الحكومة الإسلامية من منظور الشاعر الكميت بن زيد

الحكومة الإسلامية من منظور الشاعر الكميت بن زيد

 

 

الحكومة الإسلامية من منظور الشاعر الكميت بن زيد

 

الدكتور محمد علي آذرشب

رئيس تحرير مجلة رسالة التقريب ـ إيران

 

بسم الله الرحمن الرحيم

هاشميات الكميت بن زيد تنحو بأجمعها منحى سياسيا، ترفض النظام الأموي الحاكم، وتبين سبب رفضها، وتدعو إلى حكومة عادلة وتذكر معالم هذه الحكومة، وتعتبر بأجمعها وثائق سياسية هامة تعبر عن نوع التطلع السياسي للأُمة في القرن الأول الهجري. ومعظم الذين تناولوا دراسة هذا القرن الهام في مظاهره السياسية والاجتماعية لم يهتموا بمثل هذه الوثائق، بسبب غفلتهم عن ارتباط الشعر بالحقائق ظانين ان الشعراء يسبحون في عالم الخيال ولا يمكن لشعرهم أن يكشف عن حقيقة. وفي هذا المقال أبين أهمية الشعر في الكشف عن الحقيقة، كما أوضح مكانة الكميت السياسية والعقائدية، والصورة التي يحملها تجاه السلطة الحاكمة في زمانه، وتجاه الحكومة الإسلامية العادلة التي يجاهد من أجلها.

الأدب والحقيقة:

العمل الأدبي في أجمع عبارة: تعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية(1).

ـ(150)ـ

والفرق بين العمل العلمي والعمل الأدبي، أن العمل العلمي لا يعبّر عن انفعال شعوري بموضوع من الموضوعات، ولا يتحدث بصورة مؤثرة موحية في السامع، بل أنه يدرس المسألة عن طريق العقل والتجربة العملية، ويتحدث عنها بأسلوب علمي دقيق بعيد عن العاطفة والخيال، ويستهدف معالجة مسألة فكرية وطبيعية أو اجتماعية أو سياسية.

أما العمل الأدبي فهو تعبير عن انفعال شعوري يكتمل في نفس الأديب وهو يمرّ بتجربة من تجارب الكون والحياة وقضايا الإنسان، بشكل مثير للانفعال في نفوس الآخرين.

وقد يخيل لبعض ان هذا الفرق يجعل العمل الأدبي يعيش في عالم بعيد عن الحقيقة والواقع، وليس الأمر كذلك، بل أنه يعني أن تصبح الحقائق شعورية، تتجاوز المنطقة الباردة إلي المنطقة الشعورية الحارة.. ان للأدب حقائقه الأصيلة العميقة، وأنه لا يتجاوز منطقة الحقائق حتى ولو شطّ به الخيال. حتى الأدب الأسطوري يعبر عن حقائق المثل التي تعيش في نفس الإنسان. والخيال الشعوري عند الشعراء قد يبدو في بعض الأحيان لأول وهلة مخالف للحائق العلمية، ولكنه على بعد معيّن يلتقي مع حقيقة أخرى أكبر وأعمق من هذه الحقيقة الظاهرية القريبة.

يضرب المرحوم سيد قطب لذلك أمثلة فيقول:(2).

,ابن الرومي مثلا حين يقول عن الأرض في الربيع:

تبرجت بعد حياء وخفر     تبرج الأنثى تصدت للذكر

يبدو هذا القول خيالا شاعرياً يخالف الحقيقة العلمية. فالأرض مادة جامدة والأنثى حية متحركة.

ولكن الحقيقة الأعمق، أن الأرض في الربيع بكل ما فيها من الحياة والأحياء تستعد للإخصاب في جميع عوالمها: عوالم النبات والحيوان والإنسان. وتتهيأ بكل ما

ـ(151)ـ

فيها من رصيد لهذا الإخصاب، وتتبرج روحها لتلقيه، وتتفتح من الأعماق.

والبحتري حين يقول:

آتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا     من الحسن حتى كاد ان يتكلما

قد يخيل للكثيرين أنه إنّما أراد تشبيه الربيع بإنسان يضحك، على سبيل التشبيه لا على سبيل «الواقع». وهكذا يقول البلاغيون، لأن الواقع الظاهر يمنع أن يختال الربيع ضاحكا.

