دراسة أسباب التقدّم والتأخر والفرقة في العالم الإسلامي

دراسة أسباب التقدّم والتأخر والفرقة  في العالم الإسلامي

 

 

دراسة أسباب التقدّم والتأخر والفرقة  في العالم الإسلامي

 

حسن بن علي السقاف القرشي الهاشمي الحسيني

باحث إسلامي من الأردن

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضوان الله تعالى على صحابته المتقين.

أما بعد:

فلابد أن يكون للعلماء جهود حثيثة في سبيل إنقاذ العالم الإسلامي مما يلاقي من تأخر وفرقة وشتات، فإن هذا الواجب موكول إليهم بحكم إدراكهم لحقيقة الأمور وما يجري في الساحة العامة، ولا يستطيع أحد حسب اعتقادي أن يقوم بهذه الوظيفة مهما أدعى وزعم إلا أن يكون فقيها عالما مجتهدا، ولذلك فإننا نرى هذه الكارثة واضحة متجلية في ساحة أهل السنة والجماعة رغم وجود كثير من الأفراد والأحزاب التي تدعي أفراد أو جماعات بأنها هي المفكر والمحرر وهي التي تقود الأمة للنهضة والخروج من هذا الضياع !! وعبثا قامت محاولات عديدة وصار لها أعلام كبير أكبر من حجمها وعملها الحقيقي بكرات ومرات !! وأرجع ذلك إلى أن دعاة الفكر والتحرير والنهضة عندهم من أبعد الناس حقيقة عن العلوم الشرعية المستندة لدلائل المعقول والمنقول.

ـ(128)ـ

بينما لا نجد هذا أو هو أخف مما يعانيه أهل السنة عند بقية مذاهب الأمة أو فرقها الأخرى الموجودة في الساحة اليوم كالشيعة والزيدية والأباضية.

وإنني أرد الأمر هنا إلى قوة التأثر بالاستعمار الفكري أكثر من غيرهم من المذاهب الأخرى التي ذكرناها حتى انقلبت المقاييس عندهم فصارت شهادات الدكتوراه الخارجة من الجامعات ـ المهيئة لتلقي العلم على الطريقة الأوروبية ـ هي المقياس العلمي الذي يقيم الإنسان به هل هو عالم أم لا؛ وهذا خلاف غيرهم من الفرق إذا لا يعتدون إلا بقيمة الإنسان العلمية الحقيقة، ونحن لا نتكلّم على الأمر من ناحية النظر إليه من جهة التعيينات الحكومية أو الوظيفة الرسمية فحسب بل أيضاً من جهة اعتباره عند الأفراد وطبقات المجتمع.

فالعلم أولا في الإسلام بشكل عام هو المشتغل بفنون الشريعة تلقياً من العلماء والأشياخ وبحثا في الكتب والمصنفات لغاية التعلم وطلب رضا المولى سبحانه لا لقصد وظيفة أو رتبة أو معاش يتقّوت به، وهذا موجود اليوم وباق ولو بنسب مختلفة عند فرق الإسلام جميعها، فلو قلنا بوجوده عند أصحابنا فهو ضعيف جدا ولم يسر على هذه الطريقة المنيفة إلا أفراد قلائل.

ثم أن مما زاد الأمر تدهوراً كما يقال وزاد في تسبيب التأخر والفرقة في العالم الإسلامي أن كثيراً من المسلمين قد مالوا سواء العامة والعلماء إلى التقليد ونبذ الاجتهاد والعقل الذي هو مناط التكليف الشرعي وأساسه فصارت نسبة استخدام العقل والنظر ضعيفة جدا أو معدومة عند البعض وإذا ادعاها بعضهم فإنما هو نظر واجتهاد وأعمال العقل في الاستنباط من أقوال العلماء لا من النصوص الشرعية مع عدم الإحاطة بالوجه المطلوب بنصوص الكتاب وعدم معرفة تنقية السنة ومعرفة صحيحها من ضعيفها سواء بالنظر إلى الإسناد أو المتن جميعاً، وهذا هو التقليد بعينه الذي لم يخرج صاحبه من دائرته وهو يتوهم في نفسه الاجتهاد والمعرفة والنظر

ـ(129)ـ

والكمال !!

بينما نجد الفرق الثلاثة الأخرى يستخدمون العقل الذي نبه الشارع عليه في غير ما آية ويعملونه بنسبة كبيرة.

فصار الأمر إلى أن يقود الناس الجهلاء الذين يأنفون من التعلم؛ ويكرهون من يصوبهم ويرشدهم ويحاورهم ويناقشهم، وهم يريدون السيادة والرئاسة والتقدم على الموافق والمخالف!! فكيف إذا انضاف إلى ذلك الكبر والجشع والحرص على جميع الأموال والتعلق بأسباب الدنيا والأعراض عن كثرة الذكر وتهذيب النفس وصقل الروح؟!!

