هكذا كانت الوحدة...في سيرة الرسول الأعظم (ص)!

هكذا كانت الوحدة...في سيرة الرسول الأعظم (ص)!

الوحدة هی جوهرة ثمینة و قضیة هامّة و استراتیجیة و لها اهداف قیّمة حیث سعی الرسول الأعظم - ص - و منذ ثلاث و عشرین عاماً فی سبیل تکوینها و تعمیقها بین الناس فی کلّ مکان و هذه هی وحدة فکریّة عقائدیة و ثقافیة ؛ و ذلک خلال بعثته الإلهیة فی مکة المکرّمة و المدینة المنوّرة و قد نظّم - ص- مختلف شؤون الحیاة الاجتماعیة و الاقتصادیة و السیاسیة علی هذا المنهج القیّم.

و سنسلّط الضوء هنا حول کیفیة نشوء الوحدة الإسلامیة فی عصر النبوّه و الخطوات الّتی قام بها الرسول الأعظم - ص- فی حرکته الرسالیّة لتشدید صرح هذه الوحدة.

قال الله - عز و جل- فی القرآن الکریم:

{کان الناس أمة واحدة فبعث الله النبیین مبشّرین و منذرین و أنزل معهم الکتاب بالحق لیحکم بین الناس فیما اختلفوا فیه من الحقّ بإذنه و الله یهدی من یشاء إلی صراط مستقیم}

الوحدة الاسلامیة و مسألة التوحید

الحجر الاساس للدعوة المحمدیة هو الوحدة بین الأمة و بین الشعوب العالمیة حیث انّ النبی - صلی الله علیه و آله و سلم - منبعث من الله الواحد الذی یتمحور حوله کل شئ و إنّه - ص - دعا الناس إلی الطاعة و الانقیاد أمام ربّ العالمین کما نزّل علیه الایة الکریمة التالیة فی مکة المکرمة:

{قل یا ایها الناس إنّی رسول الله إلیکم جمیعا الذی له ملک السماوات و الارض لا اله إلّا هو یحیی و یمیت فآمنوا بالله و رسوله النبی الأمی الذی یؤمن بالله و بکلماته و اتبعوه لعلکم تهتدون}

المخاطب فی الآیة جمیع الناس علی وجه الارض من الأحمرو الأسود و الأبیض و ... و التفاتهم إلی خالقهم الوحید الذی بیده حیاة الأشیاء و مماتها ، ثمّ ان الله - عزوجل - یطلب منهم الالتزام و الاعتقاد بما صدّق الرسول و اتباع کلمته . فتدعو الناس من الجنسیات المختلفه إلی ترک العصبیّة و العنصریة الفاسدة الّتی انهمکت و انغمرت إلی تخیلات واهیة فأهلکت أسرة العرب حینما ظلّت علیهم الحروب الداخلیة بین القبائل و بین الآحاد منهم سنوات عدیده ظل العار.

القرآن الکریم

نزول الآیات الکریمة فی بدایة الرسالة فی أم القری و استمرارها فی المدینة خلال ۲۳ سنة، تحکی عن تنظیم و تشکیل مجتمع واحد من الناس باسم «أمّة واحدة» علی الأرض من الأجیال المتقدمة و المتأخرة و أراد أن یعطی زمام هذه الأمّة الی رب العالمین و خالق الکونین الّذی بیده ملکوت کلّ شیء و له سلطنة کاملة تشمل حیاة الموجودات و مماتها و حرکاتها و سکونها من البدایة إلی النهایة، و حیث تقاد هذه الأمّة بالقوانین الصادرة من المبدأ الاعلی تنتهی حرکتهم الی الکمال المطلق و هو الوصول الی الله - عز وجل- و السعادة الأبدیة. هذا من جهة و من جهة أخری أن القرآن الکریم یکرم و یؤیّد ما صدر من الأنبیاء و الرسل الالهیة و یذکرها بالبر و الإکرام و اراد أن یجتمع تحت لواء واحد و کلمة واحدة و هی التوحید و العبودیة أمام ربّ العالمین و خالقهم و رازقهم و مبدئهم و معیدهم ....