ولكن الحقيقة الأكبر من الواقع الظاهري، أن الربيع يختال ضاحكا في حقيقته.

فما الضحك؟ أليس هو إطلاق طاقة فائضة بطريقة حسية؟ وماذا يصنع الربيع إلا أن يطلق طاقة حيوية فائضة في الأرض وأبنائها الأحياء !

أنها حقيقة. ولكنها هنالك في الأعماق !».

وإذا ضرب «سيد» لنا أمثلة من ابن الرومي والبحتري، فنحن نقدم مثالاً للعمل الأدبي من «ظلاله»، فهو سفر أدبي رائع في كلام الله سبحانه. لقد عاش مؤلفه مع القرآن من خلال تجربة شعورية، ابتعد فيها عن إفرازات المنطقة الباردة من التفكير، وتجاوزها إلى المنطقة الحارة من الشعور، ومن هنا جاء تفسيره طافحا بالحركة والحياة والتأثير. لا يقول درست القرآن، بل يقول عشت القرآن:

«لقد عشت اسمع الله ـ سبحانه يتحدث إلي بهذا القرآن...

لقد عشت ـ في ظلال القرآن ـ انظر علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض.

عشت أتملّى ـ في ظلال القرآن ـ ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود...

عشت ـ في ظلال القرآن ـ أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله..

وعشت ـ في ظلال القرآن ـ أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود...»

ـ(152)ـ

وعشت.. وعشت..(3) وكلها تحكي عن تجربة شعورية مر بها الرجل مع القرآن الكريم، عاناها وهو يكتب «التصوير الفني في القرآن» وكذلك وهو يكتب «في ظلال القرآن»(4).

فهل هذه التجربة الشعورية مع القرآن شطت عن حقائق القرآن الكريم؟ أبدا، أنها عبرت عن أعمق الحقائق التي تجلت في نفس الكاتب، وتستثير أعمق الحقائق في نفس القارئ.

الكميت الرسالي

يختلف نوع التجارب الشعورية التي يمر بها الأديب باختلاف سلوكه في الحياة، فإذا كان الأديب يعيش آماله وآلامه ومشاعره الفردية، يكون أدبه منطويا على الذات ومعبرا عن نزعة رومانسية في الأدب، وأن كان يعش هموما اجتماعية ورسالية، تكون المحفزات التي تستثيره من النوع الاجتماعي الرسالي، وتكون التجارب الشعورية التي يمر بها ذات طابع يتجاوز المسائل الذاتية الفردية، ويكون أدبه أقرب إلى الأدب الواقعي.

والكميت كان أدبه واقعيا، وانفعالاته رسالية، وتجاربه الشعورية ترتبط بعواطفه الرسالية.

 نجد هذه النزعة الرسالية بشكل واضح جلي في حبه لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.

وهنا أقف قليلاً عند هذه النقطة التي احسبها ذات قيمة في وحدة الأمة الإسلامية والتقريب بين فصائلها. وقيمتها تتجلى عندما يتضح دور العاطفة في شد قلوب أبناء الأمة.

لقد اهتم المخلصون في تقريب فصائل الأمة بمسائل الأصول والفروع ليجدوا مساحات التقارب الواسعة بين المذاهب الإسلامية، وليبينوا قلة مساحات الاختلاف

ـ(153)ـ

بالنسبة إلى مساحات الافتراق. وهو سبيل جيد وهام يعطى التقريب معنى واقعيا، ويكسبه رصيدا علميا. لكني أحسب أن تأثيره قليل في إزالة الحساسيات وشد القلوب وتوحيد الصفوف. وسبب ذلك يعود إلى أن كل هذه الإعمال العلمية لا تؤثر إلا في العقل والفكر، أي في المنطقة الباردة من وجود الإنسان. أما المنطقة الساخته المحركة المؤثرة فتبغى بمعزل عن بحوث الأصول والفروع، إنها تحتاج إلى حوافز عاطفية.

وهي ليست قليلة في المنهج الإسلامي التربوي، واعتقد ان حب رسول الله صلّى الله عليه وآله يشكل معلما هاما من معالم هذا المنهج، وهو قادر ان يشد القلوب، ويوحد العواطف، ويخلق الانسجام في الحركة والتطلع أكثر من البحوث العلمية التقريبية.