بل الحق والحق أقول ان من يدعي صقل أرواح المريدين وتربية السالكين والسير على منهاج الصوفية العارفين يحتاج إلى سنين عديدة وأساتذة كثيرين ليصقل نفسه من رعوناتها ومن اعتدادها بالذات المفلسة المفتقرة إلى التواضع والانكسار وتحمل الأذى؛ بل تعدى الأمر إلى بعض المريدين أو المتعالمين الذين لا تقبل نفوسهم الاعتراف بالخطأ أو الاعتراف للغير بالعلم والمعرفة والإقرار على أنفسهم بالعجز والقصور والحاجة إلى التعلم والتواضع.

فتصرف القوم وتركيبهم الفكري والعقلي في نظري من أعظم أسباب التأخر والفرقة في العالم الإسلامي ويتلخص سبب ذلك في:

1ـ جهلهم أو قل عدم تفقههم في أحكام الإسلام وبمذهبهم خاصة فضلا عن مذهب غيرهم مع قلب معايير العلم الشرعية التي تقدمت الإشارة إليها، فإننا نجد كثيراً ممن يسمون بالعلماء فضلا عن العامة الدهماء يجهلون كثيرا من بديهيات أمور الإسلام، فكم ناقشنا أشخاصا من عامة مجتمعنا في مثل قضية حرمة الربا وفي مثل مسألة تحريم الخمر أيضا حيث أدعو أنه لم ينزل في تحريم الخمر آية وإنّما قال في الآية «فاجتنبوه» ولم يقل حرمت فعلى هذا لم تحرم بنظرهم!! هذا فضلا عمن يناقش اليوم

ـ(130)ـ

في هل يجب علينا ان نتعلم علم الفقه والعقائد أم لا؟ ! بل بالغ بعضهم فقال لا يجب علينا تعلم علم العقيدة والتوحيد وإنّما يكفينا قراءة القرآن ففيه التوحيد الخالص، مع أنهم لا يفهمون دلالات الألفاظ وهم عامة لا يتنبهون لمعاني النصوص ولا لخفايا الاستنباطات ولا يدركون أساليب العربية في الخطاب ولا أدل على ذلك من اعتقادهم لكثير من الأشياء على خلاف حقائقها في الواقع، وهذا ما تدعو إليه جماعات كثيرة !! وانتشر بينهم ان العلم الشرعي أمور خلافية يجب الابتعاد عنها !! صدق أو لا تصدق !! وبالتالي يزجر أفراد الجماعات عن الإقبال على العلم ليبقوا أداة سهلة يستطيع قادتهم ان يتلاعبوا بهم ويستغلوهم كيفما شاءوا !!

2ـ التقليد والابتعاد عن النظر وأعمال العقل، وبالتالي عدم قبول المحاورة والنقاش والاطلاع على مذاهب أخواتهم المسلمين الآخرين كالشيعة والزيدية(الفكر المعتزلي) والأباضية، ووجود الأفكار المخطئة الناشئة عن التقليد.

وقد أدى الانفتاح عند بعض أهل السنة أعني خروجهم إلى البلدان المختلفة والتقاءهم خارج بلدانهم بعيدا عن الحجر الفكري إلى التقائهم بأصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى ومحاورتهم والتعرف على كثير من الحقائق التي أصابوا فيها وإدراك بعض الأخطاء المنتشرة ! وقد لمست هذا في كثير من الشباب الذين ذهبوا للدراسة في دول أوروبا وأميركا والتقوا هناك بشباب الشيعة والأباضية والزيدية، وأحسست منهم الزحف إلى السلامة في التفكير والنظر.

ولما كان موضوعنا الخطير هذا طويل الذيل يحتاج إلى بسط وإسهاب وبيان والمقام الآن لا يستوعب هذا الإسهاب أحببت أن اجمع أطراف الحديث وابرز عناوين أسباب التأخر والفرقة، لاسيما والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها حتى في أوروبا وكذا في أميركا التي قارب عدد المسلمين فيها الآن الخمسة عشر مليون إنساناً ينتظرون تخطيطا دقيقاً يوجد مركزية علمية تجمعهم لإعطاء الثقة في الإفتاء والتعليم

ـ(131)ـ

والتبصير بشؤونهم.

وان من أعظم العراقيل التي تواجه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عندما يتوجهون إلى المساجد والمعاهد والجامعات لتعلم أحكام الإسلام والتفقه في الدين وأداء العبادات فتنفرهم وتذودهم أو تفتنهم وتضللهم هو فكر المجسمة النواصب الذي يرى كفر مخالفه ولو في أبسط مسائل الطهارة ويرمي بشرر فتنه وقلاقله في أغلب مساجد الدنيا ويشتري ضمائر الضعفاء من أشباه العلماء لتضليل الناس عن الصراط المستقيم والمنهج السوي !!

