/ صفحة 185 /
سنة 1945، فخمس سنوات فقط، كانت كفيلة بإضعاف الثقة والقضاء على كثير من التمنيات والآمال.
* * *
وفي الواقع إن العالم تجتاحه موجة مادية جامحة، وتكاد تطغي فيه فكرة الكم على فكرة الكيف، وكأنما يراد بالحياة كلها أن تصبح ضرباً من الآلية التي لا تدع مجالا يذكر للتدبر والاعتبار. والطابع الحضاري الذي نجُّد في محاكاته، ونتسابق عليه؛ معنيٌّ كل العناية بمظاهر الحس واللمس، إن في المأكل والمشرب، أو الملبس والمسكن؛ فالأطعمة في تهيئتها وعرضها تغذي شهوات لا حد لها، والأشربة في ألوانها وأصنافها باب فسيح من أبواب الترفيه، و)المودات(الموسمية لملابس الرجال والنساء تنحط فيها إلى مدى بعيد متعة العين والجسم، والعمارات المكتطة بالسكان لا تتيح كثيراً من فرص الهدوء والسكينة.
والمرء في أطوار حياته، وبيئاته المختلفة منغمس ـ قصد أولم يقصد ـ في هذه المادية والجسمية، فالطفل في أسرته لا ينعم بذلك الجو الروحي الذي كان ينعم به الأطفال قديماً، وأمره في الغالب موكول إلى مربيات قل أن يكون للاعتبارات الروحية وزن كبير في نظرهن، وإن شغل به أبواه أحيانا، فما ذاك إلا لتنميق زيه أو التفكه معه، وهو في مدرسته قطعة من جهاز كبير يراد به أن يتحرك حركة إجماعية متناسقة، دون أن يكون لكل جزء من أجزاء هذا الجهاز حساب خاص.
والشاب في معهده أو كليته حبله على غاربه، لا يحتمل أية رقابة، ولا يستطيب أي إشراف، وإن حظي بشيء من ذلك فإنما ينصب على تربية جسمه وعقله، فله في الرياضات البدنية نشاط ملحوظ، وهو مضطر لأن يحصّل من الحقائق والمعلومات ما يكفل له النجاح، ويمكنه من نيل الألقاب العلمية، أما روحه في إحساساتها ووجدانها، وعقده النفسية والكشف عنها، وثوراته الباطنية وما يترتب عليها، فكل تلك أمور متروكة بدون تربية أو تعهد.