن نال لذاتها ... من الحرام و يبقى الإثم و العار ) .
( تبقى عواقب سوء من مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار ) .
فلهذا شبه النبي صلى الله عليه و سلم من يأخذها بغير حقها و يضعها في غير حقها بالبهائم الراعية من خضراء الربيع حتى تنتفخ بطونها من أكله فإما أن يقتلها و إما أن يقارب قتلها فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقها و وضعها في غير وجهها إما أن يقتله ذلك فيموت به قلبه و دينه و هو من مات على ذلك من غير توبة منه و إصلاح حال فيستحق النار بعمله قال الله تعالى : { و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم } و هذا هو الميت حقيقة فإن الميت من مات قلبه كما قيل : .
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء ) .
و أما أن يقارب موته ثم يعافى و هو من أفاق من هذه السكرة و تاب قبل موته .
و قد قال علي Bه في كلامه المشهور في أقسام جملة العلم : أو منهوم باللذات سلس القياد للشهوات أو مغرى بجمع الأموال و الإدخار و ليسوا من رعاة الدين أقرب شبابهم الأنعام السارحة و في الأبيات المشهورة التي كان عمر بن عبد العزيز ينشدها كثيرا : .
( نهارك يا مغرور سهو و غفلة ... و ليلك نوم و الردى لك لازم ) .
( و تتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم ) .
و إما استثناؤه صلى الله عليه و سلم من ذلك : [ آكلة الخضر ] فمراده بذلك مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقها مقدار حاجته فإذا نفذ و احتاج عاد إلى الأخذ منها قدر الحاجة بحقه و آكلة الخضر : دويبة تأكل من الخضر بقدر حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل ثم تصرفه عنها فتستقبل عين الشمس فتصرف بذلك ما في بطنها و تخرج منه ما يؤذيها من الفضلات و قد قيل : إن الخضر ليس من نبات الربيع عند العرب إنما هو من كلاء الصيف بعد يبس العشب و هيجه و اصفراره و الماشية من الإبل لا تستكثر منه بل تأخذ منه قليلا قليلا و لا تحبط بطونها منه فهذا مثل المؤمن المقتصد من الدنيا يأخذ من حلالها و هو قليل بالنسبة إلى حرامها قدر بلغته و حاجته و يجتزي من متاعها بأدونه و أخشنه ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفذ ما عنده و خرجت فضلاته فلا يوجب له هذا الأخذ ضررا و لا مرضا و لا هلاكا بل يكون ذلك بلاغا له و يتبلغ به مدة حياته و يعينه على التزود لآخرته و في هذا إشارة إلى مدح من أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته و قنع بذلك كما قال صلى الله عليه و سلم : [ قد أفلح من هداه الله إلى الإسلام و كان عيشه كفافا فقنع به ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ خير الرزق ما يكفي ] و قال : [ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ] .
( خذ من الرزق ما كفا ... و من العيش ما صفا ) .
( كل هذا سينقضي ... كسراج إذا انطفا ) .
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ إن هذا المال خضرة حلوة ] فأعاده مرة ثانية تحذيرا من الإغترار به فخضرته منظرة و حلاوته طيب طعمه فلذلك تشتهيه النفوس و تسارع إلى طلبه و لكن لو فكرت في عواقب لهربت منه الدنيا في الحال حلوة خضره و في المآل مرة كدرة نعمت المرضعة و بئست الفاطمة .
( إنما الدنيا نهار ... ضوءه ضوء معار ) .
( بينما عيشك غض ... ناعم فيه اخضرار ) .
( إذ رماه زمناه ... فإذا فيه اصفرار ) .
( و كذلك الليل يأتي ... ثم يمحوه النهار ) .
مثل حرام الدنيا كشجرة الدفلى تعجب من رآها و تقتل من آكلها .
( نرى الدنيا و زهرتها فنصبوا ... و ما يخلو من الشهوات قلب ) .
( فضول العيش أكثره هموم ... و أكثر ما يضرك ما تحب ) .
( إذا اتفق القليل و فيه سلم ... فلا ترد الكثير و فيه حرب ) .