فإن الناظر في أصول الاعتقاد عند مذاهب أو فرق المسلمين يجد ويتحقق أنهم متحدون ومتفقون في أصول الاعتقاد ما خلا المجسمة الحنابلة والحشوية المشبهة وسيجد الناظر المنصف أن تلك الفرق لا يكفر بعضها بعضا بل يرى الجميع أنهم متفقون في الأصول وهذا مما يوجب التقارب والتواد والتراحم والتحالف والموالاة وأن اختلفوا في الفروع إلا طائفة المجسمة ومن تأثر بهم أو الخدع ببعض أفكارهم التي يلقونها هنا وهناك وينشرونها في كافة أصقاع الأرض !! فإنها ترى وجوب التفكير والتدابر والتقاطع والتهاجر والتنابذ وإعلان إنها هي الفرقة الناجية دون باقي أهل الإسلام الذين يشهدون أن لا اله إلا الله وأن سيدنا محمداً رسول الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون بيت الله تعالى من استطاع إليه سبيلاً.

وليس ببعيد عنا تلك الحوادث التي وقع فيها النزاع بين أفراد جماعات مختلفة عند أهل السنة حتى وصل الحال إلى الاقتتال ووصلوا إلى قضاة المحاكم النظامية فأصلح بينهما القاضي ناصحا لهم جميعا بأن هذه الخلافات لا تصح أن تكون بين المسلمين.

وفي القارات التي لا تعتبر من الدول الإسلامية وهي أوسع من الأقاليم والدويلات الصغيرة كأميركا يلاقي ما يلاقي فيها المسلمون من الفرقة والتنابذ والصراع المكشوف

ـ(132)ـ

الذي لا يستطيع أحد أن ينكره.

ويمكن لكل عاقل أن يحصر ما يجري بين المسلمين اليوم من عداوة وبغضاء في أمرين:

الأول: الاختلافات السياسية فيما بين البلدان والتي لا تتفرع عن اعتقاد ديني وإنّما أهواء نفسية ولو كان أصحاب الخلاف فيما منقادين لمبادئ عقائدية شرعية انقيادا وخضوعا للشرع لزال الخلاف وحل الوفاق والوئام، وعلى كل فهي ليست بين الشعوب حقيقة وان كان تأثيرها يحصل لبعض الأفراد وإنّما بين القادة ولا تلبث أن تزول بتصالح الدولتين، فهي غير متعمقة ولامتجذرة دينيا، ويمكن للمسلمين تفاديها إذا كانوا على مستوى رفيع من الوعي.

والثاني: اختلافات الأفكار والمذاهب العقائدية والفكرية وهذه هي التي تنتشر عدواها بين الشعوب وتسبب الأحقاد والفرقة والبغضاء واعتقاد كفر الآخرين، وهي التي يذكر نارها اليوم أعداء الإسلام وتنفق في سبيل تحقيقها الأموال الطائلة، وهذه هي الاختلافات العميقة المتجذرة دينيا والتي يحض مجسمة الحنابلة اليوم وينصحون بوجوب الهجر والرمي بالتبديع والتفسيق والتكفير !!

وتأصيل ذلك كأصول شرعية يجب سلوكها ومن أعظمها الهجر !! وأخطره هجر فكر المخالف وتضليل العامة وإفتاؤهم بعدم جواز الاطلاع على فكر المخالفين من بقية المذاهب الإسلامية أو قراءة كتبهم ومؤلفاتهم خوفا مما يسمونه بالاغترار والافتتان بهم أو الاقتناع بأدلتهم !! وهذه طريقة معارضي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والذين عرفوا حقيقة دعوة الأنبياء وتيقنوا من إفلاس أنفسهم من الحق فقالوا كما حكى الله تعالى عنهم في كتابه العزيز: ﴿... جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾(سورة نوح: 7). ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾(سورة فصلت: 26).

ـ(133)ـ

ومن غير الصواب قول القائل(يجب نبذ الفرقة والتباغض والشحناء ونسيان الخلافات) دور أن ينظر في حقيقة الخلافت ومعرفة من هو المصيب ومن هو المخطئ ومن هو المخالف في أصول الدين وما حكمه شرعا دون ان يقف مع المحق وينصره بما يستطيع ليطبق ويحق تنفيذ قول الله تعالى(فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله)!!

والذي اعتقده وانبه عليه هنا ان جميع فرق الإسلام الموجودة في الساحة اليوم ليس بينها خلاف أصلي في أسس الاعتقاد بل هي متفقة في أصول الاعتقاد ما خلا المشبهة المتمسلفين!! فانهم مخالفون للجميع في أصول الاعتقاد التي من أعظمها التنزيه لله تعالى فهم يصرحون بالتجسيم دون مواربة !!

وأن أعظم ما يشاع اليوم وتحاول أن تنشره وتغرسه في قلوب عامة المسلمين الجهات الساعية لتمكين الفرقة بين المسلمين وخاصة عند محاولات التقارب بين مذاهب المسلمين وفرقهم وأفكارهم حديث الافتراق الباطل سندا ومتنا الناص على أن جميع فرق الإسلام في النار إلا فرقة واحدة وهي أحد الحروب أو قل الإرهاب الفكري المتسبب في ابتعاد المسلمين من بعضهم وخوف القرب من الفرق الهالكة في النار حسب تصوير هذا الحديث الموضوع المصنوع!!