لابد من تسخير كل الفنون والآداب ووسائل التأثير لشد الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله شدا عاطفياً حارا محركا.. ومثل هذا الشد سيكون لـه أعظم الآثار في التربية، وفي توحيد الكلمة ورص الصفوف. وأسبوع الوحدة الإسلامية فرصة سنوية عظيمة لدراسة سبل الربط العاطفي برسول الله، فهي أساس الارتباط بشريعة النبي الخاتم وسيرته المباركة.

أعود إلى عواطف الكميت تجاه رسول الله صلّى الله عليه وآله لقد كان الرجل عاشقا كلفا بالنبي هائما بحبه. وهذا موقف لـه قيمته الكبرى في عصر بني أمية. ففي هذا العصر اقتضت مصالح الحكم والسياسة التقليل من شأن النبي صلّى الله عليه وآله، والأعراض عن ذكره، فما بالك بمدحه، لأن مدح الرسول في هذا العصر، كما يقول الأستاذ عبد الحسيب طه حميده «تزكية للهاشميين، ولفت للذهن إلى حق هؤلاء في الخلافة»(5).

والغريب أن مصالح الحكم والسياسة أباحت لابن الزبير ـ على مكانته الدينية وبيته من الإسلام ـ أن يسقط ذكر النبي صلّى الله عليه وآله من خطبه، حتى إذا ليم على ذلك قال: «والله لا يمنعني من ذكره علانية أني لا أذكره سرا، واصلي عليه، ولكني رأيت هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبت أعناقهم، وابغض الأشياء الي ما يسرهم. وفي

ـ(154)ـ

رواية: ان لـه أهيل سوء»(6) وإذا كان هذا شأن ابن الزبير فما بالك ببني أمية الذين كانوا يرون في ذكر الرسول صلّى الله عليه وآله دفنا لذكرهم. يروي الزبير بن البكار يقول:

«قال المطرف بن المغيرة بن شعبة.

دخلت مع أبي على معاوية. فكان أبي يأتيه فيتحدث معه، ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتما فانتظرته ساعة وظننت انه لأمر حدث فينا فقلت: مالي أراك مغتما منذ الليلة؟ فقال: يا بني ! جئت من عند اكفر الناس واخبثهم. قلت: وما ذاك؟ قال: قلت لـه وقد خلوت به: أنك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيراً فانك قد كبرت، ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وان ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه، فقال: هيهات هيهات ! أي ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا ان هلك حتى هلك ذكره إلا ان يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين، فما عدا ان هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر.

وان ابن أبي كبشة ليصاح كل يوم خمس مرات «اشهد ان محمدا رسول الله» فأي عمل يبقى؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبالك؟ والله إلا دفنا دفنا»(7).

وهذه الظروف السياسية هي التي جعلت الكميت يمدح النبي صلّى الله عليه وآله مدحا مقرونا بالحديث عمن يؤنبه ويعنفه على هذا المدح يقول:

فاعتتب الشق في فؤادي والشعر     إلى من إليه معتتب

إلى السراج المنير أحمد لا     يعدلني رغبة، ولا رهب

وقيل: أفرطت،بل قصدت ولو     عنفني القائلون، أو ثلبوا

إليك يا خير من تضمّنت الأرض     وإن عاب قولي العُيُبُ

لج بتفضيلك اللسان، ولو     أكثر فيك الضجاج واللجب

 

ـ(155)ـ

ويقول:

ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم     فيهم ملامة اللؤام

لا أبالي ولن أبالي فيهم     أبدا رغم ساخطين رغام

وهاشمياته مليئة بعواطفه تجاه النبي، يتحدث عنها بأسلوب رسالي لا بصورة عاطفة سطحية. فكل ما في المجتمع الإسلامي من وحدة والفة ومجد وعظمة إنّما هو بفضل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:

بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة     فنحن بنو الإسلام ندعى وننسب

حياتك كانت مجدنا وسناءنا     وموتك جدع للعانين موعب

وأنت أمين الله في الناس كلهم     ونعتب لو كنا على الحق نعتب

فبوركت مولودا وبوركت ناشئا     وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب

وبورك قبر أنت فيه وبوركت     به وله أهل لذلك يثرب

لقد غيبوا برا وصدقا ونائلا     عشية واراك الصفيح المُنصّبُ

ولا تفوت الشاعر فرصة دون أن يبين فضل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم على العرب، وإنقاذهم من النار، يقول:

