/ صفحه 151/
والنفوس المتناكرة، رجل وهب من الذكاء، ومنح من سعة المدارك، ما يعرف به مكان اللين والشدة من النفوس فيضع كلا منها موضعه ممن وكل إليه أمر جمعهم وقيادتهم، رجل لا يشتبه عليه الحق بالباطل مهما كان الفارق ضئيلا بينهما فيخفى عليه حد كل منهما، رجل حاضر البديهة، ثاقب البصيرة، يستطيع أن يدرك ما وراء المظاهر الخلابة من قوى كامنة فيتقيها، أو يستفيد منها على حسب الاحوال الطارئة، والشؤون المفاجئة، فكان محمد (صلى الله عليه وسلم) مثلاً أعلى في جميع هذه الصفات التي يمتاز بها كبار القادة، وأفذاذ العباقرة، ناهيك أنه استطاع أن يؤدي الرسالة العامة التي عهد إليه بها على أكمل ما يمكن أن يكون من نجاح وبعد اثر.
كان محمد في عهد الجاهلية على غير ما كان عليه الناس، في أدب نفسه، وسمو فطرته، فكان يشغله ما لا يشغل الناس من أمر الدين والدنيا: كان من أمر الدين حائراً لا يثلج له صدر على ما ثلجت عليه صدور الملايين حوله، وكان من أمر الدنيا يرى أن الحياة على ما كان عليه الناس من التنازع والتناهب، ومضارعة الحيوان في سيرته، لا توصل إلى ما خلق له الإنسان من نيل الدرجات العلى علماً وأدباً ونظاماً، وتوفراً على الخير، فكان ينقطع عن بيته وأهله إلى نفسه في غار في الجبل ليالي يقضيها مفكراً متأملاً، لعله يجد مخرجا مما كان يقض مضجعه، ويحرمه مما كان ينعم به سواه. هذه الحاجة الملحة للوصول إلى الحقيقة، والوسيلة التي توسل بها اليها، دلت دلالة قاطعة على أنه كان يائساً من التهدي إليها بواسطة واحد من الذين تقع عينه عليهم، فكأنه عرض على عقله ما كانوا عليه فلم ير أنه يبلغه الغاية مما كانت فطرته العالية ترتاح إليه من المعرفة، وهي نزعة لم يتأثر بها غيره من اهل عصره، وطريق للبحث عن الحقيقة لم يسلكه أحد قبله في البيئة التي كان فيها.
نعم كان رجال ينتبذون نواحي من الأرض يقضون فيها أعمارهم بعيدين عن مثار الفتن، في صوامع لا يبرحونها مدى حياتهم، يمارسون فيها الدين الذي ورثوه عن آبائهم، ولكن محمداً لم يكن من هذا القبيل، فلم يلجأ إلى الغار هربا