ولابد لي في هذا العجالة أن أتعرض لنقد هذا الحديث سندا ومتنا وأبين أن الاختلاف في الرأي والتفكير وبالتالي في مسائل الفروع ليس من موجبات التباغض والتدابر والفرقة واعتقاد ضلال الآخرين!!

 فأقول: أن نص حديث الافتراق هو: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» رواه احمد بن حنبل في مسنده(2: 332) وغيره.

وقد روي هذا الحديث من عدة طرق كما بينته بإسهاب في كتابي «من فكر آل

ـ(134)ـ

البيت صحيح شرح العقيدة الطحاوية» ص(629 ـ 634 ) واختصر ما ذكرته هناك في نقده على طريقة أهل السنة وحسب موازينهم الحديثية فأقول:

1ـ روي هذا الحديث عن أبي هريرة مرفوعاًَ وفي إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وهو ضعيف. قال يحيى بن سعيد ومالك: «ليس هو ممن تريد» وقال ابن حبان: «يخطئ» وقال ابن معين «مازال الناس يتقون حديثه». وقال ابن سعد «يستضعف»(1).

2ـ وروي عن معاوية مرفوعاً وفي السند أزهر بن عبدالله الهوزني أحد كبار النواصب الذين كانوا ينتقصون سيدنا علياً عليه السلام وله طامات وويلات. قال الازدي: يتكلّمون فيه وأورده ابن الجارود في كتاب الضعفاء(2).

3ـ وروي عن أنس بن مالك من سبعة طرق كلها ضعيفة لا تخلو من كذاب أو وضاع أو مجهول.(انظر كتابنا «صحيح شرح الطحاوية» حاشية 371 ص 629).

4ـ وروي عن عوف بن مالك مرفوعاً وفي سند روايته عباد بن يوسف وهو ضعيف أورده الذهبي في ديوان الضعفاء برقم(2089).

5ـ وروي عن عبدالله بن عمرو بن العاصي مرفوعا عند الترمذي في السنن(5: 26) وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الأفريقي وهو ضعيف(3).

6ـ وروي عن أبي امامة مروفاعاً عند ابن أبي عاصم في السنة(1: 25) وفي إسناده قطن بن نسير وهو ضعيف منكر الحديث(4).

7ـ وروي عن ابن مسعود مرفوعاً عند ابن أبي عاصم في سنته وفي سنده عقيل الجعدي. قال الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان»(4: 209): «قال البخاري منكر

_______________________________

1ـ انظر: تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني(9: 334) طبعة دار الفكر بيروت الأولى 1404 هـ.

2ـ انظر: تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني(1: 179).

3ـ انظر: تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني الترجمة رقم(3862).

4ـ انظر: تهذيب الكمال للحافظ المزي(34: 171).

ـ(135)ـ

الحديث».

8ـ وروي عن سيدنا علي كرم الله وجهه ممن رواه ابن أبي عاصم في كتابه السنة(2: 467 برقم 995) وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف جدا حاله معروف عندهم. قال ابن حجر في التقريب برقم(5685): «اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك».

هذا من ناحية إسناده وأما من ناحية متنه فنقول:

نحن نجزم ببطلان هذا الحديث سواء بزياداته أم بدونها، والتي منها «كلها في النار إلا واحدة» و«كلها في الجنة إلا واحدة» فبغض النظر عن هذه الزيادات نحن نقول بأن أصل الحديث باطل للأمور التالية:

1ـ لأن الله تعالى يقول عن هذه الأمة المحمدية في كتابة العزيز ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...﴾ ويقول أيضاً ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...﴾ فهذه الآيات تقرر أن هذه الأمة هي خير الأمم، وأنها أوسطها، أي: أفضلها وأعدلها، وأما هذا الحديث فيقرر ان هذه الأمة شر الأمم وأكثرها فتنة وفسادا وافتراقا، فاليهود افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ثم جاء النصارى فكانوا شرا من ذلك وأسوأ حيث افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، ثم جاءت هذه الأمة فكانت أسوأ وأسوأ حيث افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، فمعنى الحديث باطل بصريح القرآن الكريم الذي يقرر أن هذه الأمة خير الأمم وأفضلها.

2ـ ويؤكد بطلان هذا الحديث من حيث متنه ومعناه أيضاً أن كل من صنف في الفرق كتب أسماء فرق يغاير في كتابه لما كتبه الآخر، ولازالت تحدث في كل عصر فرقّ جديدة بحيث أن حصرهم لها غير صحيح ولا واقعي، فمثلا كتب الشيخ عبد القاهر البغدادي المتوفي سنة 429 هـ كتابه في الفرق وهو «الفرق بين الفرق» ذكر فيه ثلاثا وسبعين فرقة وقد حدث من زمانه إلى اليوم فرق أخرى ربما تزيد على أضعاف تلك الفرق التي ذكرها، وقول من قال ان ما استحدث من الفرق الجديدة لا تخرج في مبادئها

ـ(136)ـ

عما ذكره غير صحيح بل باطل، والواقع يرفضه ويثبت فساده.