أنقذ الله شِلَوناً من شفى ألنا به نعمة من المنعام

لو فدى الحي ميتا لقت نفسي     وبني الفدا لتلك العظام

طيّب الأصل طيب العود في البنية     والفرع يثربيّ تهامي

ابطحي بمكة استثقب الله ضياء العما به والظلام

والى يثرب التحول عنها     لمقام من غير دار مقام

هجرة حولت إلى الأوس والخز     رج أهل الفسيل والآطام

غير دنيا محالفا واسم صدق     باقيا مجده بقاء السلام

إلي جانب حبه لرسول الله نجد نزعة الشاعر الرسالية متجلية في حب آل رسول

ـ(156)ـ

الله. وهو حب يستمد جذوره من حب الله ورسوله وحب الإسلام ومنهجه. ونشأ الشاعر على هذا الحب منذ نعومة أظفاره كما تذكر رواية الأغاني عن لقائه بالفرزدق(8).

وظل يعيش هذا الحب الملتهب في وجدانه، يتغنى به طول حياته، ويكرر بين آونة وأخرى أنه حب قائم على أساس القرآن والسنة، يقول:

وجدنا لكم في آل حاميم آية     تأولها منا تقيّ ومعرب

وفي غيرها آيا، وآيا تتابعت     لكم نصب فيها لذي الشك منصب

أي ان حبه يقوم على أساس القرآن حيث قولـه تعالى في سورة حم الشورى ﴿... قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ وآيات كثيرة أخرى تتابعت، وكلها أعلام ومراجع للشاكين.

ويذكر حادثة الغدير لتكون دليلاً من السنة على ولائه يقول:

ان الرسول – رسول الله – قال لنا     ان الإمام علي غير ما هجرا

في موقف أوقف الله الرسول به     لم يعطه قبله من غيره بشرا

ويقول:

ويوم الدوح دوح غدير خم     أبان لـه الولاية لو أطيعا

ويشفق الكميت على من يعيبه في حب آل البيت، ويؤكد ان الانحراف عنهم انحراف عن القرآن والسنة يقول:

فقل للذي في ظل عمياء جونة     ترى الجور عدلا أين، لا أين تذهب

بأي كتاب أم بأية سنّة     ترى حُبّهم عارا عليّ، وتحسبُ؟

ويظهر من روايات الأغاني ومروج الذهب أنه التقى الأئمة علي بن الحسين أكرموه ودعوا لـه. من ذلك أنه: دخل على أبي جعفر(محمد الباقر) فأنشده فأعطاه ألف دينار وكسوة،

ـ(157)ـ

فقال الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردتها لأتيت من هي في أيديهم، ولكني أحببتكم للآخرة، فأما المال فلا حاجة لي به، وأما الثياب التي أصابت أجسادكم فأني اقبلها لبركتها(9).

وحدث محمد بن سهل(صاحب الكميت) قال: دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أيام التشريق بمنى، فقال: جعلت فداك، إلا أنشدك؟ فقال: يا كميت إنها أيام عظام، فقال: أنها فيكم، فقال: هات ـ وبعث الإمام إلى بعض أهله – فأنشده لاميته

ألا هل عم في راية متأمل     وهل مدبر بعد الإساءة مقبل

فكثر البكاء حوله... ثم رفع أبو عبد الله يديه، وقال: اللهم أغفر للكميت ما قدم، وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتى يرضى...

ويقول صاعد(مولى الكميت) دخلنا على فاطمة بنت الحسين، فقالت: هذا شاعرنا أهل البيت وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها ودفعته إليه فشربه، ثم أمرت لـه بثلاثين دينارا ومركب، فهملت عيناه، ثم قال: لا والله إني لم أحبكم للدنيا(10).

واسمحوا لي ان أشير بشكل سريع إلى مسألة تستحق كثيرا من الدراسة هي أن الكميت عرف في كتب الأدب والتاريخ بأنه شاعر الشيعة، وأنه فقيه الشيعة... نعم، هذا صحيح، ولكننا يجب أن لا نفهم ذلك على أساس الافتراق القائم اليوم ـ مع الأسف ـ بين السنة والشيعة. كان الشاعر شيعيا لأن ولاءه لم يكن مع آل أبي سفيان، ولم يكن من شيعة بني أمية، بل كان ولاءه مع آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان التقابل يومئذ بين شيعة علي وهم الذين يرفضون كل انحراف عن القرآن والسنة، وبين أصحاب مصالح الحكم الذين سعوا لتحريف الدين وفق مصالحهم.

