/ صفحه 27/
بيت أقلّ مدنية وحضارة ولكن سلم أهله من الحرب وويلاتها، لفضلوا البيت الثاني على البيت الأول والحياة الثانية على الحياة الأولى.
لو كان الإنسان جسما فقط يخضع للعلم لصحت هذه النظرية من جميع وجوهها ولكن الإنسان جسم وروح، وعقل وقلب، ومادة وإرادة، فمن قصر النظر أن تنظم الحياة المادية وحدها من غير أن تنظم الروح، وينظم العقل وحده ولا ينظم القلب، وتجري تجارب المادة على الإنسان كأنه جماد من غير أن ينظر إلى إرادته الحرة.
لذلك نجحت المدنية الأوروبية في باب المادة وما يتعلق بها ولم تنجح في باب القلب وما يتصل به. والمدنية الصحيحة هي التي تعالج الإنسان في جانبيه اللذين فطر عليهما وهما جسمه وروحه.
إن العلم في كل أشكاله حتى علم النفس يعالج المادة، والذي يعالج القلب هو الدين، ولا تنتظم سعادة العالم إلا بهما. فإذا غلا العلم فاعتقد أنه يسيطر على كل شئ في الإنسان فقد أخطأ. وإذا غلا الدين وحارب العلم في دائرته فقد أخطأ.
إن كان العلم يحقق رغبة الإنسان من حيث مادته، فالدين يحقق أمله وطموحه من حيث نفسه وقلبه.
لقد أراد الماديون أن يؤسسوا نظاماً للأخلاق مبنياً على العقل البحت فلم ينجحوا. إن الأخلاق إذا كان يحميها القانون فقط أو الحكومة أو الضمير أو الرأي العام لم تكن أخلاق محصنة، فكل هذه الوسائل لا تمنع الإجرام. فكم من الجرائم يستطيع الإنسان ارتكابها ولا يصل إليها القانون ولا الحكومة ولا الرأي العام، وما سمّي بالضمير ليس إلا مرآة منعكسة للعرف والتقاليد.
فالضمير في الهند كان يسمح للزوجة أن تدفن حيّة وراء زوجها، والضمير في أمريكا يسمح للأمريكي أن يعامل الزنجي معاملة الإنسان للغنم. والدين هو الذي يسد هذه الثلمة فيربط قلب الإنسان بربه، وضميره بإلهه، وإلهه مّطلع على خفاياه يحاسبة حتى على نياته، ويراقبه حتى في خلجات نفسه.