3ـ أن هذا الحديث خاصة بزيادته التي يتشبث بها المجسمة والنواصب والتي هي «كلهم في النار إلا واحدة» مخالف للأحاديث الكثيرة المتواترة في معناها التي تنص على أن من شهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله وجبت لـه الجنة ولو بعد عذاب، ومن تلك الأحاديث ما رواه البخاري (3: 61: 1186 فتح): «أن الله قد حرم على النار من قال لا اله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» ولفظ مسلم (1: 63): «لا يشهد أحد أن لا اله إلا الله وإني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه».

والفرق المختلفة قليل منها يكفر ببدعته وأما أكثرها كالمعتزلة وغيرهم فإنهم لا يكفرون كما زعم بعض الناس حتى يستحقوا دخول النار لذلك نقل بعض الأئمة كالبيهقي وغيره إجماع السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة ومناكحتهم وموارثتهم (انظر مغني المحتاج 4: 135).

4ـ ان متن هذا الحديث مضطرب ففي بعض طرقه «إلا وأن هذه الأمة ستتفرق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء» رواه ابن أبي عاصم(69) وفي بعضها: «فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار» رواه ابن أبي عاصم(63) وفي بعضها: «لم ينجح منها إلا ثلاث» رواه ابن عاصم(71) وفي بعضها: «كلها في النار إلا السواد إلا الأعظم» رواها ابن أبي عاصم(68)...!!

وفي بعضها كما عند ابن حبان(15: 125) قال: «ان اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى على مثل ذلك...».

وتلاعب بعضهم في متن هذا الحديث أكثر فذكر في آخره: «من أخبثها الشيعة» وبعضهم قال «شرهم الذين يقيسون الأمور بآرائهم» يشير إلى الحنفية اتباع الامام أبي حنيفة، وفي بعض رواياتهم التالفة: «كلهم في الجنة إلا القدرية» وفي بعضها «إلا الزنادقة» وهكذا !! وكل ذلك كذب وافتراء على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

ـ(137)ـ

وإذ دق الباحث بالأخص وكذا القارئ والسامع في هذه الألفاظ واستعرضها جيدا فيمكن ان يعرف من أين جاءت.

5ـ وقد وقع في بعض روايات هذا الحديث: «كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا ومن هي يا رسول الله قال: ما أنا عليه وأصحابي» وهي رواية الترمذي(5: 26) من حديث عبد الله بن عمرو وفي رواية: «ما عليه الجماعة».

قلت: وهذا باطل من القول:

أولا: من جهة الإسناد فإنه ضعيف كما تقدم.

وثانياً: أن عبارة «ما عليه أنا وأصحابي» لا يعقل ان يصح صدوره منه صلّى الله عليه وآله وسلم لأمور أذكر واحد منها:

وهون أن الصحابة افترقوا في عهد رابع الخلفاء الراشدين سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه إلى ثلاث فرق، فرقة مع سيدنا علي عليه السلام وهي التي على الحق بنصوص الأحاديث الكثيرة المقطوع بها.

وفرقة قعدت ولم تناصر رابع الخلفاء الراشدين الذي هو إمام أهل الحق ولم تقاتل مع أحد من الفريقين وقد ندم أفرادها وهو قلائل على القعود بعد ذلك.

وفرقة مع معاوية وحزبه وهي الفئة الباغية بنص الحديث الذي رواه البخاري(1: 541) و(6: 30) ومسلم(4: 2235: 2915) والذي فيه:

«عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» وهذا لفظ البخاري في صحيحه.

فعبارة «ما عليه أنا وأصحابي» في حديث الافتراق مع أي فرقة من هذه الفرق الثلاث تكون؟ !

فالذي أقوله أخيراً: إن حديث الافتراق هذا الذي جعل المسلمين يتباغضون

ـ(138)ـ

ويتباعدون ولا يتقاربون ويعتقدون في مخالفيهم أنهم من أصحاب النار باطل سندا ومتنا !! ولبني أمية اليد الطولي في وضعه!!

أما موضوع الاختلاف والافتراق والفرقة: فمن المعلوم أن الاختلاف في وجهات النظر والاختلاف بين المذاهب والفرق في الفروع سواء أكانت في فروع الاعتقاد أم في الفقهيات والأمور الأخرى فهي لا توجب التضاد والفرقة والتنافر على التحقيق خلافاً لما يصنعه ويسلكه كثير من الناس اليوم حيث نجدهم يتحالفون مع أعداء الله تعالى ويتوادون ويتآلفون معهم والخلاف بيننا وبينهم خلاف أصلي في أصول الاعتقاد بينما نجدهم ينظرون إلى بقية إخوانهم المسلمين أنهم الأضداد والأعداد !!