من هنا فان الشاعر هو بمفهومنا اليوم شاعر كل المدافعين عن القرآن والسنة، شاعر المسلمين جميعاً.

ـ(158)ـ

آراء الكميت في السياسة والدولة

هاشميات الكميت كلها سياسية سواء ما كان منها مدحا لرسول ولآل بيت رسول الله، أو ما كان منها رفضا لنوع من الحكم، أو تأييداً لنوع آخر من الحكم.

ولقد مر بنا مدحه لرسول الله وآل بيته وما ينطوي عليه هذا المدح من جانب سياسي يعني ان الحكم يجب ان يستند إلى القرآن والسنة.

ونذكر هنا نصوصا أخرى توضح نوع النظام الإسلامي الذي يتوق إليه هذا الرجل الذي قبل عن مبلغ علمه أنه «خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان.. وهو أول من ناظر في التشيع مجاهرا بذلك»(11).

وعن مبلغ شعره قال عنه اللغوي الناقد معاذ الهراء. «ذاك أشعر الأولين والآخرين»(12) والفرزدق بعد ان سمع بائيته:

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب     ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب قال لـه وهو آنئذ صبي: «أنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقى»(13).

من هذه الشهادات ومن مكانته الاجتماعية والدينية ـ حيث التقى الأئمة علي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليه السلام وأكرموه ودعوا لـه – نستطيع ان نفهم أكثر أهمية النصوص التي ننقلها عنه(14) في المسألة السياسية الإسلامية.

 

صفات الحاكم الصالح في أشعار الكميت

رأى الكميت في أئمة آل البيت مثله الأعلى في الحاكم الصالح. فيصف الإمام الحق:

1ـ بالشجاعة، وبقدرته على اتخاذ الموقف المدافع عن مصالح الأمة دون ان تأخذه في الله لومة لائم، يقول:

ـ(159)ـ

أسد حرب غيوث جدب بهاليل مقاويل غير ما افدام... وهم الآخذون من ثقة الأمر بتقواهم عرى لا انفصام والمصيبون والمجيبون للدعوة والمحرزون خصل الترامي ويقول متمنيا تولي هذا الحاكم الشجاع المقدام:

بمرضيّ السياسة هاشميّ     يكون حيا لأمته ربيعا

وليثا في المشاهد غير نكس     لتقويم البرية مستطيعا

يقيم أمورها ويذب عنها     ويترك جدبها أبدا مريعا

2ـ يصفه بقدرته على هداية الناس إلى جادة الصواب، وجمعهم على الحق، وبدونه فإن الناس يتفرقون مذاهب شتى، وتشط بهم السبل، ويتشتت أمرهم، يقول واصفا حالة الأمة بعد أن فقدت عليا:

راعيا كل مسجحا ففقدناه     وفقد المسيم هلك السوام

نالنا فقده ونال سوانا     باجتداع من الأنوف اصطلام

وأشتت بنا مصادر شتى     بعد نهج السبيل ذي الآرام

ويقول واصفا الأئمة الصالحين:

وانهم للناس فيما ينوبهم     مصابيح تهدي من ضلال ومنزل

لأهل العمى فيهم شفاء من العمى     مع النصح لو أن النصيحة تقبل

3ـ يصف من يرى فيهم المثل الأعلى في الساسة بالعلم والتقوى، وهو من مستلزمات الهداية:

راجحي الوزن كاملي العدل في السيرة طبيّن بالأمور العظام

فضلوا الناس في الحديث حديثاً     وقديما في أول القُدّامِ

ويقول:

وان هاج نبت العلم في الناس لم تزل     لهم تلعة خضراء منه ومذنب

ـ(160)ـ

صفات حكام السوء

وإنشاده في حكام السوء أكثر، لأنه أقدر على مخاطبة عواطف الأمة المسحوقة تحت وطأة هؤلاء الحكام، ولذلك تكثر هاشمياته من ذكر سيئاتهم، وتعسفهم، وظلمهم وكل هذه الصفات تلقي الضوء من جهة أخرى على مفهوم الحاكم الصالح لدى الشاعر.

