/ صفحه 291/
ليس إلا صدأ مترا كما فوق معدن أخلاقه الحقيقية، والأوربيون لذلك لا يرون ولا ينقدون إلا صدأً كثيفا سوف يذهب جفاء أو هباء، وسوف ينجلى ما تحته بفضل الثقافة والتعليم. ولا أظن أن ثمة أملا في ظهور تلك الأخلاق الحقيقية لهذا الشرق إلا عن طريق الثقافة والتعليم. والمسئولية هنا مركزة تركيزا كليا في أيد المهيمنين على مستقبل الثقافة والتعليم والشئون التربوية في أوسع معانيها. وإذا شبهتُ ما يرين على أخلاق هذا الشرق كأنه صدأ فوق معدن كريم سوف ينجلي، فإنى أعتقد بوجوب دراسة المشبه به وطبيعته وطرق إزالته، أى دراسة الطرق التي يستعملها المعدنيون لإزالة الصدأ عن المعادن، وإستخدام مايشبه هذه الطرق في علاج ما يغشى أخلاق هذا الشرق من نقائص طارئة. وإخال أن هذه الطرق تتلخص في السرعة المشربة بالأناة، والصرامة الممتزجة باللين، والحماسة المختلطة بالصبر، والدقة المستندة إلى التسامح.
وإنى كذلك من المتفائلين المؤمنين بمستقبل الثقافة والتعليم والتربية في هذا الشرق الأوسط، ولست أرى كفيلا بذلك المستقبل إلا دراسة التاريخ. على أنى لا أعنى أن يصبح التاريخ سيد الدراسات في المعاهد والمدارس والمنشآت العامة، وأن يهمل غير التاريخ من العلوم والفنون كالطلب والهندسة والكهرباء والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا، والأدب والجغرافيا والموسيقا والنحت والتصوير، كما أنى لا أرمى إلى التقليل من أهمية أى علم أو فن من هذه العلوم والفنون، بل إنى أهدف إلى بيان أهمية التاريخ بالقياس إلى هذه العلوم والفنون. ذلك أن التاريخ وإن كان يساوى هذه العلوم والفنون في المنفعة، فإنه يفوقها من ناحية القيمة التثقيفية والتربوية، لأن الطب يخرّج الأطباء، والهندسة تعدّ المهندسين، والكيمياء تمدنا بالكمياويين، ولكنها وغير ها من العلوم المادية لا تشتمل اشتمال التاريخ على قيم تثقيفية وتروبوية، وكلاهما لازم لتكميل المواطن المفيد، بقطع النظر عما يقوم به ذلك المواطن من عمل مهنى نافع لا مشاحة في منفعته. وأقول ذلك أيضاً في الفنون، فالموسيقا تهذب الإحساس وترهفه عند الموسيقار وسامعيه، والتصوير يصقل الشعور وينيره عند المصور والمعجبين به، والنحت يربى ملكة الدقة والرمزية والابتكار عند النحات والمختلفين إلى نماذجه، ولكن التاريخ يفوق على هذه وتلك بما ينطوى عليه من قيم تثقيفية وتربوية فريدة.