فعلی هذا یقول الله - عز و جل- فی کتابه العزیز:

{إِنَّ هذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّکُمْ فَاعْبُدُونِ}

و ایضاً یقول - عزّ من قائل- فی آیة أخری:

{یا أَیُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّکُمُ الَّذِی خَلَقَکُمْ وَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ (*) الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الأْرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

فعلی هذا للقرآن دور خاص و ممیّز لتنظیم «الوحدة بین الامم» و تطهیرهم عن العنصریة الفاسدة الّتی تنتهی الی فوارق موهنة و استثمار الطوائف و الاختلاف فی اللون و الجنس و الحدود الجغرافیة و بالتالي اختلاف فی العیش من بلد الی بلد آخر کما نری هذه الهتافات من الرأسمالیة و الاشتراکیة فی الغرب و الشرق...

قال الله - عز و جل- :

{یا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ}

هذه الآية نموذج من دعوة القرآن لتوحید الکلمة والاتّحاد.

سقوط التمییز العنصري

أجاب دعوة الرسول - ص- رجال و نساء من أجناس مختلفة و بلاد بعیدة کما رواه المجاهد قال : أوّل من أظهر الاسلام سبعة : رسول الله (ص)، ابوبکر ، خبّاب ، صهیب ، بلال ، عمار ، سمیّه ( أمّ عمّار )

و کذا رواه احمد بن حنبل سند اخر عن ابن عباس و اضاف فیه : اوّل من أسلم بعد خدیجه علی بن ابی طالب (ع).

فهولاء الرجال کل واحد منهم من بقعه خاصه و بعیده ، جذبه النبی (ص) فنری انّ بلال حبشی و صهیب رومی و خبّاب نبطیٌ و سلمان ایرانی و عمار عربی و ..فترکوا عشیرتهم و قبائلهم و دخلوا فی حصین الاسلام فانهم تمسکوا به فتشرفوا بواسطه الاسلام علی العالمین فأذهب عنهم التمیز العنصری حیث کان هتاف الجاهلیّه قال رسول الله (ص) : کل نبی بعث فی قومه خاصه و بعثت أنا إلی کلّ أحمر و أسود و أنّ بلالاً أوّل ثمار الحبشه و أنّ صهیباً اوّل ثمار الروم.

و قال علی (ع) : السباق خمسة فأنا سابق العرب و سلمان سابق فارس و صهیب سابق الروم و بلال سابق حبش و خبّاب سابق النبط.

و هذه النظرة توجب الاتفاق و الاتحاد فی کلّ جیل و عصر و مکان، وکلّ من المسلمین و المؤمنین یحسّ الأخوة الالهیة فیما بینهم و یحبّون البعض ، يتجسد هذا الحب الالهی فی تعاملهم و مساهمتهم فی القضایا الاجتماعیة و السیاسیة و الاقتصادیة.

قال رسول الله (ص):مثل المؤمنین فی توادّهم و تراحمهم و تعاطفهم، مثل الجسد، اذا اشتکی منه عضو، تداعی له سائر الجسد بالسّهر و الحمی.

کأنّ النبی - ص- دعا المجتمع الاسلامی الی وحدة بحیث یسیر المجتمع فی جسد واحد و نهی عن التفرّق فی أیّة صورة و أیّة هیئة لأنّه یشلّ حرکة المجتمع المسلم و یوهن المسلمون و الأحرار فی کل بلد و یضعفهم .

الدعوة إلی الوحدة فی بدایة الرسالة

إنّ النبی (ص) بدأ بدعوته الالهیة قبل هجرته و عرض نفسه علی القبائل حینما کان المعارضون اکثر من الموافقین و الفرقة قاضیة علیهم فکل قبیلة تحاول الغلبة علی الاخری فالأوس و الخزرج یتقاتلون سنوات عدیده فشدت الحرب بینهم بحیث تفرّق جمعهم و تشتت شملهم .

