/ صفحة 35/
جاوز بطرفك عالم الإنسان، ثم ارجع البصر كرتين مصعداً منحدرا في ما شئت من العوالم التي تشاهدها في السماء والأرض، وانظر هل ترى من بينها مسئولا واحداً عن حاله، فضلا عن حال غيره؟ هل تسأل الجبال الراسيات عن استقرارها وثباتها، أو الشمس عن ضوئها وحرارتها، أو البحر لماذا هو ملح أجاج، أو النهر لماذا هو عذب فرات، أو الطير لماذا لا تعيش في الماء، أو الأسماك لماذا لا تسبح في الهواء؟
لأن هذه العوالم كلها ليست مسئولة عن شيء لأنها لا تملك شيئا، فلقد حددت لها الفطرة طريقاً معيناً هي مسيرة فيه، ميسرة له، لا خِيَرة لها في السير على خطها المرسوم، ولا حيطة لها في الخروج عن مدارها المعلوم. ألا يكون من العبث والحالة هذه أن يطلب إليها سلوك سبيل هي سالكته حتما بغير إرادتها؟ ثم ألا يكون من أسفه السفه أن يطلب إليها التحول عما هي ملجأة إليه في كلا الحالين؟
إن كل إلزام يفترض في من يوجه إليه الخطاب أن يكون ذا شخصية مستقلة، تعمل لحسابها الخاص، لا لحساب الطبيعة القاهرة. وذلك يقتضى أول كل شيء أن ينطوى المسئول على امكانيات متعددة، وأن يكون أمامه مسالك متنوعة; ويقتضى بعد ذلك أن يكون له من قوى التفكير والتروى، والمقايسة والموازنة، ما يمكنه من الترجيح بين الطرائق الممكنة المعروضة عليه، ثم أن تكون له الحرية بعد ذلك في التصميم على قبول ما يشاء، ورفض ما يشاء من هذه الحلول، وأخيراً أن تكون له القدرة على تنفي ذ ما قدره في عزمه، وأجمع عليه أمره. فكل شيء كان نصيبه الحرمان ممن هذه المؤهلات كلا أو بعضاً، وكل شيء ثبتت براءته من الحول والطول، كان حريّا أن يأبى حمل أمانه التكاليف، وأن ينفض يده من كل مسئولية، وهذا كله لو تأملت ينطوى في معنى الآية الحيمة: ((انا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملها وأشفقن منها)) .