يصف الساسة المتحكمون في زمانه بأنهم:

1ـ يستهينون بالناس، ولا يرون لافراد الأمة عزة وكرامة، بل يسوقونهم كما تساق الأنعام، فهو حين يتحدث عن «الساسة» الحقيقيين، يقارنهم بالساسة الحاكمين فيقول:

ساسة لا كمن يرعى الناس     سواء ورعية الأنعام

لا كعبد المليك أو كوليد     أو كسليمان بعد أو كهشام

رأيه فيهم كرأي ذوي الثلة في الثائجات جنح الظلام جز ذي الصوف وانتقاء لذي المخة نعقا ودعدعا بالبهام

2ـ يمتصون دماء الناس، ويستأثرون بالأموال لأنفسهم دون أي اهتمام بمعاناة الفقراء يقول:

تحل دماء المسلمين لديهم     ويحرم طلع النخلة المتهدّل

وليس لنا في الفيء حظ لديهم     وليس لنا في رحلة الناس ارحل

فيارب هل إلا بك النصر يرتجى     عليهم وهل إلا عليك المعول

فلا يشبع من الناس إلا من ركن إلى هؤلاء الحكام الظلمة، وليس مصير من ينحاز عنهم إلا الجوع، ويعبر عن هذه الحقيقة فيقول:

فكيف ومن إني وإذ نحن خلفة     فريقان شتى تسمنون ونهزل

ويقول:

أجاع الله من أشبعتموه     وأشبع من بجوركم أجيعا

ـ(161)ـ

3ـ لا يهتمون بإرادة الأمة في انتخاب الحاكم، بل يفرضون أنفسهم، ويأخذون البيعة قسرا، يقول:

بحقكم أمت قريش تقودنا     وبالذ منها والرديفين نركب

إذا تتعضونا كارهين لبيعة     أناخوا لأخرى والأزمة تجذب

ردافاً علينا لم يسيموا رعية    وهمهموا ان يمتروها فيحلبوا

4ـ يثيرون الفتن في المجتمع، ليشغلوا الناس بها وليواصلوا أسيطرتهم المقيتة على المجتمع، يقول:

لينتتجوها فتنة بعد فتنة     فيفتصلوا افلاءها ثم يركبوا

ويقول:

إذا شرعوا يوما على الغي فتنة     طريقهم فيها عن الحق انكب

ويقول:

الحوا ولجوا في بعاد وبغضة     فقد نشبوا في حبل غي وانشبوا

تفرقت الدنيا بهم وتعرضت     لهم بالنطاف الآجنات فأشربوا

5ـ يعطلون أحكام الله سبحانه، ويبتدعون تشريعا وفق أهواءهم، ليمسخوا هذا الدين المبين كما مسخت الأديان الإلهية السابقة يقول:

وعطلت الأحكام حتى كأننا     على ملة غير التي نتنحّلُ

ويقول:

لهم كل عام بدعة يحدثونها     أزلوا بها اتباعهم ثم اوجلوا

كما ابتدع الرهبان ما لم يجيء به     كتاب ولا وحي من الله منزل

6ـ يسلطون الجهلة والحمقى على الحكم، كي يوطدوا لهم السيطرة على الأمة، ويحلبوا لهم درها، ويسومونها سوء العذاب:

كأن كتاب الله يعني بأمره     وبالنهي فيه الكودني المرّكل

ـ(162)ـ

الم يتدبّر آية فتدّله     على ترك ما يأتي أم القلب مقفل

فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم     فحتى م حتى م العناء المطول

رضوا بفعال السوء من أمر دينهم     فقد ايتموا طورا عداء واثكلوا

كما رضيت بخلا وسوء ولاية     لكلبتها في أول الدهر حومل

نباحا إذا ما الليل أظلم دونها     وضربا وتجويعا خبال مخبل

ومشكلة الحاكم الظالم لا تقتصر على الحاكم وحده بل أنها مشكلة الأمة بالدرجة الأولى... الأمة التي رضخت لهذا الظلم واستكانت للظالمين، كل ذلك على أمل استدرار خسيس من العيش، واستدامة أيام من حياة الذل والعار. ويقول:

وعطلت الأحكام حتى كأننا     على ملة غير التي نتنحل

كلام النبيين الهداة كلامنا     وأفعال أهل الجاهلية نفعل

رضينا بدنيا لا نريد فراقها     على اننا فيها نموت ونقتل

ونحن بها مستمسكون كأنها     لناجنة مما نخاف ومعقل

أرانا على حب الحياة وطولها     يجدبنا في كل يوم ونهزل

نعالج مرمقا من العيش فانيا     لـه حارك لا يحمل العب ء أجزل

انصلح دنيانا جميعا وديننا     على ما به ضاع السوّام المؤّبل

ويحذر الكميت من المماطلات السياسية التي يبديها الحكام من اجل امتصاص نقمة الجماهير، فيحذر أهل مرو من الوعود التي قد يعرضها عليهم أسد أخو خالد القسري الذي تولى خراسان سنة 117 هـ، ويستحث الخراسانيين على الثورة، يقول:

ألا أبلغ جماعة أهل مرو     على ما كان من نأي وبعد

رسالة ناصح يهدي سلاما     ويأمر في الذي ركبوا بجد

فلاتهنوا ولا ترضوا بخسف     ولا يغرركم أسد بعهد

وإلا فارفعوا الرايا سودا     على أهل الضلالة والتعدي(15).

ـ(163)ـ

تلخيص واستنتاج

الكميت يعرض لنا بشعره وخاصة بهاشمياته صورة تكاد تكون متكاملة لأسس الحكم الإسلامي، وهي صورة لها قيمتها لأنها تعبر عن رأي الثائرين في القرن الأول وأوائل القرن الثاني في الحكم. وليس كل الثائرين في هذا القرن لهم نظرية متكاملة في الحكم والحاكم. الخوارج آنئذ لهم آراء أقرب إلى البداوة، ويلفها الغموض والتعصب الأعمى، واللجاجة والجهل. وبقية الأحزاب من زبيريين وغيرهم لا هم لهم إلا السيطرة على الحكم، وتبقى هذه المجموعة الموالية لأهل البيت. فهي ثائرة على أساس من هدى القرآن والسنة، ولها نظريتها الإسلامية في الحكم والحاكم. وتقوم على أساس احترام إرادة الأمة وكرامتها وعزتها وشخصيتها الرسالية. وهذا هو هدف السياسة الإسلامية والساسة المسلمين.

وكان علي عليه السلام يخشى دائما ضياع هذا الهدف، فيتسلط على الناس من يسحقوا كرامتهم ويستهينوا بحقوقهم، ويجرحوا عزتهم. يقول:

«ولكنني آسي ان يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا...»(16).

أساس الانحراف سيطرة السفهاء.. ونتيجة هذه السيطرة العبث ببيت مال المسلمين، والاستهانة بكرامة المسلمين، وتقريب الفاسقين، وأبعاد الصالحين. وأساس الحكم الإسلامي الصالح حكومة الصالحين، والعدل في توزيع الثروات، وحفظ كرامة الناس وعزتهم، وأبعاد الفاسقين، وتقريب الصالحين.

وعلى هذا الأساس فقط يمكن ان نعرف مدى قرب الحكم من الإسلام، لا على أي أساس ظاهري آخر.

ـ(164)ـ

الهوامش:

1ـ سيد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الشروق ط 6: 1410 هـ، ص 9.

2ـ نفس المصدر ؤ 13 ـ 14.

3ـ سيد قطب، في ظلال القرآن، ط 10، 1402 هـ دار الشروق، ص 11 ـ 13.

4 ـ النقد الأدبي: 39.

5ـ أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري، ط دار الزهراء، القاهرة 1409 هـ، ص 223.

6ـ ابن أبي الحديد، شرع نهج البلاغة 20: 489.

7ـ الموفقيات ص 576 ـ 577 ومروج الذهب 2: 454، وابن أبي الحديد 1: 463 وط. مصر تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم 5: 129 ـ 130. وكانت قريش تكني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أبا كبشة استهزا به.

8ـ أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، ط دار الكتب، 15: 125.

9ـ الأغاني، 15: 23.

10ـ الأغاني 15: 123.

11ـ البغدادي: خزانة الأدب 1: 99.

12ـ نفس المصدر 1: 100 الأغاني 15: 121.

13ـ الأغاني 15: 125، مروج الذهب 2: 153، أمالي المرتضى 1: 47.

14ـ نقلنا الأشعار من القصائد الهاشميات، طبعة مؤسسة الاعلمي في لبنان.

15ـ الطبري 5: 433.

16ـ الرسالة 62 من نهج البلاغة.