الذي بشر أمته بفتح الدنيا عليهم حذرهم من الإغترار بزهرتها و خوفهم من خضرتها و حلاوتها و أخبرهم بخبرابها و فنائها و أن بين أيديهم دارا لا تنقطع خضرتها و حلاوتها فمن وقف مع زهرة هذه العاجلة انقطع و هلك و من لم يقف معها و سار إلى تلك وصل و نجا في المسند [ عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاه فيما يرى النائم ملكان فقعد أحدهما عند رأسه و الآخر عند رجليه فقال أحدهما للآخر : اضرب له مثلا فقال : إن مثله و مثل أمته كمثل قوم سفر انتهو إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة و لا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذا أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة و حياضا رواء أتتبعوني ؟ قالوا : نعم قال : فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة و حياضا رواء فأكلوا و شربوا و سمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة و حياضا رواء أن تتبعوني ؟ قالوا : بلى قال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه و حياضا هي أروى من هذه فاتبعوني قال : فقالت طائفة : صدق و الله لتتبعنه و قالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عله ] و قد خرجه ابن أبي الدنيا و غيره من الحسن مرسلا بسياق أبسط من هذا و فيه : [ إنهم لما رتعوا و سمنوا و أعجبهم المنزل صاح بهم فقال : ارتحلوا فإن هذه الروضة ذاهبة و إن هذا الماء غائر ذاهب و إن أمامكم روضة أعشب من هذه و ماء أروى من هذا الماء فكره ذلك عامة الناس و قالوا : ما نريد بهذه بدلا و هم أكثر الناس و قال آخرون : و الله إن آخر قوله كأوله ارتحلوا فأبوا فارتحل قوم فنجوا و لم يشعر الذين أقاموا حتى طرقهم العدو ليلا فأصبحوا بين أسير و قتيل ] الدنيا : خضراء الدمن و معنى ذلك أن خضرتها نابتة على مزبلة منتنة يا دني الهمة قنعت بروضة على مزبلة و الملك يدعوك إلى فردوسه الأعلى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } أرضيتم بخرابات البلى في الفردوس الأعلى يا لها صفقة غبن أتقنع بخسائس الحشائش و الرياض معشبة بين يديك .
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ من أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و من أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل و لا يشبع ] تقسيم لمن يأخذ المال على قسمين : فأحدهما : يشبه حال آكلة الخضر و هو من أخذه بحقه و وضعه في حقه و ذكر أنه نعم المعونة هو فإنه نعم العون لمن هذه صفته على الآخرة كما في [ حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نعم المال الصالح للرجل الصالح ] و هو الذي يأخذ بحقه و يضعه في حقه فهذا يوصله ماله إلى الله عز و جل فمن أخذ من المال بحقه ما يقويه على طاعة الله و يستعين به عليها كان أخذه طاعة و نفقته طاعة و في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك ] و في حديث آخر : [ ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة و ما أطعمت أهلك فهو لك صدقة و ما أطعمت ولدك فهو لك صدقة و ما أطعمت خادمك فهو لك صدقة ] فما أخذ من الدنيا بنية التقوى على طلب الآخرة فهو داخل في قسم إرادة الآخرة و السعي لها لا في إرادة الدنيا و السعي لها قال الحسن : ليس من حب الدنيا طلبك ما يصلحك فيها و من زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها و من أحب الدنيا و سرته ذهب خوف الآخرة من قلبه و قال سعيد بن جبير : متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة و ما لم يلهك فليس متاع الغرور و لكنه بلاغ إلى ما هو خير منه و قال بعض العارفين : كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم و كل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا و قال أبو سليمان : الدنيا حجاب عن الله لأعدائه و مطية موصلة إليه لأوليائه فسبحان من جعل شيئا واحدا سببا للإتصال به و الإنقطاع عنه .