وهذا أن دل على شيء فإنّما يدل أمّا على الجهل في الدين والمعتقد أو على تمكن الأهواء والشهوات في النفوس وحب الدنيا والتعلق بها أو كلا الأمرين !! نسأل الله تعالى السلامة.

قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه «المفردات في غريب القرآن»:

«الاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقاً غير الآخر في حالة أو قولـه، والخلاف أعم من الضد لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة».

قلت: والاختلاف منه ما هو جائز ومحمود، ومنه ما هو محرم ومذموم، وقد جاء ذكر كل من القسمين في القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة فلنذكر بعض النصوص التي وردت في ذلك:

أولاً: النصوص التي فيها تجويز الاختلاف ومدحه:

قال الله تعالى ﴿... فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(سورة البقرة: 213).

وقال تعالى ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾(سورة الحشر: 5).

ـ(139)ـ

وقد كان الصحابة اختلفوا في قطع الأشجار وهدم البيوت على بني النضير، فقطع قوم منها، وترك آخرون، قال الإمام الماوردي رحمه الله تعالى: أن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب.(نقله عنه القرطبي في تفسيره 18: 8).

وقال تعالى ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾(سورة الأنبياء: 79).

وكان كل منهما عليهما الصلاة والسلام قد خالف الآخر في حكمه فحكم بشيء مخالف للآخر.

وفي صحيح البخاري(2: 436) عن ابن عمر قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم فلم يعنف واحدا منهم، ومعلوم أنه لا يقرهم على باطل!!

وفي البخاري(9: 101 برقم 5062) عن عبد الله بن مسعود أنه سمع رجلاً يقرأ آية سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: «كلاكما محسن».

وروي البخاري(13: 318: برقم 7352) ومسلم (3: 1342: 1716) قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».

وهذا يدل أن العلماء المختلفين وهم المقصودون بقوله(الحاكم) وهو الفقيه المجتهد المؤهل للنظر يثاب سواء أخطأ أم أصاب لأن غايته الوصول للحق وأرضى الله تعالى، وهو وأن خالف المجتهد الآخر واختلف معه في حكم المسألة فهو مثاب

ـ(140)ـ

ومأجور رغم وقوع الخلاف بينهما في القضية!!

هذا وقد اختلف الصحابة وأكابر العلماء المتفق على جلالتهم وورعهم وعلمهم في مسائل كثيرة ولم يكن ذلك دالا باتفاق على أنهم كانوا على ضلال.

النصوص التي فيها تحريم الاختلاف وذمه:

قال الله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(سورة آل عمران: 19). وقال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(سورة آل عمران: 105).

وقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(سورة آل عمران: 103).

وروى البخاري(13: 251) ومسلم(2: 975) عن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ذروتي ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».

 

ضابط الاختلاف الجائز والاختلاف المحرّم:

نستفيد من قولـه تعالى ﴿... وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(سورة آل عمران: 19).

ان عنصر الفرقة المذموم ف الاختلاف هو البغي !! فإذا وجد الإخلاص والصدق، وخلا القلب عن البغضاء والحسد والظلم وحب الرياسة وإظهار التفوق والسيادة وحب قهر الغير، وكان القلب وضمير المرء مهموماً بخدمة الدين وإعلاء الحق والشفقة على المسلمين وأنصاف المظلومين وما إلى ذلك من العناصر المضادة للبغي كان الاختلاف جائزا بشرط أن لا يخرج عن إطار الشرع واللغة والضوابط المعروفة عند أهل

ـ(141)ـ

العلم، وإلا كان محرماً مؤدياً إلى محرم أكبر إلا وهو التفرق والشحناء والانقسام إلى شيع وأحزاب ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾(سورة المؤمنون: 52 ـ 54).

ومتى تبين للمسلمين بالعلم أو بالقرائن أن دافع المخالف اتباع الهوى أو الترخص لشهوة النفس أو الطمع في أمر دنيوي يضاد المقصد الأسمى الذي هو رضي الله تعالى، أو يضاد مبدأ خدمة الدين وحراسته وصيانته، أو أن المخالف بعيد عن حب الألفة والرحمة والمحبة لعباد الله والإجماع على طاعته ورضاه كان خلافه مذموما وكان صاحبه خاسر إلا يجوز الإنسان ان يوافقه أو يؤيده أو يسير معه أو يناصره.

وقد يختلف اثنان فيكون كل منهما مخطئ موزور، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾(سورة البقرة: 176). وقال تعالى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(سورة التوبة: 30).

فهذه الآيات واضحة في أن هاتين الفرقتين اختلفتا وأن كلا منهما على ضلال وكفر.

وقد يختلف اثنان فيكون أحدهما مصيبا على هدى والآخر مخطئا على ضلالة، قال الله تعالى: ﴿... وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾(سورة البقرة: 253).

وقد يختلف اثنان فيكون كل منهما على صواب وهدى كما تقدم من بعض الأدلة التي سقناها والتي منها إقرار النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للمختلفين في صلاة العصر في الطريق إلى بني قريظة وفي القراءة عندما قال عليه الصلاة والسلام: «كلاكما محسن».