حینذاک جاء ممثّل کل واحد منهم إلی مکه لکی یعقدوا حلفاً و میثاقاً لیعین القریش الاوس و الخزرج فعلم النبی -ص- ذلک فرأی أن یستمعوا إلیه بدل أن یعقدوا میثاقاً یزید العداوة و البغضاء بینهم و یورثها و لا یطفئها فدعا کل قبیلة إلی الاسلام الموحد لصفوفها و تلا علیهم القرآن الذی کان رحمة للعالمین ، فلقاؤه مع هذه القبائل کانت فی مرحلتین.

۱- بیعة العقبة فی عام الثانی عشر من البعثة - سنتان قبل الهجرة- بعد مجیئهم عند النبی - ص- دعاهم الی معرفة الله و عبادته و طاعته و الالتفات إلی المحاسن و الابتعاد عن سوء الأخلاق قال بعضهم لبعض یا قوم تعملون و الله أنه هو النبی الذی توعدکم به الیهود فأجابوه فیما دعا إلیه و صدقوه و قبلوا منه ما عرض علیهم من الاسلام و قیمه العالیه فجاء فی میثاق النبی -ص- ما نقله عبادة بن صامت و هو أحد أعضاء الوفد قال :

کنت فیمن حضر بیعة العقبة و قد بایعنا الرسول علی أن لا نشرک بالله شیئاً و لا نسرق و لا نزنی و لا نقتل أولادنا و لا نأتی ببهتان نفتریه بین أیدینا و أرجلنا و لا نعصیه فی معروف.

و کان الوفد مرکب من الأوس و الخزرج ترأسهم سبعة من الخزرج و خمسة من الأوس حسب عددهم و کان الوفد المکوّن اثنی عشر نفراً ثم بعث الرسول معهم مصعب بن عمیر إلی یثرب لیعلم أهلها الاسلام و یقرئهم القرآن الکریم و لم یمض عام حتی أصبحت کل أسرة من عرب یثرب تضّم فریقا ممّن دخل الإسلام علی ید مصعب.

ترک النبی - ص- فی هذا المیثاق الدخول فی القتال او مساعدة جهة من الجهات المفرّقة بین الأمّة و العرب ، فسمیّت هذه البیعة ببیعة النساء أو بیعة العقبة.. فهذه ما وقعت فی العام الثانی عشر من البعثة الموافق ۶۲۳ میلادی.

۲- بیعة العقبة الثانیة سنة الثالث عشر من البعثة.

قدم وفد من یثرب إلی مکّه عدده ثلاثة و سبعون رجلاً و امرأتان ،هم أقاموا فی العقبه الثانیه حتی قابلهم الرسول ( ص) و معه عمه العباس بن عبد المطلب -کان علی دین قومه - بدأ بالحدیث فقال : یا معشر الخزرج أنّ محمّداً منّا حیث قد علمتم و قد منعناه من قومنا ممن هو علی مثل رأینا فیه فهو فی عزّ من قومه و منعة فی بلده و إنّه قد أبی إلاّ الانحیاز إلیکم و اللحوق بکم فإن کنتم ترون إنّکم وافون له بما دعوتموه إلیه و مانعوه ممن خالقوه فأنتم و ما تحملتم من ذلک ، و ان کنتم ترون أنکم مسلمّوه و خاذلوه بعد الخروج به إلیکم فمن الآن دعوه فإنه فی عزّ و منعة من قومه و بلده.

قال الخزرج : قد سمعنا ما قلت فتکلّم یا رسول الله - ص- فخذ لنفسک و لربّک ما أحببت. قال الرسول - صلی الله علیه و آله و سلم - بعد تلاوة آیات من القرآن و دعوتهم إلی الله و ترغیبهم إلی الاسلام:

"أبایعکم علی أن تمنعونی ممّا تمنعون منه نساءکم و أبناءکم".

قال البراء بن معرور : نعم و الذی بعثک بالحق نبیّا لنمنعک مما نمنع به أزرنا - فبایعنا رسول الله - ص- فنحن و الله أبناء الحروب و أهل الحلقه ورثناها کباراً عن کبار.- ولکن اعترض ابو الهیثم بن الیتهان البراء قائلاً : یا رسول الله انّ بیننا و بین الرجال حبالاً و أنا قاطعوها (یعنی الیهود) فهل عسیت إن نحن فعلنا ذلک ثم أظهرک الله أن ترجع إلی قومک و تدعنا.