و القسم الثاني : يشبه حاله حال البهائم التي ترعى مما ينبت الربيع [ فيقتلها حبطا أو يلم ] و هو من يأخذ المال بغير حقه فيأخذه من الوجوه المحرمة فلا يقنع منه بقليل و لا بكثير و لا يشبع نفسه منه و لهذا قال : [ و كان كالذي يأكل و لا يشبع ] [ و كان النبي صلى الله عليه و سلم يتعوذ من نفس لا تشبع ] و حديث [ زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره و جعل فقره بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ] فمن كان فقره بين عينيه لم يزل خائفا من الفقر لا يستغنى قلبه بشيء و لا يشبع من الدنيا فإن الغنى غنى القلب و الفقر فقر النفس و في حديث خرجه الطبراني مرفوعا : [ الغنى غنى القلب و الفقر في القلب و من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا و من كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له منها و إنما يضر نفسه ] و عن عيسى عليه السلام قال : [ مثل طالب الدنيا كشارب البحر كلما زاد شربا منه زاد عطشا حتى يقتله ] قال يحيى بن معاذ : من كان غناه في قلبه لم يزل غنيا و من كان غناه في كبسه لم يزل فقيرا و من قصد المخلوقين لحوائجه لم يزل محروما و يشهد لذلك كله الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب و يتوب الله على من تاب ] لو فكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع و لو تذكر الجائع إلى فضول مآلها لشبع .
( هب أنك قد ملكت الأرض طرا ... ودان لك العباد فكان ماذا ) .
( أليس إذا مصيرك جوف قبر ... و يحثي التراب هذا ثم هذا ) .
و قد ضرب الله في كتابه مثل الدنيا و خضرتها و نضرتها و بهجتها و سرعة تقلبها و زوالها و جعل مثلها كمثل نبات الأرض النابت من مطر السماء في تقلب أحواله و مآله قال الله تعالى : { و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدرا } و قال تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } و قال تعالى : { أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } و قال تعالى : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } فالدنيا و جميع ما فيها من الخضرة و البهجة و النضرة تتقلب أحواله و تتبدل ثم تصير حطاما يابسا و قد عدد الله سبحانه زينة الدنيا و متاعها المبهج في قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب } و هذا كله يصير ترابا ما خلا الذهب و الفضة و لا ينتفع بأعيانهما بل هما قيم الأشياء فلا ينتفع صاحبهما بإمساكهما و إنما ينتفع بإنفاقهما و لهذا قال الحسن : بئس الرفيق الدرهم و الدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك و أجسام بني آدم بل و سائر الحيوانات كنبات الأرض تنقلب من حال إلى حال ثم تجف و تصير ترابا قال الله تعالى : { و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا } .
( و ما المرء إلا كالنبات و زهره ... يعود رفاتا بعد ما هو ساطع ) .
فينتقل ابن آدم من الشباب إلى الهرم و من الصحة إلى السقم و من الوجود إلى العدم كما قيل : .
( و ما حالتنا إلا ثلاث ... شباب ثم شيب ثم موت ) .
( و آخر ما يسمى المرء شيخا ... و يتلوه من الأسماء ميت ) .
مدة الشباب قصيرة كمدة زهر الربيع و بهجته و نضارته فإذا يبس و ابيض فقد آن ارتحاله كما أن الزرع إذا ابيض فقد آن حصاده و أجمل زهور الربيع الورد و متى كثر فيه البياض فقد قرب زمان انتقاله قال وهيب بن الورد : إن لله ملكا ينادي في السماء كل يوم : أبناء الخمسين زرع دنا حصاده و في حديث مرفوع : [ إن لكل شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ] .
( قد يبلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد ) .
و قد يدرك الزرع آفة قبل بلوغ حصاده فيهلك كما أشير إليه في قوله تعالى : { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } قال ميمون بن مهران لجلسائه : يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا ابيض قالوا الحصاد فنظر إلى الشباب فقال : يا معشر الشباب إن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن يستحصد و قال بعضهم : أكثر من يموت الشباب و آية ذلك أن الشيوخ في الناس قليل .
( أيا ابن آدم لا يغررك عافية ... عليك صافية فالعمر معدود ) .