ـ(142)ـ

ما هو المطلوب الواجب عند وجود الخلاف في الرأي والتنازع:

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(سورة النساء: 59).

معنى(أولي الأمر) في الآية هم العلماء الفقهاء، قال القرطبي في تفسيره(5: 259):

«قال جابر بن عبد الله ومجاهد(أولو الأمر) أهل القرآن والعلم وهو اختيار مالك رحمه الله، ونحوه قول الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين». وقال بعد ذلك أيضا:

«أمر الله تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة، ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا وامتثال فتواهم لازما»(1).

فلذا يجب شرعا على من رأي خلافا أن لا يعتزل الأمر وأن لا يبعد عنه، بل يجب عليه أن يعرف قول كل من المختلفين وأن يجتهد في معرفة الحق حتى يقولـه ويبدي رأيه فيه ويقوم بالإصلاح أن كان مطلوبا شرعا، فإن كان الحق مع أحد المختلفين وجب أن يناصره ويقف معه، وإذا كان الحق ليس معهما فيجب عليه أن يبين لهما الحق بأي وسيلة يراها ناجحة وصواب، ثم أن اذعنا للحق فيجب عليه أن يصلح بينهما.

والدليل على ذلك قولـه تعالى ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ولا يتم الصلح إلا بعد فهم القضية الدائرة بينهما ومعرفة الحق فيها، وبعد معرفة المحق من المبطل ﴿... فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...

___________________________

1ـ وانظر تفسير الفخر الرازي «مفاتيح الغيب»(مجلده جزء 10: 148) وما بعدها.

ـ(143)ـ

انظر كيف أمر المسلمين والمؤمنين أن لا يتركوا اقتتال الفئتين الناشئ عن اختلافهم بل أمر سبحانه بمحاربة الفئة الباغية ومناصرة المحقة منهما والوقوف معها وإرغام الباغية على الرجوع للحق وعدم ترك هذا الأمر على الدوام إلى حين رجوع الفرقة المخطئة ﴿... فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(سورة الحجرات: 9). أمر سبحانه بإزالة الشحناء والفرقة كما أمر بالرضوخ للحق وحمل الجميع على التحاب فيما بينهم وعلى الألفة إذا عادت الفئة الباغية ورضخت للحق، وفي هذا دليل واضح على ما ذكرناه وبيناه.

ولا يلزم من نصره المحق على الباغي الاجتماع بالأبدان إذ قد يتعذر ذلك لبعد المسافات وتنائي الأقطار والواجب من ذلك نصرة فكرة المحق وشرحها وبيانها للناس سواء بالخطابة أو بالتأليف والتصنيف أو بغير ذلك من الوسائل التي توصل صحة الفكرة للناس جميعاً.

(تنبيه مهم): وهنا نعرّج على ذكر بعض الظواهر الموجودة عند بعض المسلمين مما يتعلق بهذه المسألة فنقول:

أن من الجماعات والأحزاب اليوم من يحض على التنائي والابتعاد عند وجود الفرقة والاختلاف !! ويحتجون بأن الابتعاد والاعتزال هو الأسلم مع أنهم لا يعتزلون ولا يبتعدون عن كثير من الأمور الأخرى التي تحقق لهم منافع ومصالح ذاتية وفوائد شخصية لا تمت إلى المصالح الشرعية العامة بصلة من الصلات!!

وهذا مثل قولهم أيضاً في الأمور الفقهية ونحوها لحض الناس وخاصة اتباعهم عن الابتعاد عن العلم ليتم لهم قيادة الشارع الجاهل الغافل(هذه أمور خلافية والأولى الابتعاد)!!!

وكل ذلك مخالفة منهم في الواقع لأمر الله تعالى وما يجب على المسلم أن يفعله كما برهنا على ذلك في النصوص السابقة.

ـ(144)ـ

ويمكن تحليل أسباب ما يقترفه هؤلاء إلى عنصرين رئيسيين:

الأول: الجهل بأحكام الشرع الشريف فهم إذا تكلموا في المسالة المختلف فيها سينكشف جهلهم وعدم معرفتهم وضعف تفقههم بالدين وبأحكام الإسلام.

والثاني: حب القيادة والرئاسة مع العراء عن مؤهلاتها الشرعية!! وهذه شهوة دنيوية وحبائل شيطانية ومغالبة نفسية وهوى بحث مهلك لصاحبه وهو من أحد الأسباب الرئيسية لسقوط الأمة وتقهقرها وانهيار مقوماتها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال تعالى ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾(سورة الفرقان44).

وقال تعالى: ﴿... فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾(سورة النساء: 135). وقال تعالى: ﴿... وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾(سورة ص: 26).

وقال تعالى: ذاما رجلاً كان عالما في قومه فقال ﴿... أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ...﴾ سورة الأعراف: 176.

