/ صفحه 42/
فإذا وصل المحرم إلى مكة وهو على هذه الحال مظهره خال من الزينة والترف وبين جنبيه نفس شاعرة بالخضوع لله. تواقة إلى الرجوع إلى الله ودخل المسجد الحرام ورأي الكعبة التي جعلها الله قياماً للناس، شعر بأنه في بيت الله وفي ضيافة الله وأن عليه أن يتطهر من آثامه تكريماً لمن هو في ضيافته، إذ كيف يكرمه الله في بيته وهو مدنس بعصيانه ومصر على مخالفته ؟ هذا الشعور يملأ قلب الحاج وهو أمام الكعبة فيندفع في البكاء والدعاء والتضرع والابتهال ويطوف حول الكعبة طواف تحية القدوم وقلبه متفطر، وعيناه باكيتان، ولسانه ضارع، ويداه مرفوعتان، وكل جارحة فيه متجهة إلى الله تطلب منه الرحمة والمغفرة وتسأله الرضا والعفو والمثوبة، وينتهي من أشواط الطواف السبعة وقد شعر بأنه خلع أكثر أوزاره، وقرب من رحمة ربه. فإذا خرج من المسجد الحرام إلى المسعى وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، مهللا مكبراً، داعياً مستغفراً، تالياً قول الحق سبحانه (إن الصفا والمروة من شعائر الله) شعر أنه كرر غسل نفسه من الذنوب وتطهير قلبه من السوء، فإذا وقف بعرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة وقضى هذا اليوم مهللا مكبراً داعياً مستغفراً ذاكراً موقف الرسول فيه عام حجة الوداع شعر أنه أتم تطهير نفسه، وأنه انتصر على وساوس صدره، وهواجس شيطانه واستحق مغفرة ربه فرمز إلى هذا القهر لنفسه والانتصار على شيطانه برجم تماثيل الشياطين وأصنام الوساوس والهواجس.
من هذا الايجاز لمناسك الحج يتبين أنها مواقف متعددة في أماكن مختلفة لتذكير العبد بربه وتخليصه من سلطان نفسه الأمارة بالسوء، وأنها غسل مكرر بمنزلة غسل الثوب النجس بالماء عدة مرات لتتم طهارته، وعن هذا عبر رسول الله بأن الحاج يعود كيوم ولدته أمه وبأنه يعود مغفوراً له.
غير أني لاحظت أن كثيراً من الحجاج لم يلتفتوا إلى المعاني الروحية لمناسك الحج، ولم ينتفعوا بما فيها من دراسة تهذيبية، وكان جهدهم الأكبر في تحقيق شكلياتها لا في تحقيق غاياتها، ففي الاحرام شاهدت أن أكثر المحرمين مشغولون