( ما أنت إلا كزرع عند خضرته ... بكل شيء من الآفات مقصود ) .
( فإن سلمت من الآفات أجمعها ... فأنت عند كمال الأمر محصود ) .
كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة و دليل عليه فنبات الأرض و اخضرارها في الربيع بعد محولها و يبسها في الشتاء و إيناع الأشجار و اخضرارها بعد كونها خشبا يابسا يدل على بعث الموتى من الأرض و قد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه في مواضع كثيرة قال الله تعالى : { و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق و أنه يحيي الموتى و أنه على كل شيء قدير * و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور } و قال الله تعالى : { و نزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات و حب الحصيد * و النخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج } و قال الله تعالى : { و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } قال أبو رزين للنبي صلى الله عليه و سلم : كيف يحي الله الموتى و ما آية ذلك في خلقه ؟ قال : [ هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا ؟ قال : نعم قال : كذلك يخرج الله الموتى و ذلك آيته في خلقه ] خرجه الإمام أحمد و قصر مدة الزرع و الثمار و عود الأرض بعد ذلك إلى يبسها و الشجر إلى حالها الأول كعود ابن آدم بعد كونه حيا إلى التراب الذي خلق منه و فصول السنة تذكر بالآخرة : فشدة حر الصيف يذكر بحر جهنم و هو من سمومها و شدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم و هو من زمهريرها و الخريف يكمل فيه اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة و أما الربيع فهو أطيب فصول السنة و هو يذكر بنعيم الجنة و طيب عيشها و ينبغي أن يحث المؤمن على الإستعداد لطلب الجنة بالأعمال الصالحة كان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين و الفواكه إلى السوق فيقف و ينظر و يعتبر و يسأل الله الجنة و مر سعيد بن جبير بشباب من أبناء الملوك جلوس في مجالسهم في زينتهم فسلموا عليه فلما بعد عنهم بكى و اشتد بكاؤه و قال : ذكرني هؤلاء بشباب أهل الجنة يا هذا تزوج صلة بن أشيم بمعاذة العدوية و كانا من كبار الصالحين فأدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله على زوجته في بيت مطيب منجد فقاما يصليان إلى الصباح فسأله ابن أخيه عن حاله فقال : أدخلتني بالأمس بيتا أذكرتني به النار يعني الحمام و أدخلتني الليلة بيتا أذكرتني به الجنة فلم يزل فكري في الجنة و النار إلى الصباح دعا عبد الواحد بن زيد إخوانه إلى طعام صنعه إليهم فقام على رؤوسهم عتبة الغلام يخدمهم و هو صائم و هم يأكلون فجعلت عيناه تهملان فسأله عبد الواحد عن سبب بكائه ؟ فقال : ذكرت مواد أهل الجنة إذا أكلوا و قام الولدان على رؤوسهم إنما خلقت الدنيا مرآة لننظر بها إلى الآخرة لا لننظر إليها و نوقف معها .
( كفى حزنا أن لا أعاين بقعة ... من الأرض إلا ازددت شوقا إليكم ) .
( و إني متى ما طاب لي خفض عيشة ... تذكرت أياما مضت لي لديكم ) .
تدقيق النظر و الفكر في حال النبات يستدل به المؤمن على عظمة خالقه وكمال قدرته و رحمته فتزداد القلوب هيمانا في محبته و إلى ذلك الإشارة بقوله : { و هو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا و من النخل من طلعها قنوان دانية و جنات من أعناب و الزيتون و الرمان مشتبها و غير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر و ينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } زمان الربيع كله واعظ يذكر بعظمة موجده و كمال قدرته و يشوق إلى طيب مجاورته في دار كرامته كما قال ابن سمعون في وصف الربيع : أرضه حرير و أنفاسه عبير و أوقاته كلها وعظ و تذكير .
( يا قومنا فاح الربيع ... و لاح للأحباب يحدو ) .
( الزهر مسك و الريا ... ض أريضة و الماء جعد ) .
( و الظل منثور و في ... جيد الشقائق منه عقد ) .