هذه هي أسباب الفرقة بين المسلمين اليوم يمكن تلخيصها بأمرين وهما:

الأول: الجهل المكنى عنه بعدم المعرفة بدينهم الحنيف.

والثاني: حب الدنيا، الذي تولد عنه الزهد الشديد في تعلم أحكام الإسلام والتفقه في الدين.

فإذا كان الإنسان جاهلاً بأحكام دينه غير منقادلها وكان حب الدنيا ومتاعها شغله الشاغل هان عليه محاربة إخوانه ومعادانهم ومدابرتهم ومقاطعتهم وكان من أبعد الناس هما عن التفكر دائماً في خدمة دينه وفكره ومبادئ الإسلام السامية !!

بل هناك فريق ممن يتسمون بالعلماء في المجتمعات العربية الإسلامية ذات الثقافة الإسلامية الضعيفة يسعون دوما لإحباط أي جهد أو عمل يتضمن نشر العلم والرد على

ـ(145)ـ

المخالفين وأبطال شر المفرقين أو كشف خططهم وضلالهم !! لاسيما وكثير منهم للأسف الشديد ليست لديهم خطة عمل ولا أمامهم برمجة لخدمة عملية حقيقية للإسلام في هذا العصر وهم بحاجة ماسة للتوعية بما يدور حولهم من هنا وهناك !! فترك بهذا الحال ضبط جهلاء الوعاظ وأئمة المساجد والخطباء والكتاب ومحققو كتب السنة بالأخص وهم البعيدون عن الفقه والأصلين(التوحيد وأصول الفقه) يعيثون بالعامة في مشارق الأرض ومغاربها كما جاء في الحديث الصحيح: «حتى إذا لم يبق علماء اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضّلوا وأضلوا» !!(1).

وأن من أكبر الأسباب المؤدية لإزالة هذه الظواهر السيئة وإزالة الفرقة أمران:

الأول منهما: هو بث الوعي بين المسلمين وخاصة السعي في توعية السنيين ليدركوا حقيقة الأمر وأن باقي فرق الإسلام كالشيعة والزيدية والأباضية والمعتزلة هم إخوانهم الذين قال الله تعالى عنهم ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(سورة الحجرات: 10).

والثاني: بذلك الجهود المكثفة لإيقاف نشاط الجهة التي تسعى لزيادة عمق الخلاف والتي تسعى لإقناع باقي المسلمين بضرورة وجوب تباعد أهل السنة من باقي الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى وخاصة في المجال الفكري في جميع إنحاء العالم؛ والاسترشاد أو التعاون مع المختصين في تتبع تحركات الجهة المفرقة وما تطرحه كل يوم من أفكار وقضايا ومسائل.

___________________________

1ـ لفظ الحديث كما في الجامع الصغير للحافظ السيوطي: «إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقيض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» رواه احمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم.

قال العلامة المناوي في «فيض القدير»(2: 274):

(وفي الباب عن أبي إمامة أيضاً وزاد فقال العرابي: يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخدمنا؟! فرفع رأسه صلّى الله عليه وآله وسلم وهو مغضب فقال «هذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يتعلموا منها فيما جاءهم أنبياؤهم». فأفاد أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لا يغني من ليس بعالم شيئاً».

ـ(146)ـ

وإنني اقتراح القيام بعدة أمور لتخفيف هذا الأمر وتخفيف ظاهرة الفرقة المؤدية للتأخر في العالم الإسلامي من أهمها:

إنشاء مركز علمي يهتم بتوجيه الدعاة ويزودهم بالمعلومات ويقوم بنشر القضايا المهمة التي تبعث على إيجاد الوعي في عقلية المسلمين عامة وأهل السنة خاصة لأنهم من أكثر الفرق حاجة إلى الوعي والإدراك بنظري.

ومن جهة أخرى يقوم بمعالجة أفكار الجهة المفرقة سواء العقائدية أم الفقهية أم غيرها.

ويشكل هذا المركز الذي يحوي علماء أكفاء من جميع المذاهب الإسلامية غير متأثرين بالتيارات والضغوطات السياسية ثقة المسلمين في جميع أنحاء العالم بنواة من العلماء يمكنها إشباع المسلمين من الناحية العلمية الشرعية وإفتاءهم في مشارق الأرض ومغاربها بالنوازل الواقعة لهم وتوحيدهم في كثير من الأمور مثل الصيام والإفطار، فإن المسلمين الواعين في جميع المذاهب الإسلامية متعطشون جدا إلى مثل هذه الجهة فإن الأمور العلمية الفكرية تشغل أناسا كثيرين يقصرون عن إدراك الحقائق بأنفسهم لخلوهم عن آلات الاجتهاد الكاملة والوعي الفكري الدقيق وأدوات الاستنباط الخفية، وتحقيق ذلك ليس ببعيد إذا شمّر إليه أهل الشأن من العلماء وتيسرت لـه ميزانية خاصة ترصد لتحقيق هذا الهدف السامي، أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً ويأخذ بأيدينا إلى ما يحبه ويرضاه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.