فابتسم رسول الله - ص- و قال : بل الدم الدم و الهدم الهدم (یوضّح ابن هشام کلمة الرسول و یقول معناه : الحرمة أی حرمتی حرمتکم و دمی دمکم.)

ثم اتفق الرسول-ص- علی أن یختاروا منهم اثنی عشر نقیباً یمثلون قومهم.

فاختاروا تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس ، و هم اجتمعوا لبیعة الرسول -ص- حینذاک اکّد العباس مرّة أخری علی المیثاق و البیعة قائلاً : یا معشر الخزرج هل تدرون علامَ تبایعون هذا الرجل؟ قالوا نعم قال : إنکم تبایعونه علی حرب الأحمر و الأسود من الناس فإن کنتم ترون إنکم اذا انهکت مصیبة و أشرافکم قتلا اسلمتموه ،فمن الآن فهو و الله إن فعلتم خزی الأموال و قتل الاشراف فخذوه فهو خیر الدنیا و الآخرة . قالوا فإنّا نأخذه علی مصیبة الاموال و قتل الاشراف فمالنا بذلک یا رسول الله إن نحن وفینا بذلک؟

قال (ص) : الجنّة . قالوا ابسط یدک. فبسط یده فبایعوه ثم عادوا نقباء الخزرج و الأوس إلی یثرب و أظهروا ، الاسلام فاسلم بها عدد کثیر من سادات بنی سلمة و أشرافهم.

فعرفت هذه البیعة -بیعة العقبة الثانیة - ببیعه الحرب لأنَّ الرسول -ص- بایعهم علی أن یحاربوا معه الاسود و الأحمر و... وعدهم الجنّة. فنری أنّ البیعة بینهما هی توحید الصفوف تجاه العدو و قبول المواثیق المتفقة بینهم لکی یعملوا کل طرف من الجانبین علی مواثیقهم فی المستقبل فی مدینه یثرب.

بالحقیقة تکوّنت الوحدة فی عهد الرسول -ص- فی مرحلتین .

المرحلة الاولی : الوحدة فی القضایا الفکریّه و العقائدیّة التی تسوق الإنسان إلی ربّه و خالقه و هی سبب تألیف القلوب و تقریب النفوس و تعاضد الناس بعضهم بعضاً بحیث یحوّلهم إلی جسد واحد و ید واحدة إذا اشتکی عضو منها تداعی سائر الجسد فإنّ النبی (ص) أوجد هذه الوحدة الفکریة و الإیدئولوژیة فی مکه المکرمة منذ ثلاثة عشرعام. و من ثمَّ نری انّ جمیع السور المکیه تدور حول الامور الاعتقادیّه یظهر فیها فساد عقائد المشرکین و ضلال تصوراتهم و قبح عاداتهم و سوء النظام الاجتماعی و الاخلاقی و کانت فی نفس الوقت تحثّ الناس علی عقیدة التوحید التّی هی حقّ الله -عزّ و جلّ - علی عباده لما فیها من صحة العبادة و التمسک بتعالیم الاسلام التی تدعو إلی مکارم الاخلاق و سّمو المبادئ التّی تمهّد إلی سعادة الدارین.

المرحلة الثانیة : الوحدة و التضامن فی العمل و الفروع التی تترتب علی الفکر الاسلامی من الجهاد و الدفاع تجاه العدو کما صرح النبی -ص- بها فی بیعة العقبة الثانیة و الالتزام بأمور آخر کالصلاة و الصوم و الزکاة و الحج و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر و غیرها من الأمور العبادیّه و الأخلاقیه و السیاسیّه ، التّی یحتاج المجتمع الاسلامی إلیها و یکون قوامه و سلامته بالعمل بها.

أشار النبی - ص- إلی هذه المرحله فی بیعته مع نقباء الخزرج و الأوس قبل هجرته إلی المدینه و المسلمون تنفذوا أمر الرسول -ص- فی المدینة بعد رجوعهم إلیها، فتکونت الوحدة الاسلامیّه فی المرحلة الثانیه حینما أراد الرسول - ص- أن یهاجر إلی المدینة مع أصحابه.