/ صفحة 36/
من ذا الذي يستأ هل اذن أن يتصدى لحمل هذه الأمانات، ويدعى لنفسه القدرة على التزام النهوض بها، وعلى الوفاء بالتزاماته، من بين سائر العوالم التي يقع عليها حسنا؟
لا شك أنه هو الكائن المجهّز بجهاز يستطيع أن يصرفه باختياره ذات اليمين وذات الشمال، في استقامة واعتدال، أو في انحراف واعوجاج، لا شك أنه هو الكائن المزود بمؤهلات الخطاب، وقوى الفهم والبيان، والحرية والامكان، ذلكم هو الإنسان، بما هو ذو عقل وارادة واقتدار. فهو اذن الذي وشحته فطرته لهذه الأعباء فأصبح ذا مسئولية، وموضع أمانة، وصاحب نفوذ وسلطان، ومصدر انشاء وابتكار، وهذا هو معنى ختام آية الأمانة: ((و حملها الإنسان)) .
الشعور بالمسئولية اذن شعور نبيل; لأنه شعور بالاستقلال والتحرر من أسر الطبيعة، شعور بالقدرة على تغيير معالم الأشياء، وعلى معالجتها بالعزيمة والارادة الخلاقة، شعور بالكرامة التي كرم الله بها بنى آدم، وبالفضل الذي فضلهم به كثير من خلقه.
والمسئولية اذن صفة يستمدها كل امرىء من فطرته الإنسانية، قبل أن يتلقاها من واضعى الشرائع والقوانين، وهى كما قلباً صفة لازمة للانسان بما هو ذو عقل وارادة واقتدار; وليست صفة له بما هو مقهور مجبور، مسيّر مسخر، ومن عجيب أمر الإنسان أنه يجمع هذين الوصفين المتناقضين في علاقته بالكون: انه سيد مسود، وحاكم محكوم، ولكن في ميدانين مختلفين، فهو في عالم المادة والحياة، وعالم النفس، لا يخرج عن أن يكون جزاءاً من هذه العمارة الكونية، خاضعاً لنواميسها وقوانينها ((يا معشر الجن والانس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان)) .
ألا تراه حين يثب في الهواء لا يلبث أن يعود إلى الأرض قسراً عنه؟ لأنه من حيث هو جسم مادى يخضع لقوانين المادة، التي من أو اثلها قانون الثقل والجاذبية، أو لا تراه في تنفسه وهضمه ونبضات قلبه، وفي نموه واكتهاله، وشيخوخته وهرمه، كائناً حياً ككل كائن حى تسرى عليه قوانين الحياة؟ ثم ألاتراه