( هذا النسيم و عنبر ... و ضباب هذا اللؤلؤ ) .
( و الغصن يرقص و الغديـ ... ر مصفق و الورق تشدو ) .
( و الجو بعض منه يا ... قوت و بعض لا زرود ) .
( و الكل يشهد أن صـ ... انعه قدير و هو فرد ) .
و لبعضهم في وصف زمان الربيع : .
( الطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط ) .
( و الطير يقرأ و الغدير صحيفة ... و الريح يكتب و الغمام ينقط ) .
رؤي بعض الشعراء المتقدمين في المنام بعد موته فسئل عن حاله ؟ فقال : .
غفر لي بأبيات قلتها في النرجس : .
( تفكر في نبات الأرض و انظر ... إلى آثار ما صنع المليك ) .
( عيون من لجين ناظرات ... بأحداق هي الذهب السبيك ) .
( على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك ) .
سبحان من سبحت المخلوقات بحمده فملأ الأكوان تحميده و أفصحت الكائنات بالشهادة بوحدانيته فوضح توحيده يسبحه النبات جمعه و فريده و الشجر عتيقه و جديده و يمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار فيطرب السامع تمجيده كلما درس الهزار درس شكره فالبلبل بالحمد معيده و كلما أقام خطيب الحمام النوح على الدوح هيج المستهام نوحه و تغريده : { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده } عجبا للمتقلب بين مشاهدة حكمه و تناول نعمه ثم لا يشكر نعمه و لا يبصر حكمه و أعجب من ذلك أن يعصي المنعم بنعمه هذا عود شجر الكرم يكون يابسا طول الشتاء ثم إذا جاء الربيع دب فيه الماء و اخضر ثم يخرج الحصرم فينتفع الناس به حامضا و يتناولون منه طبغا و اعتصارا ثم ينقلب حلوا فينتفع الناس به حلوا رطبا و يابسا و يستخرجون منه ما ينتفعون بحلاوته طول العام و ما يأتدمون بحمضه و هو نعم الإدام فهذه التنقلات توجب للعاقل الدهش و التعجب من صنع صانعه و قدرة خالقه فينبغي له أن يفرغ عقله للتفكر في هذه النعم و الشكر عليها و أما الجاهل فيأخذ العنب فيجعله خمرا فيغطي به العقل الذي ينبغي أن يستعمل في الفكر و الشكر حتى ينسى خالقه المنعم عليه بهذه النعم كلها فلا يستطيع بعد الشرب أن يذكره أو يشكره بل ينسى من خلقه ورزقه فلا يعرفه في شكره بالكلية و هذه نهاية كفر النعم .
( فواعجبا كيف يعصي الإلـ ... ه أم كيف يجحده الجاحد ) .
( و لله في كل تحريكة ... و تسكينة أبدا شاهد ) .
( و في كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد ) .
و من وجوه الإعتبار في النظر إلى الأرض التي أحياها الله بعد موتها في فصل الربيع بما ساق إليها من قطر السماء أنه يرجى من كرمه أن يحي القلوب الميتة بالذنوب و طول الغفلة بسماع الذكر النازل من السماء و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق } إلى قوله : { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } ففيه إشارة إلى أن من قدر على إحياء الأرض بعد موتها بوابل القطر فهو قادر على إحياء القلوب الميتة القاسية بالذكر عسى لمحة من لمحات عطفه و نفحة من نفحات لطفه و قد صلح من القلوب كل ما فسد .
( عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر ) .
( إذا اشتد عسر فأرج يسرا فإنه ... قضى الله إن العسر يتبعه يسر ) .
عسى من أحيا الأرض الميتة بالقطر أن يحي القلوب الميتة بالذكر عسى نفحة من نفحات رحمته تهب فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا .
( إذا ما تجدد فصل الربيع ... تجدد للقلب فضل الرجاء ) .
( عسى الحال يصلح بعد الذنوب ... كما الأرض تهتز بعد الشتاء ) .
( و من ذا الذي ليس يرجوك ربي ... و ربع عطائك رحب الفناء )